تونس – رحلة بويضة الثورة في قناة فالوب الحرية

“العبيد فقط يطلبون الحرية…الأحرار يصنعونها” … نيلسون مانديلا

تونس خلال حكم بن علي

أوشكت سنة 2010 علی النهاية، لتنضمّ في ارشيف التاريخ إلی نظيراتها في عمر ديكتاتورية بن علي، ذلك الجنرال الذي تمكّن من خلع بزتّه االعسكرية وإستبدالها بزيّ الرئيس المدني كواجهة توهم المجتمع الدولي بقطع نظامه مع نمطية حكم الطغمات العسكرية رغم أنه لم يكن يفقه من علم السياسة شيئا، لكن جبروته وحسن تركيز مداميك حكمه ضمنا له طاعة الجميع بعد ما أظهره من وحشية في الفتك بكلّ من غرّد خارج سربه.

سنوات عاشت فيها تونس في ظل نظام ديكتاتوري تفنّن في تجربة أقذر أنواع الانظمة السياسية، بين الأوتوقراطية والكليبتوقراطية ،لتكون نهايته مع أوليغارشية أفاضت كأس صبر الشعب.

أنثی متمرّدة إسمها الثورة

الساعة العاشرة صباحا تقريبا من يوم السابع عشر من ديسمبر ،سوق شعبي وسط مدينة سيدي بوزيد في العمق التونسي (وسط تونس)، أين ينتصب الباعة أو يتجوّلون لكسب قوتهم اليومي ،دورية من التراتيب البلدية في روتينها اليومي تدوّن المحاضر علی المخالفين ،شاءت الأقدار أن يتصادم أحد الباعة الجائلين مع عون التراتيب فايدة حمدي ،ويتّفقا عن غير قصد علی تغيير نمط كتابة التاريخ و ملامح الجغرافيا، إشتعلت النيران في جسد الشاب محمد البوعزيزي كإحتجاج منه علی مصادرة عربته.

إحترق و لكنه لم يعلم أن تحت رماد جثته جذوات متّقدة لن تنطفئ لعقود، وأنّ وسط اللهيب المستعر سيخصب بويضات أنثی متمرّدة إسمها الثورة، ستنشطر إلی أجنة تعبر قناة فالوب الحرية نحو ليبيا و منها إلی مصر فدمشق الشام و اليمن السعيد، و لأن الطريق وعرة والمطبات كأداء، أجهضت أجنة ،و تشوّهت أخری، و حالف الحظّ واحدة واصلت نموّها ولدت بقيصرية مستعصية، و مازالت تصارع،تلك هي ثورة تونس، ثورة الياسمين، أول زهرة و ربما آخرها في ربيع الوطن العربي الذي أضحی بؤرا حمراء في أطالس العالم.

نعم تحوّلت تونس من دولة نكرة لا يعرفها العالم الا عبر علامة البلد المنشأ أسفل قوارير زيت الزيتون، إلی نموذج للثورة و الديمقراطية ،و مضربا للأمثلال في برلمانات أعتی الديمقراطيات في العالم ،قد يعتبر البعض أن تونس سبب الخراب الذي حلّ بأكثر من الدولة، وقد تناسی أصحاب هذا الطرح المتعسّف سيرورة الثورات، هذه هي ديناميكية الثورات تجبّ ما قبلها و تبني بعد أن تهدم، وجدلية البناء و الهدم هي الجدلية المميزة للفعل الثوري، و عندما يقتصر الفعل فيها علی الهدم، فهي حتما ثورة بحمل كاذب ،عند العودة إلی التأمّل في تاريخ أمّ الثورات، الثورة الفرنسية، التي ظلّت مثالا وأيقونة.

سوف نكتشف أن المشوار لا زال طويلا فالستّ السنوات الأولی من ثورة فلاسفة التنوير كانت دموية، ولقّبت تلك الحقبة تاريخيا بعهد الارهاب، عقب تمرّد المسلّحين اليعاقبة ،أعدموا خلاله الملك لويس السادس عشر و زوجته فوق المقصلة ، لتكون بداية لحملة من الإعدامات العشوائية لكلّ من أشتبه في عدائه للثورة، وبعد السنوات الستّ دخلت الثورة الفرنسية مرحلتها الثانية سنة 1796، بعد إعدام روبيسبير زعيم اليعاقبة، وبداية ما أصطلح علی تسميته تاريخيا “رد فعل ترميدورن”، وعودة الجيرونديين الذين إرتكزوا علی نابليون بونابرت ،كقائد عسكري محنّك لبسط سلطانهم، و معهم عاشت فرنسا أزمات اقتصادية وتزايدت الإحتجاجات الإجتماعية، مع إستشراء في الفساد، لينقلب بونابرت علی السلطة، لتعيش باريس سنوات او عقود من االمدّو الجزر، ثم تصل إلی ما عليه اليوم من بلد للمؤسسات و الحريات والديمقراطية.

تونس في عيون المؤشرات العالمية

تصنيف دافوس…شهر فبراير 2017 ،تونس الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي.

تونس في المرتبة ال66 عالميا في مؤشر الديمقراطية سنة 2015، تتقدّم علی تركيا و روسيا.

مؤشّر الارهاب العالمي،في تقرير أعدّه معهد الإقتصاد و السلام سنة 2016 حول المؤشر العالمي للإرهاب (global terrorism index)، تونس في المرتبة ال35 عالميا، وهي مرتبة تتقدّم علی فرنسا و بريطانيا.

تونس في المرتبة الرابعة عربيا في مؤشر السلام.

تونس في المرتبة 96 عالميا والأولی عربيا في مؤشّر حرية الإعلام، وفق تقرير فريدوم هاوس سنة 2015

تونس الأولی عربيا في حقوق المرأة و الطفل.

تونس ليست سعيدة …حيث تحلّ في ترتيب متأخّر في مؤشّر السعادة بالرتبة 13 عربيا و 104 عالميا.

تونس في المرتبة 65 من ضمن 70 دولة شملها تصنيف “بيزا” للأنظمة التربوية لسنة 2016 ،الذي تعدّه منظمة التعاون و التنمية الاقتصادية.

تونس الأولی عربيا في مؤشر حرية الانترنيت.

تونس في المرتبة 75 عالميا من مجمل 176 دولة والسابعة عربيا في مؤشّر مدركات الفساد في إحصائية لمنظّمة الشفافية الدولية سنة 2016.

تونس …تحديّات بالجملة

أداة قياس نجاح الديمقراطيات الوليدة

إبتكر الباحث صامويل هينجتون إختبارا لقياس مدی نجاح الديمقراطيات الوليدة، فإعتبر أنه يمكن أن تطلق علی دولة بأنها ديمقراطية، عندما تقوم بإنتقالين سلميين للسلطة، و علی مايبدو أن هذا الإختبار قد نجحت فيه تونس.

بعد أن شهدت اكثر من تداول سلمي للسلطة في غضون ثلاث سنوات فقط ،سواء في البرلمان ،أو في قصر قرطاج أين بثّ التفزيون الرسمي مراسم إنتقال السلطة بين الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي و الرئيس المنتخب الباحي قايد السبسي، في مشهد لم تألفه الدول العربية بإستثناء تنازل سوار الذهب عن السلطة لرئيس منتخب في السودان في سبعينات القرن الماضي.

أزمة إقتصادية في تونس

و رغم المؤشرات التي تؤكد نجاح تونس في الإنتقال الديمقراطي ،و تركيزها لآلياته مع إنتخاب مؤسسات دستورية ومجلس أعلی للقضاء، و تجربة فريدة في العدالة الانتقالية، تجسّدت عبر هيئة الحقيقة و الكرامة التي نقلت للعالم شهادات مباشرة لضحايا الإنتهاكات في عهد الإستبداد، فإن الوضعين الإجتماعي و الاقتصادي ليسا علی أفضل حال، فتونس تعاني من أزمة إقتصادية خانقة أكّدتها المؤشرات التي أصبحت حمراء، مع عجز في الموازنة في ظل عدم كفاية موارد الجباية، وتحقيق الإقتصاد لنسب نمو ضعيفة، مع إرتفاع في حجم كتلة الأجور، التّي تشكل 60% من الناتج الداخلي الخام ،هذا الواقع الإقتصادي المترهّل دفع بتونس إلی طرق أبواب صندوق النقد الدولي للإقتراض المجحف، وسط مخاوف من إلتجاء الحكومة إلی العلاج بالصدمة الإقتصادية، بعد خطاب ليوسف الشاهد في الصيف الماضي أمام البرلمان لمّح فيه إلی التجاء الدولة إلی سياسة تقشّف تمليها السيدة كريستين لاغارد مديرة البنك الدولي، ضمن مخطّط كامل لتركيز نظام ليبرالي يخصخص الشركات العمومية ،و يقلّص من حجم الإنفاق العمومي و يسرّح آلاف العمّال .هذا الواقع الإقتصادي أفرز واقعا إجتماعيا مماثلا تجسّد في إرتفاع نسبة البطالة حسب المعهد الوطني للإحصاء سنة 2016 إلی 15.6 %،وهو رقم قابل للإرتفاع مع تزايد أعداد المجازين و المتخرّجين من الجامعات، و سوق شغل غير قادر علی إستيعابهم،مع تراجع نسب الإستثمارات الخارجية التي شدّت الرحال الی جنان إستثمارية أكثر تساهلا وهدوء و أقل حركية إجتماعية مع غياب اتّحادات نقابية قويّة، والمغرب الأقصی يبقی أكبر المستفيدين من ذلك.

كما تعاني تونس من إرتفاع نسبة الفقر ،التي بلغت 11.5 % سنة 2016 ،ممّا يعزّز المخاوف من إنفجار اجتماعي وشيك مع ضبابية المشهد السياسي، وغياب رؤی إقتصادية واضحة تقضي علی الفساد والبيروقراطية ،و تحسن التحكّم في الثروات الباطنية رغم قلتها والتي تحوم حولها شبهات فساد كبيرة ،أمّا خارجيا فتعترض تونس تحدّيات كبری مع وضع إقليمي مأزوم في ليبيا يتطلّب من جميع الفاعلين السياسيين و الإجتماعيين التكاتف والإبتعاد عن المناكفات والمماحكات الإيديولوجية الضيّقة.

فيديو رحلة بويضة الثورة في قناة فالوب الحرية – تونس

أضف تعليقك هنا