شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (5 /16)

كنت مرة أشكو إلى أحد كبار المصريين إهمال إخواننا المصريين لمجاهدي طرابلس وبرقة الذين إن لم تجب عليهم نجدتهم قيامًا بواجب الأخوة الإسلامية والجوار وجبت عليهم احتياطًا من وراء استقلال مصر واستقبال مصر ؛ لأنه كما أن وجود الإنكليز في السودان هو تهديد دائم لمصر فوجود الطليان في برقة هو تهديد دائم لها أيضًا . فكان جواب ذلك السيد لي : لقد بذل المصريون مبالغ وفيرة يوم شنت إيطالية الغارة على طرابلس ولم يستفيدوا شيئًا فإن إيطالية لم تلبث أن أخذتها !

فقلت له : إن المصريين قد نهضوا في الحرب الطرابلسية نهضة هي بدون شك ترضي كل مسلم ، بل ترضي كل إنسان يقدر قدر الحمية . ولكن المبلغ الذي تبرعوا به يومئذ معلوم وهو 150 ألف جنيه ؟! فهل يطمع المسلمون في أنحاء المعمورة أن ينقذوا طرابلس من براثن إيطالية بمائة وخمسين ألف جنيه ؟ وهل هذه التضحية تقاس في كثير أو قليل إلى التضحيات التي قامت بها إيطالية بالمال والرجال ؟! كانت إعانة مصر في الحرب الطرابلسية 150 ألف جنيه ، وأنفقت الدولة العثمانية على تلك الحرب نحو مليون جنيه . فانظر إلى ما كان لذلك من النتائج :

(النتيجة الأولى) وهي أهم شيء : حفظ شرف الإسلام وإفهام الأوربيين أن الإسلام لم يمُت ، وأن المسلمين لا يسلمون بلدانهم بدون حرب ، وفي ذلك من الفائدة المادية والمعنوية للإسلام ما لا ينكره إلا كل مكابر .

( النتيجة الثانية ) أن هذا المبلغ الضئيل بالنسبة إلى نفقات الدول الحربية قد كان السبب في توطين الطرابلسيين أنفسهم على المقاومة والمجاهدة بما رأوا من نجدة إخوانهم لهم . فكانت هذه المقاومة سببًا لتجشيم إيطالية المعتدية من المشاق والخسائر ما هو فوق الوصف إلى أن صار كثير من ساسة الطليان يصرحون بندمهم على هذه الغارة الطرابلسية .

( النتيجة الثالثة) مهما يكن من عدد القتلى الذين فقدهم العرب في هذه الحرب فإن مجموع قتلى الطليان إلى اليوم يفوق مجموع قتلى العرب أضعافًا مضاعفة . فلقد لقي الطليان في هذه الحرب من الأهوال ما لا يتسع لوصفه مقالة أو رسالة . وفي واقعة واحدة هي واقعة ( الفويهات ) على باب بنغازي ثبت فيها 150 مجاهدًا عربيًا لثلاثة آلاف جندي طلياني من الفجر إلى غروب الشمس إلى أن انقرضوا جميعًا ، إلا أفذاذًا أتى عليهم الليل ، ورجع العدو ولما يموتوا . وبينما كان العرب في حزن عظيم على مَن فقدوهم في تلك المعركة إذ جاءهم الخبر البرقي من الآستانة عن برقية وردت إليها سرًّا من برلين عن برقية رقمية جاءت من سفارة الألمان في رومية بأنه سقط في هذه المعركة ألف وخمسمائة جندي من الطليان ، وأصاب الجنون سبعة من ضباطهم ، وهذه وقعة من خمسين وقعة بالأقل تضاهيها ، فالمسلمون قد قاتلوا في هذه المعركة جيشًا يفوقهم في العدد عشرين ضعفًا وقتلوا نصفه أي قتلوا عشرة أضعافهم ، والله تعالى قد قدر لهم في حال القوة أن يغلبوا عشرة أضعافهم وفي حال الضعف أن يغلبوا ضِعفَيْهم فقط كما قال في سورة

الأنفال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( الأنفال : 65-66 ) .

(النتيجة الرابعة) أنه قد كانت نفقات إيطاليا في الحرب الطرابلسية في السنة الأولى منها – أي من سنة 1911 إلى سنة 1912 – نحو مائة مليون جنيه ، ويظن أنها من عشرين سنة إلى اليوم – إذ المقاومة لم تنقطع حتى هذه الساعة – قد بلغت ثلاثمائة مليون جنيه .

فهذا كان كله نتيجة تلك الإعانة القليلة والنفقات الضئيلة التي قام بها المسلمون في تلك الحرب ، ولكن المسلمين ينتظرون أن تنهزم إيطالية الدولة الكبيرة التي أهلها 41 مليون نسمة ودخلها السنوي 200 مليون جنيه في صدمة واحدة أو في السنة الأولى من الحرب وإن لم يتحقق أملهم هذا انقطع منهم كل رجاء وبطلت كل حركة ، وأصاب بعضهم اليأس الذي هو مرادف للكفر بصريح الذكر الحكيم :

{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ } ( يوسف : 87 ) . ولنضرب مثلاً ثالثًا ونمسك بعده عن ضرب الأمثال ؛ لأنها لا تُعَد ولا تُحصَى : قام أهل الريف في وجه الدولة الأسبانية مدة بضع سنين إلى أن تغلبوا عليها وطردوا جيوشها بعد أن أبادوا منهم في واقعة واحدة 26 ألف جندي وغنموا 170 مدفعًا وجميع أهل الريف بقضّهم وقضيضهم ثمانمائة ألف نسمة . وعدد أهالي أسبانية 22 مليون نسمة ، وأراضي الريف أكثرها قاحل والأهالي فيه فقراء يعيشون من كسب أيديهم ، ولقد قاموا بعملٍ أدهش أهل الأرض بالطول والعرض . فلو كان أهل الريف نصارى لانثالت عليهم الملايين من الجنيهات من كل الجهات إما بطريقة خفية وإما بواسطة جمعية الصليب الأحمر في سبيل مداواة جرحاهم . فليقل لنا المسلمون كم جنيهًا قدموا للريف في ذلك الوقت ؟ ثم تألب الفرنسيس مع الأسبانيول وحشدوا لحرب الريفيين 300 ألف مقاتل وحصروا الريف من كل جانب من البر والبحر ، وكانت طياراتهم القاذفة بالديناميت على قرى الريفيين تُحصى بالمئات لا بالعشرات ، ولم تكفِ طيارات الفرنسيس والأسبانيول حتى جاء سرب طيارات أمريكية من نيويورك نجدة لفرنسة وأسبانية ( النصرانيتين على المسلمين لأنهم مسلمون ) . هذا كله والمسلمون ينظرون إلى حرب الريف مكتوفي الأيدي ، ولبثوا مكتوفي الأيدي مدة سنة . وأخيرًا نهض منهم أفراد لجمع شيء من أجل جرحى الريف ، ولأجل بعث الحمية في الناس لم يكتفِ محرر هذه السطور بالكتابة بل تبرعت بأربعة جنيهات لأجل القدوة . فماذا كان مجموع تلك الإعانات من كل العالم الإسلامي ؟ الجواب : 1500 جنيه .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (5 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان