أمل لن أودعه

استيقظت هادئ القلب، مطمئن النفس، متأملاً مستمتعاً بهدوء الوقت والمكان. متفائلاً، متمنياً دوام الراحة والأمان. تملأني طاقة يغذيها شغفي للاكتشاف.

تهادت خُطواتي نحو مأدبة الطعام فتناولت بقدر يبقيني على هذه الراحة وهذا الاطمئنان فلا إكثار يُتخم ولا إقلال يؤلم.

تسارعت خُطواتي نحو استراحة الفندق وكأني أعلم أن شيئاً مميزاً في حياتي سوف يحدث لا أدري ما هو أو كيف سيحدث ولكن شعرت بذلك. جلست أستوفي نصيب يومي من القهوة، فكيف يحلو اليوم بدونها وخاصة اليوم؟!

أُقلب عيناي في أرجاء الفندق وكأني أبحث عن هذا المميز الذي سوف يظهر ليغير هذه الرحلة أو ربما يغير حياتي بالكامل. فوجدت غرفة لاستقبال الضيوف في حفل كنت مدعواً لحضوره فذهبت لأتسامر مع المنظمين، فلعلي أجد بداية ليومٍ جميل كهذا.

فما أن دخلت حتى إمتلأت عيناي برائعة، ساطعة، ينساب شعرها كالحرير على الحرير، لونه دافئ بين البني والأشقر يحتضن بدراً دائم الكمال، نضراً، متفتحاً، تملئه العينان فوق جماله جمال. وترتسم على شفاها بسمة صافية، رقيقة، عميقة حانية.

فوجدتها تجلس منتبهة لي وكنت كذلك على نفس الحال، فقدموني إليها وتعارفنا، وياله من تعارف ويالها من بداية ويالحياتي كم بدت وقتها رائعة في حضرة تلك الرائعة، وتدفقت الدماء بقوة في عروقي من سرعة دقات قلبي تتسارع أنفاسي وكأني لا أكاد أتنفس، أو كالذي يلهث من الركض. أحاول ترتيب كلماتي لأبدو هادئاً، حدثتها لدقائق مرت كلمح البصر.

قررت الرحيل وقد أخذت معها شيئاً مني.

هاجمتني أفكاري وحاصرتني مشاعري، وهاجت في نفسي ثورة من الأمنيات والأحلام في صحوي وفي المنام.

فجلست .. أغالب نفسي لتتماسك، فغلبتني فأرسلت لها متحججاً كيف حالك“.؟

فلم تطل حتى أجابت بحمد الله والشكر وداعية بدوام المعروف بيننا والبر.

وتمنيت من الله لقاء آخر فما زال الشوق بداخلي ثائراً، اذهب إليها ولا تبقي قلبك حائراً.

فبادرت إليها لو أن لنا لقاء .. تصحبني وأصحبها ونطيل البقاء .. فأعرفها وتعرفني على حد سواء. فذهبت ولم تتأخر حتى هاتفتني من الوقت، بأنها قد قبلت ما طلبت. وانتهى يومي طالما انتهى حديثي معها.

و في يومي التالي كان حدثه الرئيسي حفلاً كنت مدعواً لإلقاء كلمة فيه عن عملي وقد كان. ولكن يومي لم يكن مميزاً حتى حضرت وحدثتها فما أن تقع عيني عليها حتى تلمع عيناي، ويضئ وجهي وتملأ الإبتسامة حديثي. ووجدتها قد رتبت كل شيئ من أول يوم إلى الحفل وحتى آخره. ولفت انتباهي أنها تأتي من أقصى الشمال ونحن في المنتصف فقد كانت اقامتي في بيروت.

وشعرت وقتها أننا لسنا غرباء لم يمر على تعارفنا أكثر من ساعات، بل وكأن أرواحنا قد تلاقت وأنس كل منها بالآخر حتى تلاقت الأجساد. ورجعت إلى مسكنها في أعلى البلاد. وأنا أعد الساعات والدقائق بل والثواني!

وأما حالي وما بدى في عيني فأمر ثانٍ. وتمنيت حينها لو أن الله يطوي الأرض والزمان، فأكون عندها ومعها الآن.

ولم أكد أنام، وكيف ذلك وصورتها تضيئ ما وسعت عيناي أن تدركه. فإن أغمضت عيني فبركان شوق وقلبي يحركه. غفوت على هذا الحال، واستيقظت على رنين هاتفي يتراقص ليُعلمني أنها قد اقتربت. فنهضت كالذي أصابه مسُ، أركض في أرجاء الغرفة ملاحقاً ثيابي. أين قميصي؟ أين حذائي؟ بل أين دولابي.؟!!

وما هي إلا دقائق، حتى أسرعت لتناول شيئاً يسيراً من النقانق. وقد تهيئت لحضورها، وخرجت مترقباً ظهورها، لحظات وسطعت كشمس الشتاء الدافئة. متألقة، متأنقة كعادتها. فتسارعت خطواتي إليها تغمرني سعادة من داخلي، لا أعرف لها أسباباً إن كنت سائلي.

انطلقنا .. ولم أكن أعلم أن يوماً لم أعش مثله قد بدأ.

أخبرتني بما خططت له لقضاء اليوم. وبدايته أننا سنعتلي أعلى قمة بالشمال، أشجار وثلوج وجبال. رمزُ كل لبناني به يعتز، إنها أشجار وجبال الأرز.

طريقنا لا يوصف فأي كلمات تلك التي تصف طبيعة عذراء، أنهار وبحيرات وجبال شاهقة خضراء. لم يمسها بشر إلا بحذر، طبيعة تنفجر بالحياة، فأناس وبيوت تعانق السماء. وكأن الجبال قد أنبتت بيوتاً ليعيش البشر بين كل هذا الجمال الخلاب. ولم يكن أروع من كل ذلك إلا أنني بصحبة ملهمة الرحلة وقلب القصة وأول الحكاية ومن لأجلها كتبت هذه الكلمات.

فلم أكد أتأمل حلوى إلا لأرجع إليها النظر متأملاً عيناها ومستمتعاً بحديثها الرقيق الكاشف عن عقلٍ راجح .. وتجربةٍ ثرية .. ونفسٍ راضية .. وروح دافئة .. وقلب ينبض بالحياة.

منحتني شعوراً بأني مَلِكاً يفعل ما يحلو له رُغم أني كنت أجتهد لأرى في عينيها سعادة مثل ما كنت سعيداً بوجودها.

ومضى الطريق سريعاً والوقت أسرع، فها قد وصلنا إلى قمتنا، فجلست لأتناول قهوتي أمام جبال الأرز. ويالها من جبال، امتداد لا يرى آخره، يغطيه بياض الثلج أينما نظرت. تشعر أنك إن رفعت يدك ستلامس السماء وكل ذلك في جوٍ دافئٍ فالشمس تضيئ فوقك ويتلألأ ضوء على الثلج تحت قدميك. وبجواري حورية تغمرني اهتماماً وسعادة فتسألت حينها .. كيف الجنة إذاً؟؟!

أغرمت بذاك المنظر، وذهبنا أكثر لعمق الجبال، امتطي آلة مُعدة لذلك وهي من خلفي تتشبث بي فاندفع الأدرينالين إلى رأسي فغمرتني حماسة عارمة فانطلقت بتلك الآلة وأنا أشعر أنني طائر وسط الجليد.

فلاحقني رجل ضخم على آلته ليخبرني بضرورة تتبع خطاه والسير حيث آراه، وقد كان !!

وما لبثنا حتى توقفنا لالتقاط الصور فوق قمة الجبل.

ولم نغادر حتى أهدتني قطعة من شجر الأرز عليها اسمي. فجُمع لي بذلك جمالان، جمال بذكرى المكان .. وجمال بذكر من جعل المكان جميلاً.

نزلنا إلى بحيرة شهيرة في الشمال ولم نطل!

فقد كانت بنا حاجة لزيارة السوق القديم في طرابلس، فقد وقع في نفسي أن أرى لبنان بكل صورها.

وصلنا إلى السوق القديمة منطقة على بساطتها إلا أنها مفعمة بالحياة. فيها أصالة وحياة غير متكلفة وأسواقها قريبة الشبة بأسواق مصر الشعبية إلا أنها تختلف في كثير مما تقدمه.

خرجنا متوجهين إلى برج السمكمطعم شهير بالميناء، وفي طريقنا مررنا بيت العائلة ومكان عملها وكأني رويداً رويداً أشعر بانتمائي لهذا المكان، وتسائلت: هل أحببت المكان حقاً أم أحببت ساكنيه؟ .. فلو خيروني بين رفقة تصاحبني أو بيتاً أرتضيه .. لأخترت صحبة فيها خيراً أرتجيه.

الآن نحن بالمطعم .. مكان هادئ جميل، يبعث على الراحة. حيثما تجلس ترى البحر. وتداعبك نسماته التي تحمل رائحة الطهو. منظر يحملك على الأكل إن لم يكن لك حاجة به، فما بالك إن كنت تضور جوعاً بعد نهار طويل جميل كهذا.

شهية منطلقة ومنظر رائع، ومكان هادئ، ورائعة تجلس أمامك. يا إلهي كيف كان هذا الغداء ممتعاً. فلم يكن مجرد غداء .. بل كان كذلك أروع لقاء .. أشبعت فيه قلبي وعقلي، وأكلت حتى الإمتلاء. وأضاف إلى غدائنا تميزاً أن طاهينا كان مصرياً فأحتفى بوجودنا فوقر في قلبي أن الله يهيئ لنا يوماً في حياتنا لا ينسى.

وكم كنت متشوقاً لرؤية أهلها، فإن كانت هذه روعة الثمر، فكيف يكون المنبت والشجر.!

فجذبت طرف الحديث لأسأل عن وجهتنا التالية، وأنا أعلم أنها إلى حيث يجتمع الأهل .. قلبي يسبقني إليهم ولكن خطواتي على مهل. ولم يكن سؤالي إلا اخبار .. وكأني أسألها لتختار .. فهكذا طريقتي دائماً في الحوار.

اصطحبتني إلى ذاك المكان الذي ما إن جلست فيه حتى راودني شعورٌ أني معتاد على وجودي هناك، فأناس يرمقونني بنظرات الترحيب والإعجاب .. وكأني من بقية الأهل والأحباب. يجتهدون لضايفتي وحسن المجالسة. وانتقاء الكلمات والحروف بالترحيب والإقبال والابتسامات صنوف.

ونحن على هذه الحالة إذ طَلُعتْ علينا والدتها.

وقار ودين وخلق ولسان لا ينطق إلا بقدر معلوم ولا تقول إلا ما يسعد ولا تنظر إلا ويسبق نظرتها طيبة يغلفها حب وإعجاب، تسمع لمن يتحدث بإهتمام. شعرت بأنها الحلقة التي يتمسك بها الجميع حتى أنا أحببت أن يكون لي موضع فأتمسك بها وقد وقعت في نفسي، فأحسست أني أمام أمي وودت في نهاية لقائنا لو أنني قبلت يداها فيغمرني حبها وعطفها حين تضع يدها على كتفي. وأقبل يداً ربت ورعت من ألهمتني تلك القصة وغمرتني بكل تلك السعادة.

كنت أتوسط الجلوس بين والدتها وأخ كبير وزوجته وأولاده وكل منهم جذب مني طرفاً من الحديث على اختلاف أفكارهم إلا أن مشتركاً واحداً يجمعهم في الجلسة، وهو اتفاقهم على احاطتي بكل هذا الاهتمام فكم كان ممتعاً أن أكون سببا في اسعادهم كما كانوا ولا يزالون سبباً في سعادتي.

وأما هذه الراقية .. كم كانت تحكي ما مر في يومنا بكل فرح وشغف، حديثها كأنه خيط من حرير وذهب، يجمع لؤلؤ الكلمات في عقد .. ولا عجب. فقد حد ثتهم عني قبل التلاقِ حتى أني من فرط استئناسي بهم ما رجوت وقتاً للفراق.

ولكن أتى ذاك الوقت سريعاً، فما زال في اليوم بقية نمضيها ومقصداً نقصده.

فأنتزعتني منهم وانطلقنا رأساً إلى مدينة جبيل” .. وأنا أشعر أنه ليس ثمة سعادة أكثر مما بداخلي في تلك اللحظة.

وصلنا إلى المدينة، عبقٌ يستقبلنا، وتاريخ يمتد لأكثر من ألفي عام يحيطنا، ونسيرُ في حضرته. فيأخذك نمط البناء وعراقة المبنى إلى قصص أسطورية خيالية، تمتزج فيها أصالة الماضي وتنبض بالحاضر.

كل شي فيها رائع وجذاب، طرق قديمة، ومنظر على البحر خلاب. أحجار تتشبث ببعضها لترسم قلاعاً عريقة، وطرقاً عتيقة، وترفع أبراجاً تقف شاهدة على عظم حضارة تذكرنا بأننا كنا أصحاب ذوقٌ رفيع، وأرواحاً دائمة العطاء، نبني لنفنى نحن، ويٌخَلّد البناء. ليحكي عنا قصة بأننا كم كنا عظماء !

حتى ما بٌنيَ حديثاً فيها، لم يخالف تقاليد البناء وأعرافه فكل حديث يحاكي أجداده ويراعي جيرانه فلا يتطاول فوقهم ولا يشوه ذاك النسيج العريق بحداثة زائفة لا تصمد لترافق الزمن. فلو أصابتها ملمات الطبيعة، أو تدافع الناس، انهار بنيانها من الأساس.

فكم من مدن تحيا في القلوب ولسنا نعيش فيها وكم من مدن ماتت فينا ولا زلنا من ساكنيها. فليس المكان ما يعنيني، وإنما ما يعني لي المكان.

ربما نال هذا المكان ما نال من قلبي لأنه آخر محطة توقفت عندها أروع رحلة في حياتي، وربما روعة المكان امتزجت بروعة اللحظات فرسمت لوحة شاعرية أسطورية خيالية بريشة تنغمس في مزيج من جمال الطبيعة، وأصالة المكان ودفء المشاعر وصدق الإحساس. في حضرة نور يلهم الحجر فينفلق عيوناً جارية يشع من رائعة فاتنة راقية تملأ المكان.

تنتهي المدينة إلى شاطئ يحتضن قلعة، لتضيف إلى المدينة رمزاً وهيبة. أمامنا ممشى يشق البحر وقلعة على اليمين وبحراً على الجانبين ويدها في يدي قريبين إلى مدى لم نصل إليه من قبل .. بالروح والقلب والعقل. تقارب كل راقٍ فيه يعلوا .. وما زرعناه في يومنا ينمو ويحلو .. وما نما يزهر ويثمر. فحديث دافئ ناعم وعينان لا أَمِّلَ النظر فيهما. ولا أفعل إلا لأنظر عثرات الطريق حتى لا أقع فأتركها أو تقع فأدركها.

وبقينا على هذه الحالة لا ننتبه لوقت ولا بشر فكأن الوقت لحظات وكأن البشر خيالات. ولكن أحاط بنا الظلام وكأننا في نهاية القصة، وكأن هاتفاً يخبرنا لا تذهبوا أبعد من ذلك فقد حان أوان الرجوع. لم يبقى إلا أن ترافقني لأعود، وقد امتلأت تفائل وإقبال، يبرق في نواظري سؤال يدفعه سؤال، عن الكائن والممكن والمحال.

هل سأعود من حيث أتيت؟ لتتكرر أيامي كلما أصبحت وكلما أمسيت؟

هل يمكنني البقاء؟ هل هكذا انتهى اللقاء؟

هل يوماً سأعود؟ هل أقطع بذلك الوعود؟

هل تغمرني السعادة بذكرى هذا اليوم؟ 

أم أشعر بالحزن أن يومنا أصبح ذكرى؟

هل سنبقى معاً رغم الفراق؟ أم تتخطفنا لوعة وعذاب واشتياق؟

ثورة من الأسئلة دون إجابات عن المستقبل والحاضر والمآلات ..

ولكني مؤمن أن ما قُدر لي حتماً آت .. وإني لراضٍ في جميع الحالات.

فيديو أمل لن أودعه

أضف تعليقك هنا

إسلام عبد السلام

إسلام عبد السلام