قصة: نحن نحتاجك يا أبي!

نحن نحتاجك يا أبي!

الساعة الثالثة عصرا من يوم الجمعة في أحد السنوات المنسية، مطرٌ غزير يدق على النوافذ، صوت الريح يهز أبواب الغرفة بعنف، في بعض الأوقات يسرق الرعد صوت المطر، مصباح أصفر متقطع في غرفة حل الظلام عليها، خمسة أطفال يلعبون في تلك الغرفة، منهم من يشتم والآخر يبكي وذلك الطفل في زاوية الغرفة يضحك.

ظهر فجأة صوت أعلى من صوت المطر أعلى من صوت الرعد وصوت ضحكة محمد، صراخ يتردد في أذني إلى ألآن، تلك الطفلة البالغة من العمر ثلاث سنوات مستلقية على الأرض، تصيح والرعب يهطل على وجوهنا، والدتها تخلع الملابس عنها بسرعة البرق! بجانبها وعاء ملقى على الأرض يخرج منه بخار، ماء منسكب في كل مكان، رائحة لحم مشوي لم أشمه منذ زمن، تتلوه رائحة شعر محروق!

وجه تلك الصغيرة أصبح كلون الجمر في الكانون الموجود في أخر الممر، الأم تحتضن ابنتها المغمى عليها بعد أن غطت جسمها بقطعة قماش وتمتمت: ماذا سأفعل كيف أتصرف، وتصرخ فجأة أين أباكم! صوتها خرج بشق الأنفس، جلست عاجزة لا حول لها ولا قوة، ونحن أطفال لا حول لنا ولا قوة. وما زال أبي يعتقد إلى اليوم أن وسائل الاتصال ليس لها أهمية كبيرة في حياتنا! .

انتماءاتي المهجورة أنتمي إلى رائحة قهوة أمي في كأس من الزجاج على شرفة مطلة على سنابل القمح الذهبية

بدأت التساؤلات تتزاحم وأفكاري تكاد أن تنفجر، ذهبت إلى سريري لأجد إجابة لهذا التساؤلات. أنا إلى ماذا أنتمي؟ ، ولكن حال اليأس كاد أن يقتلني من هذا الواقع البائس، وضعه الحزين المنسي، فسرحت في عالمي وخيالي، وبدأت أحلامي بالتناثر.

حلمت أني أنتمي إلى أرض جدي التي أحتلها الاحتلال الإسرائيلي في 48 و67 وتوفي جدي وهو يحلم بقطف ثمار البرتقال والعنب والموز، انتمي إلى البحرين الأبيض والأحمر وشواطئها التي أتمنى أن تلامس مياههما ورمالهما جسدي الجاف، أنتمي إلى كل أسير قابع خلف القضبان ودموع والدته تنهمر قهرا واشتياقا له، انتمي لدرويش وجبران وكنفاني وجبرا وطوقان ولكل حرف كتب لهما، أنتمي للأقصى والإبراهيمي والمهد والقيامة والى كل مصلي فيهم، انتمي إلى السوسن وشقائق النعمان والنرجس والأقحوان والياسمين في كل جبال الوطن، انتمي إلى الموارد المعدنية من حديد ونحاس ويورانيوم في النقب، انتمي للعمال والمتعلمين للحرفين والموهوبين والمرضى ولصوت فيروز الذي يدمي قلبي.

انتمي إلى رائحة قهوة أمي في كأس من الزجاج على شرفة مطلة على سنابل القمح الذهبية، أنتمي إلى أحجار مدرستي القديمة المهجورة التي علمتني حروفي هذه، أنتمي إلى خبز الطابون الذي كانت تعده جدتي منذ طلوع الضوء، انتمي إلى رسالة ورقية من فتاه تخبرني عن حبها الشديد لي ولكنها تزوجت، انتمي إلى صوت المؤذن الذي انتظره عند الفجر لأحدث الله لوقت طويل، انتمي لصيادين السمك والمزارعين للرسامين والموسيقيين للمجاهدين والمناضلين لابي وأمي، أنتمي إلى ثورات هذا الوطن وشهدائه وأسراه وحجارته والرصاص والطائرات الحربية ورائحة الموت المنبعثة في كل مكان، أنتمي إلى ألوان العلم الفلسطيني الذي لم نختاره!

استفقت من حلمي لأجد الإجابة. وهي أني أنتمي إلى كل جزء من هذا الوطن، نعم أنا أنتمي إلى فلسطين من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

رسالة إلى شهيد

أنا الأن في غرفتك يا صديقي، وأجلس على سريرك الخشبي، رائحتك ما زالت تزين سريرك، رواية رجال في الشمس ما زالت مكانها، لا يوجد غبار أبدا في هذه الغرفة وكأنك ما زلت حيًا، فقط وضعت صورة لك وانت على أكتاف أصدقائك أعلى السرير.

لفت انتباهي دفتر مذكراتك، ما زال مفتوحا! كأنه ينتظرك كل يوم لتضع الحروف على أوراقه البيضاء، والدتك أحضرت لي كأسا من الزنجبيل مع العسل كما كنت تشربه، قدمته لي بكل حب كالمعتاد كما كانت تقدمه لنا وأنت حي.

هل تعلم يا صديقي والدتك قوية جدا وصبورة أيضاُ، لا اعتقد أن أمي قد تمتلك هذه القوة لو كنت مكانك! أخبرتني أنها منذ أن استشهدت وهي تنام فقط على سريرك، تشم رائحتك التي ما زالت عالقة عليه.

لا اعلم كيف تجرأت وسألت والدتك عن سر هذه القوة التي تملكها، هل تعلم ماذا أجابت، قالت إن فلذة كبدي هو أغلى ما كنت املك وهو من سيشفع لي ولكل أخوته يوم الحساب، لقد ضحى بحياته من اجل الوطن ألا يستحق هذا أن أكون سعيدة وقوية!

انت حيٌ فينا يا صديقي وسوف تبقى ذكرك خالدة فينا ما حيينا، ارقد في قبرك بسلام، فمكانك اجمل من حياتنا هذه.

أضف تعليقك هنا

إيهاب خصيب

صحفي من فلسطين

Snapchat ➡ ehabkhaseeb