شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (6 /16)

التبرع بالخيانة والمسارعة إلى مظاهرة الأجنبي ؟!

ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذا الحد في خذلان الريفيين بل قامت منهم فئات يقاتلون الريفيين بأشد ما يقاتلون به الأجانب ، وتألبت على محمد بن عبد الكريم قبائل وافرة العدد شديدة البأس ومالئوا الفرنسيس والأسبان على أبناء ملتهم ووطنهم تزلفًا إلى الفرنسيس والأسبان وابتغاء الحظوة لديهم . وقد جرى مثل ذلك عندنا في سورية يوم الثورة على فرنسا ، وجرى في بلاد إسلامية كثيرة . أفبمثل هذه الأعمال يطالب أخونا الشيخ بسيوني عمران ـ صاحب الرسالة التي طالب فيها شكيب أرسلان بالكتابة عن أسباب تخلف المسلمين ـ ربه بما وعد تعالى به من جعْل العزة للمؤمنين ؟!

وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم : كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة وللمروءة وللمصلحة وللسياسة ؟

أجابوك : كيف نصنع ! فإن الأجانب انتدبونا ولو لم نفعل لبطشوا بنا ، فاضطررنا إلى القتال في صفوفهم خوفًا منهم ؟ ونسوا قوله تعالى : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( التوبة : 13 ) وقوله تعالى : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 175 ) .

وكلام مثل هؤلاء في الاعتذار غير صحيح ؛ فإن الأجانب قد ندبوا كثيرًا من المسلمين إلى خيانات كهذه فلم يجيبوهم ولم تنقضّ عليهم السماء من فوقهم ، ولا خُسفت بهم الأرض من تحتهم ، ثم إنه إن كان الأجانب المحتلون لبلاد المسلمين قد أصبحوا يغضبون على المسلمين الذين لا يلبون دعوتهم إلى خيانة قومهم فإنما كان ذلك من أجل أن كثيرين من المسلمين كانوا يعرضون عليهم خدمتهم في مقاومة إخوانهم ، ويقومون بها بكل نشاط ومناصحة ، ويبدون كل أمانة لهم في أثناء تلك الخيانة ! ولولا هذا التبرع بالخيانة والتسرع إلى مظاهرة الأجنبي على ابن الملة لما استأسد الأجنبي وصار يتحكم في المسلمين هذا التحكم الفاحش ، ويتقاضاهم أن يخالفوا قواعد دينهم ومقتضى مصلحة دنياهم من أجل مصلحته ، بل قام يحملهم على الموت لأجل الموت .

الموت ..موتان

فإن الموت موتان : أحدهما الموت لأجل الحياة وهو الموت الذي حث عليه القرآن المؤمنين إذا مد العدو يده إليهم ، وهو الموت الذي قال عنه الشاعر العربي :

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد … لنفسي حياة مثل أن أتقدَّما

وهو الموت الذي يموته الفرنسي لأجل حياة فرنسا ، والألماني لأجل حياة ألمانيا ، والإنكليزي في سبيل بريطانية العظمى – وهلم جرًّا – ويجده على نفسه واجبًا لا يتأخر عن أدائه طرفة عين .

وأما الموت الثاني فهو الموت لأجل استمرار الموت ، وهو الموت الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم . وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها كما يموت المغربي مثلاً حتى تنتصر فرنسا على ألماني مثلاً . ويموت الهندي حتى تتغلب إنكلترة على أي عدو لها . ويموت التتري في سبيل ظفر الروسية . والحال أنه بانتصار فرنسة على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم . وذلك كما حصل بعد الحرب العامة إذ ازداد طمع الفرنسيس في أهل المغرب وحدثوا أنفسهم بتنصير البربر .

وبالاختصار يموت المغربي على ضفاف الرين أو في سوريا حتى يزداد موتًا في المغرب ! ؛ لأن كل طائلة تفوز بها فرنسا في الخارج هي زيادة في قهر المغربي وإعناته وإذلاله مما لا سبيل للمناكرة فيه ، ومما قد ثبت بالتجربة . وكذلك موت الهندي في سبيل نصرة إنكلترة هو تطويل في أجل عبودية الهند . وكذلك موت التتري في خدمة الروسية لا عاقبة له سوى ازدياد قهر الروس للتتر . وهلم جرا .

وهذا الموت لأجل الموت هو ما كان بخط مُنحنٍ كما يقال ، أي باعتبار النتيجة ، ولكنه هناك موت لأجل الموت مباشرة بدون واسطة ، وهو عندما يموت المغربي في قتال أخيه المغربي الذي قام يحاول أن يزحزح شيئًا من النير الإفرنسي الذي كاد يدق عنقه ، وإن لم يدق عنقه بتاتًا استحياه حياة هي أشبه بالموت !

ولو انحصرت هذه الأمور في العوامّ والجهلاء لعذرناهم بجهلهم ، وقلنا : إنهم لا يدرون الكتاب ولا السنة ولا السياسة الدنيوية ، ولا الأحوال العصرية ، وإنهم إنما يُساقون كما تُساق بهيمة الأنعام إلى الذبح .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (6 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان