المواطنة وبناء ثقافة الانتماء في العراق

بقلم: جاسم محمد دايش

المواطنة

ظهر استخدام مبدأ المواطنة في العقود الأخيرة وصار احد الركائز الأساسية للخطاب السياسي المدني الذي يدعوا للإصلاحات السياسية والاجتماعية والقانونية في مواجهة جميع أشكال التهميش السياسي والثقافي ومنع ثقافة التمييز السائدة في المجتمع والدعوة إلى التسامح والوحدة ونبذ التشتت والافتراق .

المواطنة في العراق

أن ما يشهده العراق اليوم من دعوات صريحة لبناء ثقافة تنموية تدعو إلى توسيع دائرة مفهوم المواطنة ليشمل جميع المواطنين في العراق , والخروج من جميع أزماته وتوتراته الداخلية من خلال العمل على تطبيق دعواته بصياغة ثقافة وطنية جديدة عمودها الأساسي ومرتكزها هو ” المواطنة ” . فمن القراءات العديدة لمشاكل وأزمات العراق الداخلية هي بسبب تغييب مفهومي (الوطن والمواطنة) أي الغياب الثقافي هنا وعلو ولاءات أخرى على حساب الانتماء للعراق مما أدى بدوره إلى تفاقم الاستقرار الاجتماعي وبالتالي انعكس على الاستقرار السياسي في العراق ,

التنوع الاجتماعي في العراق

ومن هنا فأن التنوع الاجتماعي في العراق من عرباً وكرداً وتركماناً لا يمكن أن يتوحد في هوية وطنية عراقية إلا من خلال الدعوة إلى مبدأ المواطنة فما هي “المواطنة” ؟ وبهذا يمكن تعريف المواطنة (( وهي الهوية المشتركة التي تعمل على اندماج جماعات قد تكون متباعدة أصلاً وتوفر لهم مصدراً لوحدة طبيعية , فهي علاقة تتجاوز روابط الدم والقرابة إلى الاهتمام بالتكوين السياسي للجماعة وتناقضاته أي أنها تجعل السياسة موضوعاً لمشاركة المواطنين في تقرير مصيرهم )) .

الهوية والمواطنة

والهوية بمفهومها العام هي الصفة التي يتمايز بها الأفراد والجماعات عن بعضهم البعض وتتحد بها حالاتهم فهي على الصعيد الفردي تعني التمايز أما على الصعيد الجماعي فتعني التمايز والتماثل في آن واحد كمشاعر الولاء التي يحس بها الفرد نحو العائلة أو الجماعة الدينية أو الطائفة أو الاثنية قد انتقلت إلى صالح الدولة في هوية مشتركة وأضحت انتماءاً لها في هوية واحدة تحت مبدأ المواطنة والذي يمنع بدوره من استبداد الدولة وسلطاتها على المواطن , إذ نشأة فكرة المواطنة الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة , وهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي من خلال المشاركة في الانتخابات والتصويت وحقوق جماعية ترتبط بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية كحق الشخص في الإقامة والعمل وثقافية كالتعبير عن الرأي العام والمشاركة في رفع المستوى المجتمعيّ الحضاريّ من خلال العمل الرسمي أو التطوعي الذي ينتمي إليه . ويذكر “جان جاك روسو ” في نظريته “العقد الاجتماعي” ( أن المواطن له حقوق إنسانية لا بد من تقديمها له وبالوقت نفسه عليه مسؤوليات اجتماعية يلتزم بتأديتها ) . ونظراً لأهمية المواطنة تعرّف العديد من الدول المواطن الفعال وتبرز حقوقه التي يجب أن يمتلكها كل مواطن بالإضافة للمسؤوليات المطلوبة من كل مواطن تجاه مجتمعه .

العدالة والمساواة أمام القانون

أن أي مشروع سياسي يسعى لبناء وتقدم المجتمع لا بد أن يكون له أسس وطنية سليمة ومتينة يرتكز عليها في تجربته السياسية , والتجربة السياسية في العراق تحتاج إلى عملية خلق المجتمع الديمقراطي المدني ولا يمكن النهوض بمثل هكذا مجتمع بمعزل عن المواطنة وتعزيز وتفعيل دورها في المجتمع المدني والنظام السياسي , فالمواطن هو الوحدة السياسية للمجتمع وعند حضور الوطن بكل قوة متجسداً بهيبة الدولة والدستور والقوانين التي تريد خدمة المواطن سيكون هذا الوطن الحاضنة الحقيقية للمواطن حيث يصبح مصدراً للجذب الأساسي لتنمية المواطنة وبهذا تختفي الكثير من الولاءات الثانوية التي تلغي مفهوم المواطنة فكلما توفرت مواقف سياسية وتشريعات قانونية من قبل الدولة تنهي التباين والتفرقة بين أبناء الوطن على أسس طائفية وقومية وتحقق العدالة والمساواة أمام القانون تنمو نتيجة لذلك روح المواطنة بين مكونات المجتمع المختلفة . إنَّ المواطنةَ الحَقَّة تأتي من تحسس معنى الوطنية، فالوطنيةُ تعني حُب الوطن، والعمل من أجلِ إعلائه، والمحافظة عليه.والملاحظ ان هناك تفريقاً بين المواطنة والوطنية أن صفة الوطنية أكثر عمقاً من صفة المواطنة أو أنها أعلى درجات المواطنة، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى جماعة أو دولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل والفعل لصالح هذه الجماعة أو الدولة لتصبح المصلحة العامة لديه أهم من مصلحته الخاصة .

التيار الديني في العراق والمواطنة

وهناك اختلافات بين الفلسفات والأيديولوجيات إزاء فكرة المواطنة ، فالتيار الديني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، يتحدث عن مواطنة عابرة لحدود الدولة الوطنية ، ولايعترف بتلك الحدود، فالإسلام دين عالمي وأممي . أما التيار الماركسي والمدرسة الاشتراكية عموماً ، فقد دعت إلى تجاوز حدود المواطنة وعبور حدود الدولة الوطنية ، تحت عنوان ( ليس للعمال من وطن) ، ومن خلال شعار ( يا عمّال العالم اتحدوا) . أما القوميون العرب فلا يعترفون بالحدود ويعتبرونها مصطنعة ، فإن المواطنة التي يدعون إليها هي مواطنة وحدوية عروبية تتجاوز الحدود الوطنية ، وأساسها أيديولوجي أحياناً مثال ذلك (مجلس التعاون العربي عام 1989) . وعلى المستوى العالمي هناك صيغة الاتحاد الأوروبي ، حيث يجري الحديث عن مواطنة أوروبية عابرة للحدود الوطنية للدولة الأوروبية ، خصوصاً بوجود دستور مشترك وبرلمان موحد وعملة موحدة وسوق أوروبية مشتركة وانتقال العمالة وإلغاء سمات الدخول وغير ذلك . ومن منظور التيار الليبرالي، فالمواطنة اعتمدت على عبور صيغة الدولة الوطنية بالدعوة إلى إعلاء شأن الفرد ، وإعلاء شأن حريته كقيمة عليا، وكذلك إعلاء شأن حرّية السوق، وهي أركان أساسية لليبرالية بمفهومها التاريخي المعاصر لا يمكن فصل بعضها عن بعض ، وهي تشكل أرضية لحركة الأفراد وحركة رأس المال، بحيث ينسابا بحرية.

أن التجارب الدستورية للأمم هي الأرقى في مستوى إدراكها السياسي والاجتماعي والقانوني والوطني بمعنى أن الدستور هو الحصيلة الأكثر تجريداً وسمواً مما يعتمل في رؤيتها السياسية ومواقفها الاجتماعية , فقد صدر الدستور العراقي الجديد بعد أن تم المصادقة عليه بالاستفتاء العام الذي اجري في الخامس عشر من تشرين الأول عام 2005 وقد خصص الباب الثاني منه للحقوق والحريات العامة وقسم إلى فصلين تناولا الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إدراكاً من المشرع العراقي بأن إرساء دعائم حكم دستوري لن يكون بمعزل عن محاولة إعطاء الحقوق والحريات طابعاً دستورياً وقد أكدت إحدى مواد الدستور على أن ” العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العراق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي ” وقد حاول المشرع العراقي من خلال هذه المادة اعتماد ” مبدأ المواطنة ” لتتعدى العلاقات والروابط الاجتماعية الأخرى واعتمادها بوصفها مفهوماً توحيدياً يصطدم مع الاتجاه الفردي داخل المجتمع الواحد وتتيح للكل الاشتراك في العيش بحرية وأمان في العراق الواحد , فهي مشاركة من خلال الانتماء للوطن . وجاء في الفصل المخصص للحقوق النص على أن (لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق او تغييرها إلا وفقاً للقانون) .
المواطنة فيما تعنيه من روح الانتماء للوطن فإنها تترتب عليها مسؤولية كبيرة منها المحافظة على جميع المكتسبات الوطنية و المحافظة على سلامة وامن واستقرار المجتمع .

بقلم: جاسم محمد دايش

أضف تعليقك هنا