الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس: تعدّد المقاربات وصراع الأجندات السياسية

برز مفهوم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على الساحة السياسية التونسية بشكل واضح وصريح منذ سنة 2012، إذْ طرحته بعض القوى السياسية والاجتماعية كواحد من الآليات التي يجب التوجه نحوها لفك الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس خلال السنوات الأخيرة. من أهم هؤلاء الفاعلين كانت منظمة العمل الدّولية والإتحاد العام التونسي للشغل الذي يعمل منذ سنوات على “مشروع قانون أساسي يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني”. بالإضافة إلى العديد من جمعيات وشبكات المجتمع المدني المهتمة بالموضوع والتي برزت أطروحاتها خلال دورتي المنتدى الاجتماعي العالمي اللتان نظمتا بتونس في سنتي 2013 و2015 على التوالي.

لكن من الجدير الذكر أن مسألة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لم تعرف خلال الخمس سنوات الأخيرة وتيرة مستقرة من الحوارات حولها. إذ لم تكن جزء من أجندة الفاعلين السياسيين. كان الاهتمام بها موسميا، يفرضه السياق العام عندما ترتفع وتيرة الاحتجاجات ذات البعد الاجتماعي المطالبة بالتنمية والتشغيل. وقد مثّل الثلاثي الرابع من سنة 2016 أحد هذه المواسم وذلك نظرا للحيز الإعلامي الكبير الذي احتله الخلاف بين وزارة أملاك الدولة وجمعية حماية واحات جمنة[1] حول التصرف في محصول ما يعرف “بهنشير الستيل بجمنة”.

هذا الصراع السياسي- الاجتماعي مكننا إلى حد كبير من معاينة مواقف عديد الفاعلين تجاه هذه المنظومة وأبرزهم: رئاسة الحكومة، وزارة التشغيل، وزارة الفلاحة، هياكل المجتمع المدني المعنية بمسألة التنمية (جمعيات)، الإتحاد العام التونسي للشغل، بعض الأحزاب السياسية المؤثرة ومن أهمها حركة النهضة والجبهة الشعبية وحركة نداء تونس وحركة تونس الإرادة، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من الباحثين والخبراء والفاعلين الأكاديميين.

أول وأبرز معاينة يدوّنها المتابع للنقاش الحاصل بين الفاعلين التونسيين حول مفهوم الاقتصاد الاجتماعي هو الخلاف في المقاربة (حتّى بين الفاعلين المؤمنين بقيمة تجارب الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كبديل جدّي للنمط الاقتصاد النيولبرالي). لكل فاعل مقاربة خاصة تتساوق وأجندته السياسية وما وضع عليها من أولويات.

الصراع حول مفهمة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ليس مسألة علمية بحتة. مقاربة الفاعلين الاجتماعيين أو السياسيين تتأثر بإستراتيجياتهم المتولّدة عن تجربتهم المادّية في الحقل السياسي الاجتماعي. وقد صنفنا ما جمعناه من معلومات محاولين تحديد أربع مقاربات كبرى:

المقاربة التشغيلية: وهو الطرح الذي نعاينه في خطاب رئاسة الحكومة ومن ورائها وزارة التكوين المهني والتشغيل التي تتعهد اليوم بهذا الملف. تكليف وزير التشغيل بالسهر على ملف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في حد ذاته فعل سياسي ذو دلالة تعكس تصور الحكومة. هذا الطرح يعتبر الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وسيلة لخلق مواطن الشغل وخاصة لأصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل.

من الجلي للمتابع أن هذا التصور ينبع من الهاجس المستمر للأحزاب الحاكمة في خلق مواطن الشغل وفك الخناق التي تفرضه عليها الحركات الاجتماعية خصوصا خلال الثلاثي الرابع من كل سنة والذي يتم خلاله إعداد ميزانية الدّولة. ولهذا نجد أن هذه المقاربة تختزل دور الاقتصاد التضامني في توفير مواطن الشغل دون التفكير في ديمومتها أو في مدى نجاعتها وربحيتها ومدى مساهمتها المستقبليّة في الاقتصاد الوطني وهو ما يحصر الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في خانة السياسات الاجتماعية للدولة ويفقده استقلاليته وهويته كقطاع اقتصادي بديل.

المقاربة الشكلية القانونية: وهي المقاربة التي تبنتها مثلا وزارة الفلاحة لحل “أزمة جمنة”، إذْ اقترحت تحويل الجمعية إلى مؤسسة تعاضديه. أطراف أخرى تركز أيضا على هذه المقاربة ومن أبرزها منظمة العمل الدّوليّة والإتحاد العام التونسي للشغل الذي تقدّم بمشروع قانون أساسي يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني يهدف، حسب تعبيره، إلى تنظيم القطاع.

هذه المقاربة رغم أهميتها تفتح بابا لانتقادات عديدة. إذْ تحصر النقاش في أهمية القانون المنظّم للقطاع لكونه مرجع شرعية النشاط الاقتصادي التضامني وتغرق في التفصيلات القانونية الراسمة لحدود المبادرات، معيّنة الأشكال الشرعية للممارسة الاقتصادية التضامنية وبهذا يفقد المفهوم أهم خاصياته وهو مبدأ “الإبداع الاجتماعي” الذي يسمح له بتغذية سيرورة هندسة وإعادة هندسة الصلات الاجتماعية بما يتوافق مع متطلبات السياق الاجتماعي.

مقاربة سياسية نضالية: وهو طرح تتبناه في الغالب منظمات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية اليساريّة، إذْ يقتصر خطابها في المسألة على كون مفهوم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني جاء لترقيع مخلفات رأسمالية السوق وبالتالي فإن هذه المبادرات تندرج ضمن الحركات المناهضة للعولمة وللنيولبرالية الرأسمالية.

هذا الأمر ليس خاطئا، لكن الاكتفاء بهذا الجزء من الخطاب وخصوصا في ظل غياب مبادرات لخلق حاضنات للاقتصاد الاجتماعي والتضامني يجعل من هذا المفهوم مجرّد مرجع إيديولوجي يعوض لدى هذه الأحزاب والتنظيمات الفراغ الذي تركه الخطاب الماركسي الكلاسيكي.

المقاربة العلمية التنموية: وهو طرح يتبناه بعض الباحثين في هذا المجال من خبراء وأكاديميين، إذْ يعتبرون الاقتصاد التضامني آلية بديلة للتنمية وهي آلية مستقلة تعمل ضمن جدلية شراكة وتنافس مع السوق الرأسمالية والسوق العمومية المدولنة ويكون من بين أهدافها خلق سوق تضامنية قادرة على ترويج مخرجاتها وإعادة استثمار فائض إنتاجها ضمن نمط اقتصادي يكثف الصلات الاجتماعية ويخلق معايير إنتاج خارجة عن سلم قيم السوق الرأسمالية.

هذه المقاربة تبدو الأقرب إلى الطرح النظري الذي نطالعه في الأدبيات العلمية التي تهتم بمسألة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. لكن غياب حاضنات ومختبرات الاقتصاد الاجتماعي داخل الجامعات ومراكز البحث ومراكز الخبرة يجعل الجماعة العلمية عاجزة عن التأثير الفعلي ومنفصلة عن واقع الفئات المستهدفة.

في النهاية من الجدير الإشارة إلى أننا لا نتطرّق في هذا المقال إلى موقف كل فاعل ومقاربته بالتفصيل. مثل هذا الطرح يتطلب مساحة واسعة وأدوات منهجية علمية للتقديم. ما قمنا به هو محاولة لاختزال وتقديم أبرز المقاربات المطروحة على الساحة من وجهة نظر نقديّة والخروج ببعض الاستنتاجات الأولية بعد فترة الملاحظة.

ولمزيد التدقيق فإننا ارتكزنا في بناء هذه الاستنتاجات على مجموعة الملاحظات التي جمعناها من خلال متابعتنا للصراع الإعلامي بين الفاعلين (الموالين والرافضين لتجربة جمعية حماية واحات جمنة) بالإضافة إلى خلاصات ما حضرناه من ندوات لفاعلين مدنيين وسياسيين حول موضوع الاقتصاد الاجتماعي والذي كان مثال جمنة من أبرز الأمثلة المطروحة في فعاليّاتها. وقد عكست هذه الندوات وعيا متزايدا بأهمية تطوير مشروع متكامل لقطاع الاقتصاد الاجتماعي التضامني.

لكن هذا المشروع يفرض تدخل جل الفاعلين ومن أبرزهم المبادرون في ذاتهم والفئات المستهدفة من هذه المبادرات. إذْ كثيرا ما نلاحظ تهميش تجاربهم المخصوصة ومحاولات مسبقة لقولبتها ضمن إطار سياسي أو إيديولوجي. هذا التسييس، المبالغ فيه في بعض الأحيان، يخرج بالمشروع عن هدفه الأساسي المتمثل في خلق ديناميكية اقتصادية بديلة تخلق الثروة من خلال إدماج الفئات المعزولة، وتجعل منه مضمونا تواصليا يستخدمه الفاعلون السياسيّون موسميا لتحقيق أهداف أخرى موضوعة على أجندتها كأولويّات، فيحيد هذا “الحوار النظري” عن هدفه المتمثل في بناء مقاربة مشتركة وشاملة ويتحول إلى عامل معمق للخلافات.

 

 

[1] . خلقت جمعية حماية واحات جمنة أزمة كبيرة خلال الأشهر الأخيرة لسنة 2016 وذلك بعد رفضها تطبيق قرار المحكمة الإدارية القاضي بإيقاف تنفيذ مزاد التمور الذي بيع فيه إنتاجها السنوي بمبلغ يقدر بـ 1.8 مليون دينار تونسي. تعرف جمعية حماية واحات جمنة نفسها كتجربة رائدة في قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إذْ تقوم بإدارة الواحة منذ سنة 2011 وهي تظم حسب تعبير مؤسسيها أهالي المنطقة المتشبثين باسترجاع هذه الواحة وتوجيه خيراتها لخدمة الجهة وأهلها خصوص بعد ما عرفته هذه الأرض من سوء تصرف في مواردها على يد المستثمرين الخواص الذين قاموا باستئجارها من الدولة إثر فشل ما يتعارف عليه بتجربة التعاضد. من ناحية أخرى تتشبث الدّولة الممثلة في وزارة أملاك الدّولة بملكيتها القانونية للأرض ولمحصولها وبأحقية التصرف فيها بما يضبطه القانون. ولمزيد الإطلاع يمكن للقارئ مطالعة ما كتبته الصحافة التونسية حول الموضوع.

أضف تعليقك هنا

صفوان الطرابلسي

صفوان الطرابلسي