شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (4 /16)

اعتذار المسلمين عن أنفسهم وردّه ؟

يقولون : ليس عند المسلمين ما عند الإفرنج من الثروة والسعة لينفقوا في أعمال الخير وفي مساعدة بعضهم بعضًا . فنقول لمن يحتج بهذه الحجة : إننا نرضى منهم أن ينفقوا على نسبة رؤوس أموالهم كما تقدم الكلام عند ذكر الجهاد بالمال . فهل المسلمون فاعلون ؟ !

إننا نراهم قد محوا رسوم الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي تركها آباؤهم ، فضلاً عن كونهم لا يتبرعون بأموالهم الخاصة ولا يجرون مع الأوربيين في ميدان من جهة التبرع لأجل المشروعات العامة ، فكيف يطمع المسلمون أن تكون لهم منزلة الأوربيين في البسطة والقوة والسلطان وهم مقصرون عنهم بمراحل في الإيثار والتضحية ؟ . فإن العمل لأجل السلطان في الأرض أشبه بالحرث في الأرض ، فبقدر ما تشتغل فيها هي تعطيك . وإن قصرت في العمل قصرت هي في الثمر . والمسلمون يريدون سلطانًا يشبه سلطان الأوربيين بدون إيثار ولا بذل ، ولا فقد شيء من لذائذهم ، وينسون أن الله تعالى يقول : { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 155 ) .

وقد يقولون : إننا جربنا البذل والتضحية ، وابتُلينا بالنقص من الأموال والأنفس والثمرات وصبرنا ولم يفدنا ذلك شيئًا ، وبقي الأوربيون مسلطين علينا ، إني أنقل هذا القول عن بعضهم لأني قد سمعته كثيرًا .

والجواب : هل يقدرون أن يقولوا لنا : إن ما يدعونه من البذل والتضحية يشبه شيئًا مما يقوم به النصارى واليهود من هذا القبيل ؟ أو إنه إذا نُسب إليه يكون نسبته نسبة الواحد إلى المائة ؟!

عندنا مثال حديث العهد هو مسألة فِلَسْطين : حدثت وقائع دموية بين العرب واليهود في فلسطين فأصيب بها أناس من الفريقين . فأخذ اليهود في جميع أقطار الدنيا يساعدون المصابين من يهود فلسطين . وأراد العالم الإسلامي أن يساعد عرب فلسطين كما هو طبيعي فبلغت تبرعات اليهود لأبناء ملتهم من فلسطين مليون جنيه ، وبلغت تبرعات المسلمين كلها 13 ألف جنيه أي نحو جزء من مائة .

فسيقولون : إن المسلمين لا يملكون مثل ثروة اليهود . ونعود فنجيبهم نرضى منهم بأن ينفقوا في مساعدة ملتهم على قدر اليهود والإفرنج بالنسبة إلى رؤوس أموالهم ، ولا نطالب منهم الفقراء الذين لا يملكون ما يزيد على كفاية عائلاتهم . قال الله تعالى : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن

يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ } ( التوبة : 93 ) . ونجيب أيضًا : أنه وإن كان اليهود أغنى بالأموال من المسلمين فالمسلمون أكثر جدًّا بالعدد ؛ لأن اليهود عشرون مليونًا ، والمسلمين نحو من ثلاثمائة وخمسين مليونًا .

فلو أن كلاًّ من المسلمين تبرع لفلسطين بقرش واحد – وهو الذي لا يعجز عنه أحد في العالم مهما اشتد فقره – لاجتمع من ذلك ثلاثة ملايين جنيه ونصف .

فلنترك تسعة أعشار المسلمين ونفرض هذه الإعانة لفلسطين على عُشر واحد منهم أي على 35 مليون نسمة لا غير . وهؤلاء الخمسة والثلاثون مليون نسمة نجدهم حول فلسطين في لمحة بصر . فإن مسلمي مصر وسورية وفلسطين والعراق ونجد والحجاز واليمن وعُمان هم 35 مليونًا . ولنتقاضَ من هؤلاء أداء قرش واحد عن كل جمجمة ، فماذا يجتمع لنا من ذلك ؟ الجواب : يجتمع ثلاثمائة وخمسون ألف جنيه . فالمسلمون قد تبرعوا عن هذه الأعداد كلها بثلاثة عشر ألف جنيه أي بما يساوي نحو ثلثي عُشر القرش عن كل نسمة من عُشر عددهم .

أهذا ما تريدون أن تسموه ( تضحية ) ؟ ! أَوَ بمثل هذا تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ؟ !

أَوَ هذه درجة نجدتكم لإخوانكم في الدين وجيرانكم في الوطن والقائمين عنكم بالدفاع عن المسجد الأقصى الذي هو ثالث الحرمين وأول القبلتين ؟ ، أفلم يقل الله تعالى : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ( الحجرات : 10 ) أفهذه نجدة الأخ لأخيه ؟!

يقولون : لماذا سادت الأمة الإنكليزية هذه السيادة كلها في العالم ؟

نجيبهم : إنها سادت بالأخلاق وبالمبادئ . حدثني رجل ثقة أنه يعرف إنكليزيًّا ذا منصب في الشرق كان يأمر خادمه أن يشتري له الحوائج اللازمة لبيته يوميًّا من دكان رجل إنكليزي في البلدة التي هم فيها . فجاءه الخادم مرة بجدول حساب وفر عليه به 20 جنيهًا في مدة شهر . فسأله الإنكليزي : كيف أمكنك هذا التوفير ؟ فقال الخادم : تركنا دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه وصرنا نشتري من دكان أحد الأهالي العرب . فقال له الإنكليزي : ارجع إلى دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه . فقال الخادم : أو لو كان ذلك يستلزم إنفاق 20 جنيهًا زيادة ؟ قال الإنكليزي : ولو كان يستلزم 20 جنيهًا زيادة . وسمعت أن كثيرين من الإنكليز الذين في الأقطار لا يشترون شيئًا ذا قيمة إلا من بلادهم ويرسلون إلى لندرة فيوصون على كل ما يحتاجون إليه حتى لا يذهب مالهم إلى الخارج .

أفنقيس هذا بأعمال المسلمين الذين مهما أوصيتهم بالشراء من أبناء جلدتهم أو أوطانهم وعلموا أنهم يقدرون أن يوفروا في السلعة الواحدة نصف قرش إذا أخذوها من الإفرنجي تركوا ابن جلدتهم أو ملتهم ورجحوا الإفرنجي ؟ ! أفلم يكن سبب حبوط مقاطعة العرب لليهود في فلسطين أشياء كهذه ؟ حرموا أنفسهم أمضى سلاح في يدهم وهو المقاطعة في الأخذ والعطاء مع اليهود من أجل فروق تافهة مؤقتة ونسوا أن الضرر الذي يصيبهم من الأخذ والعطاء مع اليهود هو أعظم ألف مرة من ضرر هاتيك الفروق الزهيدة ! .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (4 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان