الدور الاجتماعي للمصمم الجرافيكي

كان الفنانون يتجهون منذ مدة طويلة نحو الغيتو * سواء كانوا فقراء او اغنياء. بينما تم إخضاع الناس الآخرين الى الاعلام الجماهيري الجمالي الرئيس – او لأكثر الناس حرماناً – الى بقاياه. يعمل المجتمع الغربي بسرعتين مختلفتين. بالنسبة للاقلية، فقد اصبح عالماً من الهدوء في حيز الوجود الذي يعني فيه التصميم نوعية أصيلة. يمكن أن يكون الفن جزءاً من الحياة، فهو عالم يمكن أن يتطور فيه الواقع البشري والملموس. اما بالنسبة للبقية – الاغلبية – ما هو معروض هو العكس تماماً. الفن هو شيء يتم زيارته في تحفظات، والإنسجام الروحي هو التواجد في عوالم اخرى دينية او كيميائية.

إن عدم المساواة آخذة في الازدياد وأن الحلم الانساني لتوحيد تاريخ كوكبنا في المنطق الرأسمالي للشركات المتعددة الجنسيات اصبح معياراً اختزالياً من الناحية العملية. وبالتالي فقد كان من المنطقي إعطاء الفنون والفنانين وظيفة الترفيه والتزيين، في حين إن التقنيين يهتمون بالانتاج الفعال.

إن تقسيم العمل هذا يعادل الإذعان التام فيما يتعلق بالمبادئ التي يقوم عليها التصميم. وقد ولد الانقسام بين الفنان كمبدع والحرفي كفني من رماد تلك المبادئ التأسيسية وهو يمثل عودة الى العصر الحجري.

أن الهوية الفردية للفنان والفني في شخص المصمم الجرافيكي تشكل الأساس لقدرته على تأكيد دوره بقوة – وعلى إتخاذ مبادرة مميزة بوصفه فردأ هو جزءاً من الحضارة. ان الوظيفة الإجتماعية للمصمم الجرافيكي هي موضوع يجب ان يتم تناوله من خلال الآراء والإقناع بدلا من المنطق والمعرفة.

تستند المسؤولية الاجتماعية للمصمم الجرافيكي الى الرغبة في المشاركة في خلق العالم الأفضل. ويبدو من السهل الإعلان عن هذا المبدأ ولكن نظرا لتناقضات الحياة الحقيقية فإن المبدأ لا يؤدي بسهولة الى قواعد السلوك العملية.

النقد الاجتماعي

إن أي تقييم للبعد الاجتماعي للتصميم الجرافيكي يجب أن يتم دائماً في ظرف معين ومحدد، وهذه مهمة صعبة. نحن نعيش جميعاً في المجتمع ولكن من حسن الحظ ليس في المجتمع نفسه. إذ يتكون انتاج الاتصالات البصرية الحالية أساساً من الإعلانات. إن الإنتاج البصري في الاعلانات متطور جداً ويتوضح بشبكات الوسائط الاعلامية الضخمة التي تتجاوز الحدود والانقسامات الثقافية. وقد وضع النقد الأساس لها الناقد الماركسي (جون بيرغر) في كتابه ”طرق الرؤية“. ويوضح أن ”الإغراء“ هو اختراع حديث من حيث الصور وهو تعبير عن السعي نحو السعادة الفردية التي تُعد حقاً عالمياً.

ويستمر (بيرغر) في القول إن ”الإعلان يحول الاستهلاك الى بديل للديمقراطية إذ إن خيار ما يأكله الشخص (او ما يرتديه من ملابس او ما يقوده من سيارات) يأخذ مكان الخيار السياسي المهم، ويساعد الإعلان على اخفاء وتعويض كل ما هو غير ديمقراطي في المجتمع كما أنه يخفي ما يحدث في بقية العالم.“

هناك فرق بين الإعلان والتصميم الجرافيكي. إذ إن الإعلان اليوم مركزيٌ اكثر فأكثر وعالميٌ وعام، وبالتالي، موحد – مثل القوى الاقتصادية التي تنتجه، والمنتجات التي يتعامل معها. ومن ناحية اخرى، يستمر إبداع التصميم الجرافيكي ويهيكل نفسه بطريقة مستقلة ومتنوعة – في اتصالٍ مباشر مع أنسجة اجتماعية محددة لمختلف المجتمعات في جميع انحاء العالم. هذا التنوع هو الذي يوفر امكانية تطوير الإتصالات الجرافيكية في جميع انحاء العالم في المستقبل.

اذا نظرنا الى تمثيل مبسط للإتصال البصري، فاننا نرى أن لديه مواضيع بث (العملاء والمصممين الجرافيكيين)، ورسائل ومواضيع (الغايات والنهايات والمنتجات)، ومستقبلين (الجمهور والمستهلكين) مع احتياجاتهم وتوقعاتهم. ثانياً، يحدث التواصل في اطار زمني ملموس. إذ إن الصلة بين هذين الاقتراحين تعطينا البعد الاجتماعي للتصميم الجرافيكي.

من وجهة نظر الزمن، يمكن للمرء تصنيف الاتصالات بواسطة مقياس. احدى النهايات إذ نجد التصميم الجرافيكي الذي يُسمى التصميم الجرافيكي للديمومة، والذي يهدف الى المدى المتوسط والطويل، في الطرف الآخر من المقياس هناك التصميم الجرافيكي الوقتي الذي يهدف الى المدى القصير.

من وجهة نظر المكان، هناك ايضاً فئتين رئيستين من التصميم الجرافيكي: التصميم الجرافيكي المدمج مع بنية فيزيائية او هوية، والتصميم الجرافيكي المستقل. نلاحظ ان التصميم الجرافيكي المستقل غالباً ما يكون قصير الاجل، بينما التصميم الجرافيكي المدمج هو اكثر دواماً، كلاهما متفاوتان بحسب الزمان والمكان.

التصميم الجرافيكي الدائم

ما هو المشهد الإنموذجي للتصميم الجرافيكي الدائم؟ انه يتألف من العمارة والتصميم الحضري وشبكات الصحف والمخططات والخرائط والرسوم البيانية، والكتب المرجعية مثل الاطالس والكتالوجات والتقاويم والإشعارات واستمارات التعليميات والعلامات والخطط والانظمة التصويرية. تعمل جميعاً نحو التعبير البصري للتنمية الهيكلية العامة.

يتم تحقيق الهدف من هذا النوع من التصميم الجرافيكي (الدائم والمدمج) من خلال دمج الرسالة (الشكل والمحتوى) مع المجتمع. ويؤكد القيم الثابتة ويطالب بقبولها. فهو يحول الفكرة والحكم والقيمة الجمالية الى واقع ملموس ”طبيعي“. يتم تقديم التصميم الجرافيكي بشكل عام على أنه وظيفي، ولكن الدور الرمزي الذي يلعبه بسرعة يصبح دائمياً ويأخذ وظائف جديدة وهو ما يطلق عليه التكامل الأيديولوجي.

في الماضي القريب كان التصميم الجرافيكي الدائم والمدمج وسيلة للعديد من التطلعات الانسانية والقيم التقدمية الكبرى، واليوم وبالتزامن مع هدم وسائط الاعلام والتقلص التدريجي للعالم، فان هدف الإجماع الاجتماعي يقود هذا التصميم في الغالب الى نسيان حقائق اجتماعية محددة لصالح إنموذج عالمي اعلى، وهو إنموذج ينتج التعبئة والتغليف مباشرة. والتصميم الجرافيكي الدائمي والمدمج هو أحد مجالات الرياضيات التي يعترضها مصمموا الجرافيك الذين يدركون دورهم الاجتماعي.

التصميم الجرافيكي قصير الامد

ما هو المشهد الإنموذجي للتصميم الجرافيكي الوقتي؟ هنا، على النقيض من التصميم الجرافيكي الدائم، يبدو ان المشهد يشمل أفعالاً متنوعة ومحددة: قصص وتناقضات وتأكيدات متباينة او عكسية على الملصقات والصحف والإعلانات والنوافذ والنشرات والبرامج والكتب والمعارض والافلام والفيديو الخ.

يهدف هذا النوع من التصميم الجرافيكي (الوقتي، والمستقل) الى نقل رسائل محددة مرتبطة بحالات محددة. ويبدو أن للتصميم الجرافيكي الوقتي والمستقل طبيعة عكس الطبيعة الوظيفية للتصميم المدمج الدائم. فمنتجاته سريعة الزوال، تجذب الانتباه ثم تختفي.

اذا كان هذا التصنيف – الدائم مقابل الوقتي والمدمج مقابل المستقل -صالحاً، يمكننا أن نخلص الى أن الإجماع الايديولوجي يرتبط بالاستقرار الاجتماعي – الجرافيكي. اي أن الناس يميلون الى التفكير بطريقة متشابهة اذا كان المشهد البصري منظماً وغير متغير. ويرتبط الشعور بالحرية بوجود خلافات عديدة ومتنوعة في التبادلات الحية. ومع ذلك، كما بين لنا (بيرغر)، إن اظهار الحرية هذا هو مجرد وهم عندما تؤدي الاستراتيجية العامة التي خلفه الى الاستهلاك حصراً. الى متى يأتي الشعور بالحرية من خلال الاستهلاك ومتى ينتهي اجتماعياً؟

هذا هو الوضع الميت الذي دفع العديد من مصممي الجرافيك رفيعي المستوى الى التخلي عن التصميم الوقتي والمستقل من اجل المشاريع الدائمة والمدمجة التي تُعد اكثر جدوى.

المصمم والعميل كمؤلفين مشاركين

لننتقل من الأطار الزمني للتصميم الجرافيكي لدراسة مختلف المشاركين وعلاقاتهم. في عملية الاتصال. يشكل المصمم والعميل معا جهاز ارسال وستكون الرسالة نتيجة تعاونهم. لكن من يختار من؟ طبيعياً يحتاج العميل الى مصمم الجرافيك احياناً فقط، سواء كان الترتيب متكرراً او مستمراً.

وخلافاً للمصمم الجرافيكي الذي يبحث عن نوع من الاتصالات يتعلق بطبيعة الرسالة والمستقبل المفترض، فإن مخاوف العميل وكيانه هما بمكان آخر خارج عملية الاتصال. يبحث العميل عما يبدو أنه حل (منتج جرافيكي) لمشاكله في سياق تنافسي. ولهذا السبب يميل العميل الى عد الاتصال أداةً صارمةً ومصمم الجرافيك كمرسل محايد لرسالته. وغالباً ما يكون المفهوم الأدواتي للاتصالات البصرية هو الذي يعتمده العملاء الذين لديهم رؤية ضيقة جداً لدورهم كمرسلين.

ولكن هل يمكن ان توجد الجماليات المحايدة؟ هل يمكن أن تكون رسالة العميل جلية دائماً وليست غامضة ابداً؟ ان الحقيقة التي بين العميل ومصمم الجرافيك ستكون دائماً معقدة وذاتية. وإلا لن يكون لهذا التعاون سبب للوجود ويمكن استبداله بشكل مفيد من خلال الفعل الميكانيكي.

وسيكون من الضروري جداً في السنوات المقبلة جعل التصميم الجرافيكي معروف في بعده الفني والفكري والتقني الكامل. بعد ذلك، سيصبح مصمموا الجرافيك في وضع يمكنهم من التعرف والرد بوعي على الطلبات التي تولد افعالاً اجتماعية يمكنهم دعمها بدورهم كمؤلفين مشاركين.

تُعد فكرة التأليف المشترك الأساس من وجهة النظر الاخلاقية، إذ ان التعاون الضروري بين العميل ومصمم الجرافيك يدفع العميل لمشاركة الموقف الجمالي (لا يخلو من ايديولوجية) للمصمم ويدفع المصمم للقبول بصحة الموقف الايديولوجي لعميله. وهذا هو التوازن الخاص بين المؤلفين المشاركين الذي يسمح للانتاج ان يكون موجهاً نحو الفعل الثقافي والذي بحكم التعريف يكون دائماً محفوفاً بالمخاطر.

إذا كانت هذه الفكرة المهمة لا تعمل في علاقة العميل – مصمم الجرافيك، فإنها ستصبح علاقة خدمة فقط. وفي ظل هذه الظروف تصبح المسؤولية المهنية مجرد وهم.

مصمم الجرافيك والرسالة

إن مصمم الجرافيك كمؤلف مشارك يتحدى اخيراً معرفته وثقافته ومفاهيمه وإخلاصه من خلال الرسالة، ويجب على مصمم الجرافيك أن يحدد الاستراتيجية وأن يكون مُدركاً للاستراتيجيات الاجتماعية الاخرى الموجودة بما في ذلك الاستراتيجيات التي تنشأ عن اوضاع وطنية مختلفة. فيما يتعلق بالرسالة، يطبق مصمم الجرافيك رموزاً تعبيرية وثيقة الصلة سواء كانت مشتقة من الثقافة المحلية او الوطنية او الدولية وبالتالي ينتج العاطفة والمعنى. وكما هو الحال في ”أزهار الشر“ لـ (بودلير)، فإن قدرة مصممي الجرافيك تلك لايجاد مسارات عبر ”غابة مظلمة من العلامات“ تجعلهم فنانين بالمعنى الكامل.

لهذا السبب يصبح من الضروري ربط الدائم والوقتي والمدمج والمستقل من أجل التأكيد على مفهوم واضح ومعقد ثقافياً ليس نخبوياً او شعبوياً او اختزالياً. ولذلك فإن التصميم الجرافيكي الاجتماعي يتوافق مع البعد الثقافي للرسالة، ومع فصاحته في مشروع بعيد المدى للتنمية الثقافية إذ لا تتناقض استراتيجية المدمج – الدائم مع تكتيك الوقتي – المستقل.

ولمواجهة الوفرة القياسية للإعلان يجب أن نعمل من مواقف اجتماعية معينة، من ديناميكياتها المحددة وابعادها البشرية الطيعة. ومن هذا القبيل ستتمكن الوحدات الاتصالية الصغيرة من بناء اعمال ابداعية من شأنها ان تجدد وتطور الثروات البصرية التي حققها المجتمع فعلياً.

اذا كانت القيم الاخلاقية التي أسست التصميم الجرافيكي قد اختفت تقريباً لصالح التسويق المنتصر، فإنها لا تزال تكمن وراء وعي العديد من المصممين والطلاب المنتشرين في جميع انحاء العالم. وهذا الوعي يجب تشجيعه والحفاظ عليه. ويمكننا أن نأمل رؤية هذه القيم تزدهر علناً في مختلف الحقائق الاجتماعية المقبلة.

اطيب التحيات

المقال للكاتب (بيير بيرنارد) وهو مؤسس مشارك لجماعة غرابوس لفناني الجرافيك ما بين 1970-1991 وقد حصل الدكتور راقي نجم الدين على إذنٍ خاص من ارملة المؤلف السيدة (مارشا إيمانويل) بالسماح له بترجمة المقال الى العربية.

فيديو الدور الاجتماعي للمصمم الجرافيكي

أضف تعليقك هنا

د. راقي نجم الدين

د. راقي نجم الدين - العراق

دكتوراة في تقنيات التصميم