شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (3/16)

المقابلة بين حالي المسلمين والإفرنج اليوم ؟

اليوم فقد المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم ، وقد تخلق بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها ، فتجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقًا ، وتتلقى الأسنة والحراب عناقًا ، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس وتضحيتهم للنفوس في الحرب العامة فوق تصور عقول البشر ، كما يعلم ذلك كل أحد ، فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل ، والفرنسيون فقدوا مليونًا وأربعمائة ألف قتيل ، والإنكليز فقدوا ستمائة ألف قتيل ، والطليان فقدوا أربعمائة وستين ألف قتيل ، والروس هلك منهم ما يفوق الإحصاء ، وهلم جرًّا . هذا من جهة النفوس ، وإنكلترا بذلت نحو مليارين ، وألمانية أنفقت ثلاثة ، وإيطالية أنفقت خمسمائة مليون والروسية أنفقت ما أوقع فيها المجاعة التي آلت إلى الثورة ثم إلى البلشفة وهلم جرًّا .

فليقل لي قائل : أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم حتى نعجب لماذا آتاهم الله هذه المنعة والعظمة والثروة وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها ؟!

وقد يقال : إن المسلمين فقراء ليس عندهم هذه الأموال لينفقوا هذا الإنفاق كله ، فنجيب بأننا نوزع هذه النفقات على الأوربيين بنسبة رأس المال ولا نكلف المسلمين إلا الإنفاق مثل الأوربيين على هذه النسبة . فهل تسخو الأمم الإسلامية الحاضرة بما تسخو الأمم الأوربية التي منها مَن قد أنفقت في الحرب العامة أكثر من نصف ثروتها ؟

الجواب : لا . ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا أفرادًا ولا أقوامًا وقد يقال : إن الأمة التركية وهي أمة مسلمة قد أنفقت كل ما تقدر عليه في حرب اليونان ولم تقصر عن شأو الأوربيين في المفاداة بالأنفس والنفائس .

والجواب : نعم . قد كان ذلك . ومن الترك من بذل ثلث ثروته ومنهم من بذل نصف ثروته في هذه الحرب ، ولكنهم لما فعلوا ذلك انقلبوا بنعمة من الله وفازوا ، وحرروا أنفسهم واستقلوا ، وارتفعوا بعد أن كانوا هووا ، وعزوا بعد أن كانوا ذلوا . إذًا الأمم الإسلامية إذا ائتمرت في المفاداة بما أمرها به كتابها كما كان يفعله آباؤها ، أو اقتدت على الأقل بما هو دأب الأوربيين اليوم من بذل النفوس والنفائس في سبيل حفظ بيضتها ، وذود المعتدين عنها ، لم تقطف من ثمرات التضحية إلا مثل ما قطفه غيرها . وانقلبت بنعمة من الله وفضل لم يمسسها سوء . ولكن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية ، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت ، ولا مجاهدة بالمال ، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر  فإن الله سبحانه يقول : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } ( الحج : 40 ) ويقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ( محمد : 7 ) . ومن المعلوم أن الله تعالى غير محتاج إلى نصرة أحد ، وإنما يريد بنصرته تعالى إطاعة أوامره واجتناب نواهيه . ولكن المسلمين أهملوا جميع ما أمرهم به كتابهم أو أكثره ، واعتمدوا في استحقاق النصرة على كونهم مسلمين موحدين ، وظنوا أن هذا يغنيهم عن الجهاد بالأنفس والأموال . ومنهم مَن اعتمد على الدعاء والابتهال لرب العزة ؛ لأنه يجده أيسر عليه من القتل والبذل . ولو كان مجرد الدعاء يغني عن الجهاد لاستغنى به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف هذه الأمة فإنهم الطبقة التي هي أولى بأن يسمع الله دعاءها . ولو كانت الآمال تبلغ بالأدعية والأذكار ، ودون الأعمال والآثار لانتقضت سنن الكون ، وبطل التشريع ، ولم يقل الله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ( النجم : 39 ) ولم يقل : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ( التوبة : 105 ) ولم يقل للمعتذرين عن القتال { لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ( التوبة : 94 ) الآية ولم يقل { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم } ( آل عمران : 195 ) .

لقد ظن كثير من المسلمين أنهم مسلمون بمجرد الصلاة والصيام ، وكل ما لا يكلفهم بذل دم ولا مال ، وانتظروا على ذلك النصر من الله . وليس الأمر كذلك فإن عزائم الإسلام لا تنحصر في الصلاة والصيام ، ولا في الدعاء والاستغفار , كيف يقبل الله الدعاء ممن قعدوا وتخلفوا ، وقد كان في وسعهم أن ينهضوا ويبذلوا   .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (3/16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان