مسلسل قيامة أرطغرل، الدراما وصناعة الوعي

وسط غثاء يفوق الحصر ولا يطيب به الذكر من الأعمال الدرامية على الشاشات العربية والفضائية المتخصصة في عرض المسلسلات يتابع الملايين المسلسل التركي الرائع والمتميز “مسلسل قيامة أرطغرل” ، ليقدم دراما تاريخية تستلهم الواقع في قراءة التاريخ وطفرة فنية وقيمية. (اقرأ عن المسلسلات التركية في موقع مقال)

الإسفاف في المسلسلات هذه السنوات

البلطجة  المخدرات والعشق الحرام وهتك المحارم والتحرش الجنسي في سيناريوهات المسلسلات الحالية

وسط هذا الزخم من الإلهاء المتعمد والاسفاف الفني عبر الدراما التليفزيونية التي ملأت حياتنا وشغلت كل الناس والتى تهدف إلى هدم القيم وتدمير أخلاق الأسر المسلمة والتى تحرص على تقديم نماذج لمجتمعات منحرفة سلوكياً وفاشلة اجتماعياً ومتوحشة طبقياً من خلال تكثيف عرض سلبيات المجتمع بتسليط الضوء على مشاهد العنف والبلطجة وتعاطي المخدرات وتجارتها،والعشق الحرام وهتك المحارم والتحرش الجنسي والصفقات المشبوهة والعلاقات الآثمة، ومن خلال تقديم صورة مبتذلة للمرأة لتبدو عارية تافهة عاشقة لاهية خائنة متآمرة تاركة لمنزلها وأولادها.

الغنى الفاحش السريع في سيناريوهات المسلسلات الحالية

ثم العمل على إحباط الشباب من خلال تقديم صورة للثراء السهل الفاحش سريعاً عبر تجارة المخدرات والانخراط في العصابات وزواج بنات الأثرياء ،والهجرة غير الشرعية من الأوطان إلى المجهول والهجوم على الدين بكل صوره وأشكاله ورموزه ووصمه الدائم بالارهاب وتسطيح مفهوم الدين في عقول المسلمين وحصره في تقصير الجلباب وإطالة اللحي وتصوير المتدين دائماً بالفظاظة والنطاعة والتلون والجفاء !

وسط هذا الإسفاف جاء مسلسل قيامة أرطغرل

وسط هذه الملهاة السوداء والعصف المستمر للقيم والثوابت والأخلاق والأعراف ، والتلاعب بالعقول ، والهجوم على الدين يأتى مسلسل “قيامة أرطغرل” ليرسم صورة جديدة لما ينبغي أن تلعبه الدراما في صناعة وعي الأمة وربطها بتاريخها وماضيها المشرف ، وليقدم صفحات من تاريخ الأمة بما فيها من أمجاد ومؤامرات ، وبطولات وكفاح مستمر من أجل إعلاء قيم الحرية والعدالة والحفاظ على الهوية وإعزاز الدين وإبراز دور المرأة فى نهضة الأمم والمجتمعات ، ويركز على كيف تقاد الأمم ، وكيف نتعامل مع الأعداء ، وغيرها من الدروس والعبر التى نستعرض بعضها في هذا المقال ومنها :

الحفاظ على الدين والهوية في مسلسل قيامة أرطغرل

مسلسل قيامة أرطغرل
مسلسل قيامة أرطغرل

من الدروس العظيمة التي طرحها هذا السيناريو الرائع في مسلسل قيامة أرطغرل ، أنه يعلمنا أن عزة الإسلام وإعادة مجده على ربوع الأرض ونشر رايته قضية مركزية للأمة و ليست قضية محدودة بحدود الدولة القومية الحديثة  أو مصالح القبيلة الشخصية أو مقتصرة على جغرافية إقليم بعينه ، إنما هي قضية تدافع بين الحضارات ، والمسلم عماد الأرض ومركزها بعقيدته ومنهجه وسيفه وأننا كمسلمون مطالبون بنصرة ديننا بكل مانملك وهذا ما ظهر جليا من خلال هذه القبيلة الصغيرة التي تحركت بمحاربيها رغم عددهم المحدود لنصرة الدين شرقاً وغرباً.

إرساء القيم والأعراف الحميدة عبر مسلسل قيامة أرطغرل

ركز المسلسل على الكثير من القيم والأعراف الحميدة التى تتوافق مع تعاليم الدين الاسلامي الحنيف والتي عاشت بها قبيلة “الكايي” وهى إحدى القبائل التركية التي تنحدر من أصول شعوب الأوغوز التركية، و التى تعني الشخص الذي لديه القوة و السلطة. فيما يرمز شعارها المرسوم بالأبيض على راية زرقاء، سهمان و نُبل و يعني سهمًا للعدو و سهمًا للخائن، و القوس الذي هو عضد مقاتل الكايي.

ومن هذه القيم التى أبرزها مسلسل ” قيامة أرطغرل ” قيمة الشورى التى كان يمارسها قادة القبيلة كلما واجهتهم مشكلة أو عزموا على أمر، والاستعانة بالله وحسن التوكل عليه ، والثقة فى الجميع حتى تثبت الأحداث غير ذلك والتثبت والبينة قبل الأخذ والحساب مهما كانت الأوقاويل والشائعات ، ونجدة الضعفاء وحمايتهم وفدائهم بكل ما يملكون حتى لو جاء ذلك على حساب أرواحهم وأولادهم وأمنهم .

نموذج القيادة الراشدة المنشودة في مسلسل قيامة أرطغرل

قدم المسلسل نماذج مختلفة لعدد من القادة وركز على نموذج القيادة الراشدة التي تجمع بين القوة والأمانة متجسدة فى سليمان شاه مؤسس قبيلة “الكايي” ثم ابنه أرطغرل الذى اشتعل قلبه بجذوة الإيمان وحب والإسلام ونصرة المظلوم والبأس والقوة والفتك بالأعداء  وهو أكثر ما تفتقده الأمة الآن نموذج القيادة الراشدة التي تجمع بن القوة والأمانة وتحمل هم الأمة و تسعى لاعزاز الدين ، لذلك نجح المسلسل في إبراز هذه القيادة من خلال دور سليمان شاه الأب ثم أرطغرل الابن الذي استطاع أن يوحد أبناء قبيلته ويغرس فيهم روح الجهاد والاتحاد ويقضي على المؤامرات و الفتن ويكشف الخونة ويحاسبهم ويؤسس لقيام أعظم امبراطورية عرفها التاريخ.

إحياء فريضة الجهاد في مسلسل قيامة أرطغرل

فبطل المسلسل أرطغرل ومحاريبه بل وقبيلته لاتكاد تنتهى من جهاد لأعداء الأمة المتربصين بها من المغول والصليبيين حتى تجاهد وتحارب الخونة والعملاء في داخلها وهكذا حياة المسلم كلها جهاد في الداخل والخارج ونصرة للمظلومين وإحقاق للعدل ، ومحاربة لبؤر الفساد وأوكار الخيانة والتآمر ومن المعاني الرائعة التي يبرزها السيناريو أهمية الجهاد وحب العقيدة في قيام الأمم ونهضتها وأنها البوصلة والدافع القوي الذي يلهب النفوس ويجعلها تنتفض لمواجهة الأعداء ورفع راية الإسلام خفاقة ، فربط المسلسل جهاد ارطغرل وتضحياته بحبه للدين ورغبته المستمرة والمتواصلة في نشره والقضاء على أعدائه مما يعيد للأذهان سيرة الصحابة الكرام وتضحياتهم في سبيل نصرة الإسلام وتاريخ الفتوحات المجيد .

بث الهمة والعزة في النفوس في قصة مسلسل قيامة أرطغرل

بالرغم من المؤامرات التى نسجها كاتب السيناريو والتى كانت تواجه أرطغرل دائما إلا أنه جعل ابن عربي رمزاً للقوة الروحية والمرتكز الايماني في حياة المجاهد الذى يطمح لإعزاز دينه ونهضة أمته وتأسيس مجده ، فجعل منه واعظا وباعثا للهمة والثقة فى نصر الله وحسن الانابة والتوكل عليه وعدم الخوف إلا من الله والتذكير الدائم بنبل الهدف وسمو الغاية وهى تأسيس دولة على أسس الحق والعدل ومحاربة أعداء الإسلام أينما كانوا ومهما كانت قوتهم ومحاربة أعداء الداخل مهما كانت مراكزهم ومهما بلغ نفوذهم.

ولكم تشتاق الأمة إلى بث روح الأمل ومعاني العزة التي قُتلت فيها منذ قرون حتى وصلت لهذه المرحلة من اليأس والخنوع والاستضعاف ولذلك فقد نجح المسلسل في أن يبث هذه المعاني في النفوس مجدداً بتجسيده للثبات في مواجهة المحن والصبر على مؤامرات الخونة والعملاء وتقديمه للانتصارات العظيمة والتضحيات الجليلة في سبيل الغاية السامية وهذا ما جعل المسلسل يمثل مرحلة جديدة في صناعة الوعي يجب أن نستفيد منها كثيراً ونستلهم دورسها وعبرها .

التركيز على موازين النصر والتمكين في مسلسل قيامة أرطغرل

حرص كاتب السيناريو على تقديم موازين النصر والتمكين على لسان أبطال المسلسل لاسيما أرطغرل وابن عربي وأم هايماه سيدة القبيلة انطلاقاً من قوله تعالى: ” كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” فلقد تجلت هذه الآية في الكثير من مشاهد المسلسل فكنا نشاهد أرطغرل يخوض غمار الكثير من المعارك الشرسة بمحاربيه وإمكاناته المحدودة فى مواجهة قوى عاتية وأعداد كبيرة ومؤامرة كثيرة وفخاخ محكمة لقضاء عليه ثم يخرج منتصرا.

فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الأمة يجب أن تعيد النظر فى موازين القوة والنصر فهي أحوج ما تحتاج إلى ربط أبنائها بالغاية السامية وغرس قوة الإيمان فى الصدور وحسن التعلق بالله والاستعانة به، والإعداد بالمستطاع لملاقاة العدو وبعث الهمة العالية فى النفوس والاعتزاز بالانتساب لهذا الدين وحينها ستصنع المعجزات وتسترد مجدها الضائع و تحقق البطولات العظيمة والانتصارات الساحقة وتسوس الدنيا بالدين.

دور المرأة في نهضة المجتمعات ضمن مسلسل قيامة أرطغرل

على نقيض ما يقدم في عشرات  المسلسلات من صورة مزرية للمرأة اللاهية العابثة اللاهثة  وراء صراعات الموضة وأدوات المكياج ، الباحثة عن العشق والمال والثراء والحب الحرام ، قدم المسلسل صورة مختلفة لدور المرأة في تربية الأجيال وتقديم الأبطال واحترام وتقديس منزلة الزوج والأب والأخ ، وحتى قدم طرفاً من أدوراها في تحقيق الغايات وقيام الدول وهدمها ليسلط الضوء على خطورة دورها وضرورة حسن تربيتها وإعدداها وأنه إذا ما كرم أصلها وحسنت تربيتها فإنها تهز أركان الدول وتحرك الرجال نحو الأمجاد بطرفها ولنا في نموذج أم أرطغرل والملقبة فى المسلسل بأم هايماه خير مثال لتلك المرأة الصلبة التي صمدت فى كل المحن وقادت القلبية بعد موت زوجها سليمان شاه ، وكيف ربت وقدمت للأمة نموذج مثل أرطغرل وإخوانه ومحاربيه.

العلماء ودورهم في قيام الأمة ضمن مسلسل قيامة أرطغرل

بعيداً عن الجدل المثار حول شخصية الشيخ ابن عربي الأندلسي وهل التقى بأرطغرل أم لا من الناحية التاريخية ، لقد تطرق المسلسل من خلال دور ابن العربي وعلاقته بأرطغرل إلى قضية محورية كان لها تأثيرها الكبير في تاريخ الأمة الاسلامية فى عصورها الزاهرة وهي دور العلماء في نصح و إرشاد الحكام و السلاطين والقادة نحو قيادة الأمة قيادة راشدة والمساهمة بدور فاعل في صناعة مجدها على أساس من القيم والأخلاق القويمة لهذا الدين ، فتاريخ أمتنا حافل بأدوار مشرفة للعلماء فى معاركها الكبرى ، حيث برز دورهم في إثارة روح الجهاد في الأمة  ، بل شارك بعضهم بالفعل في أعمال الغزو والجهاد ..

دور بعض القضاة في مسلسل قيامة أرطغرل

فعلماء مثل القاضي كمال الدين الشهرزوري – زمن عماد الدين زنكي وابنه نور الدين – والقاضي الفاضل والقاضي بهاء الدين بن شداد والفقيه عيسى الهكاري والعماد الأصفهاني – زمن صلاح الدين الأيوبي – كانوا يحتلون المكانة العالية عند أمرائهم، ويكلفون بالأعمال السياسية ومهمات التفاوض والمراسلات مع الخلافة أو الحكام الآخرين؛ فضلاً عن المشاركة الفعلية في إدارة البلاد وأعمال الجهاد.

فالعلماء عماد الحكم الرشيد ومصابيح الدجي للأمم فى المدلهمات والمحن القاسية وعليهم تقع مسؤولية النصح والارشاد لاقامة الحق والعدل وسياسة الناس، و لا تقوم للمالك الناشئة  قائمة إلا بوجود علماء أجلاء ينصبون ميزان العدل فى الأمة ويقومون مسيرة الحكام إذا انحرفت عن الطريق الصحيح و يبثون الأمل في نفوس الناس ويشعلون جذوة الحماسة ويحيون فيهم روح الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله ومن يقلب صفحات التاريخ سيرى الدور العظيم الذى لعبه علماء الأمة الربانيين على مر التاريخ. وهذا ما نجح في تقديمه المسلسل بامتياز.

تحديد العدو ومعرفة وسائله في مسلسل قيامة أرطغرل

حبك كاتب السيناريو عدداً من المؤامرات الداخلية والخارجية التي كانت تحاك دائما لأرطغرل وتستهدف مشروعه في إقامة الدولة ليشير بوضوح إلى أن أعداء الأمة ليسوا خارجها فقط بل هناك أعداء في الداخل من بنى جلدتها قد يكونوا في مراكز صنع القرار ومن أدعياء حماتها و قد يتقلدوا أرفع المناصب فيها وهم أشد عليها بأساً من أعداء الخارج وهم “الخونة” فهم الخنجر المسموم في ظهر أمتنا منذ عهدها الأول.

فالعدو الخارجي مهما بلغت قوته فإنه لا يستطيع أن يخترق الأمة ويصيبها في مقتل إلا عن طريق الخونة والعملاء من بنى جلدتها وأبنائها ، وإليهم يجب أن تفطن الأمة لتقطع دابرهم حتى تتفرغ لعدوها فى الخارج وهذا ما حرص عليه أرطغرل فى مشواره لتأسيس دولته وتحقيق غايته  .

ضرورة الوحدة وخطورة الفرقة في مسلسل قيامة أرطغرل

قام مسلسل “قيامة أرطغرل” بتسليط الضوء عبر أحداثه على أهمية وضرورة  الوحدة والارتباط  بين عناصر الأمة فى مواجهة المؤامرات والأعداء وخطورة الفرقة والتشرذم والاختلاف على أمنها وأحلامها واستقرارها وكيف أن الفرقة  تجعل من الأمة فريسة سهلة لأعدائها لذلك لابد من الاعتصام بالله والالتفاف حول غاية واحدة حتى تعود للأمة عزتها وقوتها . وهذا ماكان يدعو له أصحاب “اللحي البيضاء” وحكماء الأتراك ويبحثون ويفتشون فى الأمة عن قائد يجمع الأمة على أهداف سامية وغاية واحدة ويقضى على عوامل الفرقة فيها ويحبط مخططات أعدائها الذى يستهدفون وحدتها لأن فيها سبيل عزتها وقوتها .

وختاماً : لايزال هناك الكثير من الدورس المستفادة التي قدمها المسلسل في صناعة وعي الأمة بتاريخها بكل مافيه من نجاحات واخفاقات ، وانتصارات وتضحيات عظيمة ساهمت في صناعة مجدها وعزتها ، لنستلهم من التاريخ لفهم الواقع والانطلاق نحو المستقبل الملئ بالمبشرات    .

شاهد برومو مسلسل قيامة أرطغرل

أضف تعليقك هنا

محمود المنير

محمود المنير

كاتب في الشأن السياسي والشأن العام