عن جمال عبد الناصر ودور الفرد في التاريخ

” ليس لي مكان إلا واحد من إثنين :هنا في مكتبي أعمل .. أو هناك راقداً في قبري – حتى السجن لو حدث شيء لن تطول إقامتى فيه فإنهم أذكى من أن يتركوني حياً .. ثم أنا لا أُحب مهنة اللاجئ السياسي .. ثم إن هؤلاء الاقوياء سوف يطاردونني إلى أخر الأرض وحتى أخر العمر ” جمال عبد الناصر

لا أعلم لماذا تُلح على صورة الزعيم ( جمال عبد الناصر ) هذه الأيام كثيراً و مع أنى لستُ من هواة عبادة الفرد ولا من المغرمين بالتعبد في محراب البشر، بل من (الدارسين) للتجارب الإنسانية ومن ( المتتبعين لدور الفرد في التاريخ ) .

جمال عبد الناصر وانحيازه للطبقة المهمشة

وأعترف أنى معجب بتجربة ( جمال عبد الناصر ) ذلك الرجل الذى أخطأ وأصاب واجه ولم يهرُب . رجل رأى المشاكل فذهب إليها ونظر في عينيها وقام بالتعامل معها وفق ما رأى وحسب منهج عصره .

رجُل أعلن انحيازه من أول لحظة للطبقة الفقيرة المهمشة ورفض الإقتراب من أغنياء عصره . وكان يقول دائماً : ( باسم من نتكلم؟ ولمصلحة من نحكم ؟ ).

وكانت الإجابة : ( يتكلم باسم الفقراء ويحكم لمصلحة المُعدمين ).

رجُل جسد أحلام الفقراء والمُعدمين من هذا الشعب .( عندما جاءه مليونير مصر قبل الثورة “أحمد عبود” باشا في أوائل ثورة يوليو 1952 يعرض شراء بعض الممتلكات المؤممة كان رده عليه : ” إننا بهذا نزيد أهل الغناء غناءً وأهل الفقر فقراً ” ).

رجُل تجسدت أمال أمته في شخصه وفى فكره وفى عمله وجهده في لحظة تاريخية معينة.

رجُل رفض أن يكون ملكاً لغير شعبه وأمته رغم كل الإغراءات والتهديدات . رجل كان من أهم شخصيات عصره ومع ذلك عندما توفى كان مديوناً !!

رجُل كان ملاء السمع والبصر في عصره ورغم ذلك كان عصى على الإفساد .

والد جمال عبدالناصر وابنته (منى)

رجُل كان يقول دائماً : ( أنه ابن موظف البريد الفقير الى كان بياخد 25 جنيه).

رجُل عندما كان رئيس للجمهورية ابنته ( منى ) لم تستطيع وهي إبنة ( جمال عبد الناصر ) رئيس الجمهورية أن تحصل على مجموع في الثانوية العامة فيضطر الى أن يُدخلها لجامعة خاصة ( الجامعة الأمريكية ) بمصاريف أكثر بينما بنات الفلاحين والعمال يدخلون الى الجامعات المصرية المجانية لتفوقهن .

رجُل عندما أرادت القوى الإمبريالية أن تُفشل مشروع السد العالي وقف وقال لهم بتحدي ( سنبنى السد ولو بالمقاطف ) وبنت مصر معه سدها العالي الذى لازال بعض الذين في قلوبهم مرض يرون انه من مصائب مصر لأنه منع سمك السلمون !

رجُل أحب أمته فأحبته أعطاها كل ما يملك فأعطته أغلى ما تملك ( وفائها له ولذكراه ) .

وفى إجتماع مجلس الوزراء سنة 1969 قال الزعيم (جمال عبد الناصر) وقد لاحظ أن أحد الوزراء يحاول أن يتفلسف فقال له ولبقية زملاءه : ( ” دعوكم من الشعارات كلها، حتى لا تتوهوا في تلافيفها وحتى لا تمتلئ آذانكم منها بالطنين، فتنسوا ما يجب أن يحدث بعدها.

خذوا الرجل العادي البسيط… هو النواة في المجتمع… وهو الوحدة الأولى…

واستدرك : ” ارموا كل الشعارات من الشباك… وافتحوا الباب للإنسان… للرجل العادي.

كيف يفكر هذا الرجل… وماذا يريد؟.

الفكرة الأولى : عندما يستيقظ في الصباح، فأول ما يفكر فيه ماذا سيأكل اليوم هو وأولاده؟.

الفكرة الثانية : بعد ذلك، هي كيف سيصل إلى عمله، وكيف يصل أولاده إلى مدارسهم؟.

الفكرة الثالثة : كيف يكون مظهرهم… هو في عمله، وهم في مدارسهم، وهل عليهم من الملابس ما هو كاف ولائق من ناحية المنفعة العملية… ومن ناحية الكرامة الإنسانية؟.

الفكرة الرابعة : ماذا لو مرض أحدهم… هل الدواء متاح ، أو هو عزير؟.

الفكرة الخامسة : بعد العودة إلى البيت، هل هناك شاغل مهما كان بسيطاً، يجمع الأسرة معاً على متعة من أي نوع ترفيهي أو ثقافي… مثل ذلك هو إحساس الآدمي بآدميته.

الشاي

هذه هي احتياجات الرجل العادي، تذكروها، وانسوا كل ما ترددون من شعارات “.

ثم استطرد قائلاً:

” قبل أيام سألت، وسأل بعضكم ، هل يُعقل أن ندفع عشرات الملايين من الجنيهات في استيراد كل هذه الكميات من الشاي؟.

وراجعت نفسى بسرعة، وقلت: – من هم الذين يشربون الشاي؟.

الذى يشرب الشاي ويجد فيه متعته، هو الرجل العادي البسيط.

هل يُعقل أن نحرمه من ذلك ؟.

إن حياته مليئة بالحرمان، فهل نجئ إلى كوب الشاي التي يخلو معها إلى نفسه، ويضع ساقاً على ساق وهو يشربها ثم نجعلها صعبة عليه؟.
لقد شطبت هذا الموضوع من ذهني، وأطلب منكم أن تشطبوه أنتم الآخرون” ). (1)

وأما على الوضع الدولي يكفينا ان ننظر كيف كانت الامة العربية كلها وليست مصر وحدها قبله وكيف أصبحت معه وكيف أضحت بعده.
فقبل ( جمال عبد الناصر ) يطالعنا مشهدا من أغرب مشاهد التاريخ العربي الحديث يكفى في حد ذاته لشرح و تصوير الطريقة التي كانت تتقرر بها مصائر العالم العربي.

إن راوية المشهد هو اللورد (هانكى) سكرتير مجلس الوزراء البريطاني وقد عاشه بنفسه أثناء حوار مباشر بين رئيس الوزراء البريطاني (لويد جورج) وبين رئيس الوزراء الفرنسي (جورج كليمنصو). ففي أول ديسمبر 1919 وصل رئيس وزراء ورئيس وزراء إيطاليا إلى لندن لمباحثات مع رئيس وزراء بريطانيا . وإلتقى الإثنان في مبنى السفارة الفرنسية وبينهما اللورد (هانكى) الذى جرى تكليفه رسمياً بوضع مذكرة عن حديثهما .

وفى البداية كما ورد في مذكرة اللورد (هانكى) كان رئيس الوزراء الفرنسي يشعر أن الحكومة البريطانية متضايقة من بعض تصرفات الرسميين الفرنسيين وهى تعتبر أنها أحياناً تجاوزت حدود المقبول إزاء الحليف الأكبر في الحرب العالمية الأولى وهى بريطانيا .

وكان (جورج كليمنصو) : حريصاً على إسترضاء رئيس الوزراء البريطاني لأنه مازال يشعر بالحاجة إليه في التسوية النهائية وما يترتب عليها . وبدأ الحوار بين الاثنين ودار على النحو التالي على حسب ما سجله اللورد (هانكى) في مذكرته بالحرف ( وثيقة مجلس الوزراء 14 / 116 بتاريخ 1 ديسمبر 1919 ) :

(جورج كليمنصو) : ( إننى حريص الا تكون هناك خلافات كبيرة بيننا ، فمازالت أمامنا ظروف تقتضى لقاءنا المستمر . إن تحالفنا نجح في تجربة الحرب ، وليس من المعقول أن يرسب في تجربة السلام. ) ثم إستطرد رئيس الوزراء الفرنسي يقول لزميله البريطاني : ( دعنا نسوى الأمور بيننا مباشرةً ، وقل لي ما الذى تقترح أن نبحثه معاً الان ؟ ).

( لويد جورج ) : ( دعنا نبحث مصير العراق وفلسطين ) .

(جورج كليمنصو) : ( إذن قُل بصراحة ماذا تريد ) .

( لويد جورج ) : ( أريد الموصل أنتم تطالبون بهذا الإقليم ونحن نعتبره تكملة لجنوب العراق الذى إتفقنا على ان يكون من نصيبنا ) .

(جورج كليمنصو) : ( حسناً. لك أن تأخذ الموصل . سوف نتركه لكم … هل هناك شيء اخر ؟ ).

( لويد جورج ) : ( نعم .. أريد القدس أيضاً . إنكم تثيرون متاعب لنا ، وتطالبون بالحق في فلسطين بإعتبارها جنوب سوريا ) .

(جورج كليمنصو) : ( لك أن تأخذ القدس أيضاً … هل هذا يرضيك ؟ ).

( لويد جورج ) : ( هذا شيء طيب ) .

(جورج كليمنصو) : ( إن ” بيشون ” (وزير خارجية فرنسا) سوف يثير لي مشاكل بسبب الموصل وأرجوك أن تساعدني إزاءه ) .

( لويد جورج ) : ( ماذا أستطيع أن أفعل لك ؟ ).

(جورج كليمنصو) : ( إتركوا لنا سوريا شمال فلسطين دون ان تثيروا المتاعب في وجهنا . أنا لا أعنى المنطقة المسيحية في لبنان فقط ولكن أريد سوريا الداخل أيضاً : دمشق وحلب وحمص وحماه ) .

( لويد جورج ) : ( ليست لنا مصالح حيوية في هذه المناطق ولن نعارضكم عندما تضعونها جميعاً تحت حكم فرنسي موحد ! ) .(2)

ذلك كان وضع الامة العربية قبل ( جمال عبد الناصر ).

” قبله كنا في حال ومعه كنا في حال مغاير تماماً وأما اليوم بعده حالنا ها أنتم تروه.. يصعب على الكافر والله ” الرئيس هوارى بومدين

وأما معه ( رحمه الله ) فيكفيني وضع واقعتين :

الأولى / محضر إجتماع لمجلس الأمن القومي الأمريكي يوم 23 يوليو 1985 وكان الهدف من الاجتماع طبقاً لجدول اعماله يتكون من بند واحد وهو ” بحث الوضع العالمي على ضوء التطورات في الشرق الأوسط ” .

وقد بدأ الرئيس الأمريكي ( داويت إيزنهاور ) هذا الاجتماع بقوله : ( إننى أريد أن أفهم كيف استطاع ناصر أن يلهب حماسة جماهير جاهلة في الشرق الأوسط ضدنا على هذا النحو .. إننى أريد أن أعرف أكثر عن هذه الحركة المسماة ب ” القومية العربية ” ).

وتحدث مدير المخابرات المركزية ( الان دالاس ) وقال : ( إننا يجب أن ننظر الى القومية العربية باعتبارها فيضاناً يتدفق بقوة ، وإننا لا نستطيع أن نقاومه وإنما نستطيع فقط أن نضع بعض شكائر الرمل حول المواقع التي ننوى الدفاع عنها ).(3)

أما الواقعة الثانية / تسجلها محاضر مجلس الأمن القومي الأمريكي أيضاً ولكن في عهد الرئيس الأمريكي ( ليندون جونسون ) بتاريخ 25 أكتوبر 1964 ضمن حوار طويل أيضاً عن الشرق الأوسط وقتها يقول الرئيس الأمريكي لكبار المسئولين الحاضرين : ( إننى متضايق أشد الضيق من السياسة المصرية ومن رئيسها جمال عبد الناصر” الذى يذكرني بالديك الرومي وهو يمشى مختالا بنفسه في منطقة الشرق الأوسط ” الهامة لنا .. إن في أيام لورنس لم يكن المصريين والعرب ينتجون صواريخ وطائرات ويجيئون بعلماء المان وخلافه ). (4)

وأما بعد ( جمال عبد الناصر ) فأصدق من عبر عن تلك الفترة كان الرئيس الجزائري العظيم (هوارى بومدين) حينما قال : ( لقد اتفقنا واختلفنا معه ولكن لم أكن أتصور أن رُجلاً واحداً قادراً على صُنع كل ذلك الفارق .. لو لم أكن عاصرت الواقع قبله ومعه وبعده لما صدقت .. فقبله كنا في حال ومعه كنا في حال مغاير تماماً وأما اليوم بعده حالنا ها أنتم تروه.. يصعب على الكافر والله !). (5)

ولقد كان وزير ثقافة فرنسا الأسطوري ( أندريه مالرو ) مُحقاً عندما قال 🙁 إننى أعرف ديجول وقد قابلت عبد الناصر وسمعت من كل منهما رأيه في الآخر).

ومضى مالرو: ” كلاهما كان تجسيداً حياً لأمته في فترة من الفترات الهامة في تاريخها “.

واستطرد مالرو: في حياتهما وفى عملهما أشياء كثيرة مشتركة. هذا هو ما يفرق الشخصية التاريخية، أو البطل، كما يقولون عن غيره من الساسة والحكام.

استطاع ديجول أن يجسد فرنسا في وقت محنة.

واستطاع عبد الناصر أن يجسد مصر في وقت محنة.

هذه قيمة عبد الناصر التي سوف تبقى للتاريخ: ” إنه استطاع أن يجسد شخصية مصر. لو تعود للتاريخ فسوف تجد أن هذه أيضاً هي قيمة نابليون.

ليست مهمة معايير النصر والهزيمة… ليس المهم أن تعيش الشخصية التاريخية لأداء دورها كاملاً كما نتصوره أو تذهب قبل تمامه “.

من منا يستطيع أن يقرر بداية أي دور ونهاية أي دور. نحن لا نستطيع ذلك حتى في الخلق الفني.

المعيار الحقيقي هو أن يستطيع إنسان في مرحلة من التاريخ أن يكون هو تجسيد أمته… ضميرها… صوتها… إرادتها… فعلها”.

واستطرد مالرو: وكانت بينهما وجوه شبه أخرى: ديجول في فرنسا سنة 1940 بعد استسلام فرنسا للنازي… وعبد الناصر في مصر سنة 1952

بعد حالة الضياع التي كانت مصر فيها.. قام كل منهما من وسط الأنقاض رمزاً للبعث… بعث الروح في أمته.

وديجول وعبد الناصر كلاهما في خط عمله السياسي تمرد على القوى الغالبة في عصره، وتمسك بمنطق الاستقلال.

يتصل بذلك أن كليهما باختياره الحر وفى ظروف صعبة اختار وطنه. كان الاختيار المطروح، أو على الأقل الشائع في عصر ديجول وعبد الناصر هو الاختيار بين أمريكا وروسيا.

وضع الاختيار أمام ديجول:
– أمريكا… أو روسيا؟
وقال ديجول:
– فرنسا.

ووضع الاختيار أمام عبد الناصر:
– أمريكا… أو روسيا؟
وقال عبد الناصر:
– مصر.

واستطرد مالرو: ” كلاهما كان طويل القامة.. أقصد معنوياً.. بحيث كان قادراً على الارتفاع فوق الصراعات ليكون حكماً فيها “.
وأكمل مالرو: كلاهما أيضاً كان لديه حلم مستحيل أو شبه مستحيل. ديجول وحلم الوحدة الأوروبية وعبد الناصر وحلم الوحدة العربية.
والأزمة في حلم الوحدة لدى كل منهما أن أسبابها موجودة، ولكن تنفيذها صعب لأن الوحدة الأوروبية لا يمكن تحقيقها بغير فرنسا… ولا يمكن تحقيقها بفرنسا… لأن الوحدة سوف تبدو سيطرة فرنسية على أوروبا. أتصور نفس الوضع في العالم العربي.

الوحدة بغير مصر لا يمكن تحقيقها… والوحدة بمصر يصعب تحقيقها لأنها سوف تبدو سيطرة مصرية على العالم العربي.

حجم فرنسا في أوروبا وحجم مصر في العالم العربي يحتم أن تكون لكل منهما قيادة الوحدة الموعودة.

ولكن هذا الحجم نفسه يقف بالمرصاد دون الحلم. السبب هنا يتحول إلى عائق.

ولعلنا اليوم نشبه ماراءه الشاعر “ابن شداد” مؤرخ سيرة ( صلاح الدين الأيوبي ) بعد موته وهو يرى الواقع الذى عاشه مع الملك ” الناصر” يتغير مع خُلافائه من النقيض الى النقيض فكتب بيت شعر قال فيه :
” ومضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ “.

المراجع

1- محاضر مجلس الوزراء المصري – منشورات وزارة الثقافة.
2- المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل الجزء الأول – محمد حسنين هيكل.
3- وثائق البيت الأبيض.
4- وثائق البيت الأبيض.
5- هوارى بومدين الرجل القوى في الجزائر – أحمد بو يحيى.
6- محاضرة ل أندريه مالرو بباريس 1971.

أضف تعليقك هنا

مجدي منصور

‎محامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة