هدى حسين .. مَدرسة، تربية، غارسة قيمة، وصانعة أمل !

( أمل ) .. ثلاثة أحرف تختزل بحارًا من النُبل ، العطاء ، البذل ، الصدق ، وكل الإنسانية. الأمل بذرة .. إن سُقِيَت بـ العطاء ، التفاني ، والحب الطاهر كَبرت وأزهرت بـ أسمى القِيَم والصفات.

إن كنتُ أرى الأمل على هيئة إنسان ، فـ لن يكون هذا إلا في شخصية واحدة أفنت سنوات عمرها معطاءة بلا طلب لـ رد الجميل ، اكتفت بـ رؤية ما أنتجه مسرحها على أرض الواقع عبر أجيال تتابَعت ومازال روّادها أوفياء لـ خشبتها لما تغرسه في أنفسهم من تربية ، خير ، شفافية ، بلا تصنّع ، و وضوح يصل القلب ويلامس الروح الطامحة لـ كل ما يُبهج ويَعمر البلدان من أخلاقيات وأساسيات تَبني مجتمعات. ولعل ما وَسَمَتهُ على مشاركتها يكفي لـ تبيان عَظمَتها ومدى إنسانيتها .. فـ تحت مظلة “ اغرس قيمة ، تبني أجيال “ أعلنت ( هدى حسين ) مشاركتها في مبادرة ( صُنّاع الأمل ).

لست بـ صدد ذكر أعمالها ولا تكرار معلومات حُفِظت عبر الزمان عنها ، بل أتمنى أن أستطيع شرح وإيصال ما تعلمته شخصيًا منها عبر سنوات عمري. كيف لا وهي جزء من تربيتي ، جزء من قِيَمي ، جزء من أخلاقياتي ، جزء من مبادئي ، وجزء لا يتجزأ من حياتي. عبر الزمان ، ومع اختلاف الوقت والمكان .. قدّمت ( هدى حسين ) عبر المسرح ، التلفاز ، وحياتها الخاصة أعمالًا جَمّا تزرع الاطمئنان في قلب كل باحث عن الأمل ، فـ الدنيا مازالت بـ خير.

المسرح :

أكبر وأهم وسيلة استخدمتها الرائعة بـ رسالتها ، النقيّة في اختياراتها ، والصادقة في عطائها لـ ايصال وتربية الأجيال التي تتابَعت على خشبتها لـ تقوم بـ دورها الشخصي في بناء مجتمع سليم ، بـ أفكار نيّرة ، أخلاق حسنة ، ومعتقدات سليمة. من مُنطلق شخصي ، أستطيع القَول – بلا مُبالغة – أن ثلاثة أعمال فقط من أعمال ( هدى حسين ) المسرحية كانت كفيلة بـ هَيكلة جزء لا يُستهان به من شخصيتي. فـ مَن يمكنه استغفال الجُمل والمقاطع الرّنانة من مسرحياتها والتي بـ طريقة أو بـ أخرى كان لها وجودًا حقيقيًا في حياة من أحبَّها وانتهج نَهجها ؟ بل أنه وفي وقت عرض المسرحيات كانت تُمثّل بعضًا من أجزائها في رياض الأطفال وأنشطتهم في المدارس كـ فقرة تربَوية ومُسليّة في نفس الوقت لِما كان لها من الحب والقَبول في قلوب الأطفال وأهاليهم في ذلك الزمان وحتى يومنا هذا.

ليلى والذيب

فـ في ( ليلى والذيب ) بـ أجمل خِتام رَددنا معها “ هيا بنا هيا ، نتكاتف كلنا “ ، وعبر فَصليّ المسرحية نستطيع استشفاف أجمل الصفات والأخلاقيات ؛ حماية الوطن ، طاعة الوالدين ، الصدق ، التعاون لـ قطع جذور الشر وغرس بذور الخير ، وغيرهم الكثير الكثير. مرورًا بـ ( الواوي وبنات الشاوي ) التي بـ دورها تحمل من القِيَم والرسائل ما لا يقل أهمية عن سابقتها ؛ القوة الحقيقية هي قوة العقل لا العضلات ، الرفق بـ الحيوان ، عدم الثقة في غريب حتى وإن أبدى طِيبه ما لم تَتيقّن من طِيب معدنه ، الإعتماد على النفس ، التضحية ، وغيرهم العديد مما يُمكن استخلاصه من ساعة ونصف من العرض المسرحي الهادف. أخيرًا ومسك الخِتام بـ مسرحية ( البنات والساحر ) أرسلت أيقونة مسرح الطفل دروسًا عديدة بـ تدرّج سلس بين أحداث المسرحية لا يُمل من مشاهدته أبدًا. بعضًا من دروس المسرحية الأسطورة هي : حب القراءة ، طاعة ومساعدة كبار السن ، الحوار هي اللغة التي تجمع ما تضاد من الآراء ، لا يمكن لـ شر أن يدوم مهما طالت مدته والبقاء لـ طريق الخير ، الاعتراف بـ الخطأ والعمل على تصحيحه. وبـ التأكيد لا يمكن نسيان المقاطع التي لا يسعنا إلا الوقوف تصفيقًا لـ عِظَم وعمق فكرتها حين كانت تُمثل ( هدى حسين ) شخصية (سنووايت) مُخاطبة الملكة :

“ مولاتي مولاتي ، كل شي ماضي لـ الزوال

صدقيني صدقيني ، عمره ما دام الجمال

بـ النهاية كل شي ما له قيمة

غير الأخلاق الكريمة

والإنسان مهما كبر .. بـ ينتهي من دنيته

واللي يتبقّى بـ الآخر .. أفعاله وسُمعته “

وفي ختام المسرحية ومن ضمن الجُمل الراسخة في العقول هي : “ الجمال جمال الروح من الداخل ، وإلا جمال المظهر ترا زايل “. كل هذا بعضًا مما يمكن استنباطه من ثلاثة أعمال فقط لـ الغنية عن التعريف ، وليتني أملك المُتسع لـ سرد جُل ، كل ، وأدق التفاصيل في شخصيتي التي تربّت على صوت وقِيَم ( هدى حسين ).

وفي إطار المسرح أيضًا ، قدّمت ومازالت ( هدى ) تُقدّم أسمى وأرقى معاني التواضع حين تقتطع جزءً من راحتها ، وقتها ، وبدلًا من اختزان شيئًا من طاقتها كانت ومازالت وفيّة لـ تقاليدها وعاداتها ، حين تُخصص وقتًا بعد انتهاء العرض لـ التقاط صورًا تذكارية مع مُحبيها من كِلا الجنسين ، كافّة الأعمار ، ومُختلف الجنسيات رغم كل الظروف وأيًا كانت. لم ولن أنسى الموقف الذي جمعني بها حين كانت تعاني من إصابة في يدها كانت قد تعرّضت لها قُبيل عروض مسرحيتها ( ملكة الظلام ) في أيام عيد الأضحى المبارك .. صُدمت حتى الدهشة بـ إزالتها لـ “ اللفة “ من على يدها ، وحين سؤالي لها عن حالها أجابتني بـ “ تعورني شوي “. ولكن ، كان جليًّا أن الألم لم يكن بسيطًا ، إذ أن الإصابة كانت حديثة وكفى بـ انتفاخ يدها دليلًا على هذا. أفخر حقًا حين أصف نفسي بـ المحبة لـ مثل هكذا قامة فنيّة كبيرة ومخضرمة وفي ذات الوقت مُتفانية ومتواضعة ولم ينل منها الغرور شيئًا يستحق الذكر.

التلفزيون :

منذ “ حبابة – ١٩٧٦ “ وحتى “ حياة ثانية – ٢٠١٧ “ تخللت مسيرة ( هدى حسين ) التلفزيونية عدة أعمال كان طابعها تربوي ، تعليمي ، وثقافي بـ المرتبة الأولى .. وحين ذكر التربية والتعليم ، فـ إن أول ما يجيء على البال هو البرنامج التعليمي الهادف والذي نشأ عليه جيل الثمانينات والتسعينات ، بل ومازال حتى اليوم عمل فريد من نوعه ، وهو “ افتح يا سمسم “ .. وكانت هدى قد شاركت فيه بـ تجسيد دور ( القطة العبلة ). وعلى ذكر البرامج ، لـ ( هدى ) برنامج “ تناتيف – ١٩٨٩ “ في قطر والذي طرح قضايا اجتماعية وسعى لـ نشر الوعي بـ خصوص بعض العادات السيئة المتفشيّة في المجتمع الخليجي ومحاولة تصحيح تلك العادات وغيرها من الأخطاء.

المسلسلات

وفي إطار المسلسلات ، لا يمكن التغافل عن العمل المُخلّد بـ جزئيه ” إلى أبي وأمي مع التحية – ١٩٧٩/١٩٨٢ “ مع نخبة الفنانين على رأسهم حياة الفهد والراحل خالد النفيسي. مسلسل تمت كتابته على أسس وقواعد تربوية مع انتقاء لـ كل لفظ وحرف في النص والحوار. قد لا يُلحظ أثر المسلسلات بـ سهولة كـ المسرحيات كَون الطابع الدرامي هو الطاغي غالبًا في عالم المسلسلات ، لكن هذا لم ولن يتنفى يومًا مع قِيَم ( هدى ) عبر السنوات. فـ أنبل الصفات ، خير الأوصاف ، وأجمل الأخلاق يمكن إحساسها من خلال أعمالها على شاشة التلفاز في سنوات وأعمال متفرقة كـ “ أبلة منيرة – ١٩٨١ “ ، “ عائلة فوق تنور ساخن – ١٩٨٤ “ ، “ مدينة الرياح – ١٩٨٨ “ ، “ العائلة – ١٩٩٠ “ ، “ حياتي – ٢٠٠٣ “ ، “ أميمة في دار الأيتام – ٢٠١٠ “ ، “ لك يوم ٢٠١٥ “ ، “ جود – ٢٠١٦ “ ، وأخيرًا آخر ما قدّمت “ حياة ثانية – ٢٠١٧ “. أعمال حملت في طيّاتها دروسًا تربوية واجتماعية عدة وحتى دروسًا وطنية. وعند ذكر الأعمال الوطنية ، لا يمكن لـ دورها في هذا الجانب أن يكون طَيّ النسيان ولو لـ وهلة. فـ عدد الأوبيريهات وما غنّته حُبًا في الكويت مع مجموعة من المطربين يُغني عن الإسهاب في هذا الموضوع.

حياتها الإجتماعية :

بعيدًا عن الأضواء ، الكاميرات ، المقابلات ، والمقالات ، وبعيدًا عن عطاءاتها التربوية والمعنوية .. لـ ( هدى حسين ) مساهمات وطنية واجتماعية تُثلج الصدر ويقشعر لها البدن حين استذكارها. ولعل أبرز ما يحضر البال هي مساهماتها في حرب الخليج وامداداتها المادّية لـ الكويت حسبما ذكرت وبـ شهادة الراحل علي المفيدي ، إذ أنها كانت تواصل تقديم عروضها المسرحية في قطر وكان عائد المسرحيات يتحوّل لـ وطنها بـ التواصل مع الثُقاة ، بـ الإضافة لـ بيعها لـ ذهبها الخاص حتى تزيد من القيمة المالية المُقدمة لـ مساعدة أهل الكويت في الشهور العصيبة تحت استبداد الغزو الغاشم. كانت قد شاركت ثلاث مرات كـ عضوة لجنة تحكيم في جمعية KALD الكويتية لـ مساعدة الطلبة ذوي صعوبات التعلم آخرها كان قبل أيام قليلة بـ تاريخ ١١/مارس/٢٠١٧. عطاء ( هدى حسين ) لا توقفه حدود ولا تُعيقه مسافات ، فـ قد كانت لها مساهمة وزيارة مؤخرًا  لـ “ مدرسة الأمل “ لـ الصم في الشارقة. وفي ذات الزيارة ، ساهمت في ندوة بـ إلقاء كلمة في مهرجان الشارقة القرائي لـ الأطفال.

مثل هكذا مساهمات وأعمال خَيرية تكون تحت الستار ، وهذا مجرد نقطة من بحر عطاء ( هدى ). لكن يمكن اختصار كل ما قدمت وكل ما سـ تُقدّم من أعمال خيرية بـ مقولة كانت قد قالتها في عدة مقابلات ولقاءات : “ الفلوس تروح وتجي ، أهم شي تحقق السعادة لـ اللي حولي “. بـ الإضافة لـ هذا ، ( هدى حسين ) لم يكن اهتمامها مُجرّد تعليم الأطفال من خلال مسرحياتها ، برامجها ، أو المحتوى الغني لـ عدة أعمال تيليفزيونية فقط بل إنه بـ فعل ملموس ومحسوس ، ولعل اكمالها لـ دراستها بعد سنوات الإنقطاع الطويلة أكبر رسالة توجهها ( هدى ) لـ العالم عن أهمية التعليم في حياة الفرد وأنه الأساس لـ أي شخص مهما بلغت إنجازاته على كافة الأصعدة ، ضاربةً بـ الزمن عَرض الحائط في سبيل تكليل مسيرتها الحافلة فنيًّا بـ ثقافة تعليمية تزيدها رِفعةً ، مكانةً ، ولـ تبعث رسالة لـ العالم مفادها : “ التعليم أولًا “.

ولأن التعليم لا يقتصر على مقاعد الدراسة ، تساهم ( هدى حسين ) بـ خباراتها في تعليم الجيل الجديد من الطاقات الشبابيّة بـ الإستعانة بـ خبراتها على شاشة التلفاز وخشبة المسرح وهي ما استمدّته وتعلمته من عمالقة الفن أمثال مريم الغضبان ، حياة الفهد ، خالد النفيسي ، علي المفيدي ، سعاد عبدالله ، وغيرهم الكثير.

تعتمد ( هدى ) على قاعدة شبابيّة في أعمالها طمعًا منها في تثبيت أقدام هؤلاء الشباب في الوسط وامدادهم بما يحتاجوه من مساعدة خلال المد والجزر في عالم الفن .. لـ ذلك ، نرى أدوار رئيسية وركائز أساسية في بعض أعمالها يتم اسنادها لـ الشباب. لعل آخر ما يمكننا استذكاره هي مسرحيتها الأخيرة في عيديّ الفطر والأضحى الماضيين “ عائلة آدم “ حين أوكلت مهام الإخراج المسرحي لـ يوسف الحشاش ، إدارة الكواليس لـ الشابة أنفال قوماني ، ولـ عبدالله عبدالعزيز  نصيب هندسة الديكور. ولأنها تؤمن بـ التجديد وتبادل المعارف بين الأجيال ، قامت هدى في نفس العمل بـ الإستعانة بـ الفرقة الإستعراضية “ Act Group “ لـ رفع طابع الترفيه على الأحداث خلال فصلَيّ المسرحية.

ختام :

بلغت ( هدى ) منزلة لم يبلغها قبلها ولن يبلغها أحد بعدها ، إذ وصل الحال بنا لـ إطلاق لقب “ أم “ عليها ، ولا أظن أن هنالك أعلى من هكذا منزلة. لقب لم يُطلق عبثًا ولا من مُنطلق حب أعمى ، بل من وقائع وحقائق عشناها ومازلنا نعيشها ونستشعرها كل يوم بعد ما بذلته وقدمته خلال السنين. “ اغرس قيمة ، تبني أجيال “ ليس وسمًا لـ استدرار العواطف ولا مجرد شعار رنان ، بل حقيقة لا يختلف عليها اثنان. قِيَم ( هدى حسين ) لم تعرف حدودًا ، عروقًا ، جنسيات ، ولا أي تراهات أخرى لأنها مَدرسة تحتوي كل من قصدها و وصل بابها بـ كل عطف ، حنان ، وصدق حتى تُخرج أمثلة يُحتذى بها ، طاقات تسعى لـ خدمة المجتمعات ونشر السعادة في كل الأوطان بـ بناء الأساس السليم والقاعدة الصلبة بـ أنبل الصفات والمعتقدات.

( هدى ) .. مَدرسة ، ذات قيمة ، حمامة سلام ، وصانعة أمل

فـ لا عجب ولا صدفة في تقاسمها عدد الأحرف مع الـ ( أمل )

فـ أبسط ما تُوصف به ( هدى حسين ) هو : أمل على قَدمين.

فيديو عن هدى حسين .. مَدرسة، تربية، غارسة قيمة، وصانعة أمل !

أضف تعليقك هنا