السريالية بين الحلم والنفس والإبداع الفني

لما كانت السريالية مدرسة فنية قائمة وفق منهج المتناقضات وتغص بالمتناقضات واللامعقول, وبين ممارسة الفعل ورفضه والجمع بين المتناقضات, بين السالب والموجب بين الحب واللا حب, بين الحب الموجب القائم على الإخلاص, وبين الحب السالب القائم على الاستحواذ والسادية والمازوخية والاباحية, بين الأمل واليأس بين المعقول واللامعقول بين القبول واللا قبول, ويمضون باستمرارية الحياة, قبولا بهذا الواقع الذي يعيشون فيه، في وقت الذي تملئهم مشاعر التمرد والسخط من الواقع ذاته، ويمضون مسيرة حياتهم قدما على هذا التناقض،

محيط متناقض مليء وقائم على المتناقضات, في وقت الذي لا يقدموا أية حلول لهذه المتناقضات كونها معطيات التي يتميز بها الإنسان وما يخفى في أعماقه السحيقة، وهم يرغبون بكشف ما هو خفي في هذه الذات التي تملئها متناقضات.

السريالية وتحرير الذات

ومن هنا فان السرياليون يمضون قدما لتحرير الذات من ضغوطات الحياة ومن تناقضاتها ومن قوالب الفكر والضمير المراقب، ليبتعدوا كل الابتعاد عن قواعد الالتزام اللغوي القائم على العقلانية والأوزان الشكلية في بناء لغة الكتابة أو الرسم أو إيه قوالب منهجية للفن والأدب والانطلاق نحو صيغه الأحلام.

وما تورده الخواطر الصدفية بتعبير حر وفق ما تمليه دوافع النفس وما تفوح منها الانبعاث المتولدة من أعماق الذات بإشراقها الصدفية دون إخضاعها لرقيب العقل ودون إن تكون له أي دور في تنقية ما يورد من الأعماق لتتجلى حرية التعبير عن الأفكار عبر المصادفة العشوائية لما يقع إمام الإبصار وبما يمكننا تأويل له معنى بالمصادفة ليس لا.

وفي هذا المعنى يقول (اندريه بريتون) مؤسس السريالية(( من ممكن وضع عنوان لقصيدة (ما) من خلال تركيب عشوائي لمقاطع او من اختيار عناوين من أية جريدة يومية صادره او مجلة ..)) ولكن هنا يوضح السرياليين بان هذه الصدفة يجب إن تقارن بالصورة الجمالية التي تعطيها لمعنى من خلال هذا التركيب العشوائي الذي لا يجمع بينهما أية علاقة، ولكن لنعلم بان مثل هذا الفعل قد لا يعطي أية قيمة جمالية ما لم تدب الحياة فيه فيعطيه بعدا نلتمس منه جمالا أخاذا بكونه يدب فيه الحياة، والجمال الذي لا يثير، مبدئه مرفوض في السريالية،.

بكون السرياليون يركزون في تقديم الجمال الذي يثير فينا القشعريرة كما يقول (اندريه بريتون)، فالانفعال القائم بين الشكل والمضمون أو بين الروح والجسد، هو صورة الأقرب من الانفعال (الايروس) لا يقبل الاختزال (الشبقي) للعاطفة في الفن السريالي وخاصة وتحديدا باتجاه (المرأة) بكون مكانتها عندهم بمثابة الإله المحفز للانفعال، والتي تقدم في إعمالهم.

إبداع السرياليون

وهكذا فان السرياليون يمضون في القول عن إمكانية تأليف وابتكار إبداعات فنية عبر اللاوعي والتعبير عن أفكار مدفونة في الذات، فيحاولون تنفيس عنها عن طريق الكتابة التلقائية، حيث يكتبون بكل ما يخطر في خيالهم من مفردات وجمل قريبة من اللاوعي فيعبرون عن الأحاسيس والمشاعر في عقلهم الباطني بكون السرياليون يبحون عن المشاعر المدفونة في العقل الباطني للإنسان.

كما تأتي بكل عفوية وتكتب او ترسم على نحوها دون إجراء أي تعديل أو تنقيح عليها متأثرين بأطروحات علم النفس وتحديدا طريقة التحليل النفسي الذي طرحة (سيجموند فرويد) في كتاباته النفسية، ومن خلال ذلك توجه الفنانون اهتماماتهم بالأحلام والأفكار الموجودة في العقل الباطن ومدى علاقة وتأثير العقل الواعي باللاوعي.

الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية

ومن هنا تنطلق السريالية معتمدين على التحليل النفسي في تحليل كل ما يتعلق بالإنسان ومحيطه إضافة إلى تركيزهم في التحليل على الأحلام واعتمادهم على قدر كبير بين اختلاط الأحلام مع الواقع و الوعي والتركيز على ما هو متناقض وغريب والأتي باللاشعوري والتعبير عن الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية، لتأتي لوحاتهم السريالية بصورة تلقائية معتمدين التعبير على اللون عما هو يأتي من خلال الأفكار اللاشعورية ومن خلال التركيز عما يوحي بهم أحلامهم.

فتاتي إشكال المطروحة في اللوحات السريالية وحتى قصائدها في تركيبات غريبة لأجسام وإشكال غير مترابطة في وقت ذاته لتخلق إحساس بعدم الواقعية، بكون الفنان اعتمد صياغتها على اللا شعور، لتزخر الإعمال السريالية بمضامين لا حدود لها معتمدين على المضمون رغم أنهم يتقون إشكال في غاية الدقة والتعبير وخاصة الإشكال الرمزية لتحمل إعمالهم مضامين فكرية وفلسفية تحتمل التأويل بشتى مضامين، لتثير الانفعال في ذات المتلقي الذي يحاول تفسيرها حسب ثقافته وانفعالاته.

لان الفنان حينما يطرح عمله فهو يخفي بين إشكال و رموز المطروحة حالات نفسية باطنية قد تظهر ولا تظهر نتيجة التمازج البصري الذي يحاول الفنان ابتكاره لاستقطاب أكثر من معنى في رسم الرموز باتجاهات مختلفة، وهذه الطريقة في التعبير تأتي تلقائية عن طريق التفكير الأتي من الأحلام دون رقابة من العقل بكون السريالية تنطلق من إيمانها بقدرات الكلية للحلم وبالتفكير المنزه من أي غرض.

وبذلك تلغي أي دور للأولويات الذهنية الروحية لتحل محلها حل صيرورة المعضلات الحياة الواقعية ليكون اتجاه السريالية وفكرته الجوهرية في اتجاه التغير وتحويل كل شيء إلى نقيضه، باعتبار بان كل شيء يجمع في جوهرة كل المتناقضات، ومن هنا فهي تسعى إلى الأحلام أو إلى ما فوق الأشياء لاكتشاف ما في باطنها.

التناقض السريالي

وهذا هو التناقض السريالي المعروف عنها حيث العلاقات العادية تصبح متضادة ومقلوبة، بكون السريالية جاءت لتقويض النظام الواقع البشري إلى اللاواقع وهذا هو تناقض بعينه التي سارت في ظلاله السريالية كاتجاه لتناقضات ومنفذ لتعبير عنها، بكون حسب السريالية ليس مهمة الفن وإبداعه إفهام الآخرين وإقناعهم، وإنما مهمة الفن هي التشويش وتغير قناعات الإنسان من خلال فن يزلزل ويدمر كل ما هو عادي ومألوف ومتواطئ ومتماثل في الواقع، والمضي قدما في الهدم والسخرية والاحتجاج والتمرد، ولا يتم هذا إلا بتحرير الإبداع الفني من سلطة قوانين العقل والأخلاق السائدة وتحرير العقل من الالتزام وضوابط المنطق والعقائد والأخلاق واعتبار اللاشعور مصدر رئيس في كل شيء من اجل تحرير الإنسان من كل ضوابط التي تعيق حريته.

ومن هنا نستطيع القول بان هذا الطرح الذي قدمته السريالية يعتبر فعلا ثورة فكرية وسياسية وجمالية على ضوء ما أحدثته ثورة الانجازات الفكرية في التحليل النفسي الذي فجره علم النفس والذي كان له الفضل في بروز وظهور السريالية ليمارس هذا الفن دوره في تفجير ثورة تواكب رغبة الإنسان في التمرد على واقعه الذي دمر بحروب شرسة هزة أركان العالم في مطلع القرن العشرين والحقبة التي تلت بعدها حيث رغبة في تغير العالم أخذت تعشش في كل النفوس فأخذت السريالية بعدها في رسم معالمها في سياق اقرب إلى الفوضوية والعدمية ولابتعاد عن القضايا العامة.

التمرد السريالي

ولتمضي قدما للممارسة العابثة التي تمجد ذات الفنان وتمرده على كافة القيم، ولكن تمرد السريالي هذا لا يكون بالتمرد على ذاته بل بما يخدم الفن ويضع الفن هذا في خدمة الثورة، ومع أنهم أدركوا بأنهم بهذا العمل لا يقدمون شيء جديدا بقدر ما يقدمون تفسيرا جديدا لإعمالهم الفنية والذي يكمن في الحلم و النفس والعمل الفني.

وهكذا تتضافر الحبكة عندهم بين الحلم والروح والعمل الفني لعملية خلق الإبداع الفني بعد إن تتضافر الإشكال مع بعضها البعض لتعطي الروح في انسياقها نحو الأحلام وكأنها تتحد في صيرورة المكان والزمان حيث هنا تتضارب صورة أحلام اليقظة مع الأفكار والجنون مع الامتثال لسلوك الواقع الاجتماعي، ومن هنا يمكننا القول بان صور الإشكال في العمل الفني السريالي هي نفس الصور في إشكال الأحلام، ومن هنا فان الحلم عند السرياليين هو جزء من الحياة وان لم يكن جزءا من الواقع.

هكذا تفهم السريالية ونفهمها بكونها فن الحياة المعاصر.

أضف تعليقك هنا

فواد الكنجي

كاتب عراقي