شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (7 /16)

أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون ؟!

خيانة الخواصّ : مثال ذلك الوزير المقري الذي هو أشد تعصبًا لقضية رفع الشريعة الإسلامية من بين البربر من الفرنسيس أنفسهم . ومثله البغدادي باشا فاس الذي طرح نحو مائة شخص من شبان فاس وجلدهم بالسياط لكونهم اجتمعوا في جامع القرويين وأخذوا يرددون دعاء : ( يا لطيف الطف بما جرت به المقادر ، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر ) ومفتي فاس الذي أفتى بأن إلغاء الشرع الإسلامي من بين البربر ليس بإخراج للبربر من الإسلام ! وهلُم جرًّا .

وكلٌّ من هؤلاء الخونة المارقين – أخزاهم الله – قد بلغ من الكبر عتيًّا ، وانتهى من أموال الأمة شبعًا وريًّا ، وهو لا يزال حريصًا على الزلفى إلى فرنسا ، وإثبات صداقته لها ولو بضياع دينه ودنياه ، حتى تُبقي عليه منصبَه وحظوظهَ في هذه البقية الباقية من حياته التاعسة   .

وليس واحد من هؤلاء ولا من في ضربهم في المغرب إلا وهو مطَّلع على نيات فرنسا وعلى مراميها من جهة هذا النظام الجديد لأمة البربر ، وليس فيهم إلا مَنْ هو عارف بوجود جيش من القسوس والرهبان والراهبات يجوس خلال بلاد البربر ويبني الكنائس ويتصيد اللقطاء والأيتام والفقراء وضعفاء الإيمان ، وليس فيهم إلا مَنْ هو عالِم بمنع فرنسا فقهاء الإسلام والوعاظ من التجوال بين البربر حتى ترتفع الحواجز أمام دعوة المبشرين إلى النصرانية . وقد يكون المقري والبغدادي هذان هما في مقدمة الموقعين على الأوامر بمنع علماء الإسلام وحَمَلَة القرآن من الدخول إلى قرى البربر . وقد يكون المقري هذا هو الذي خصص المبلغ من مال المخزن لجريدة ( مراكش الكاثوليكية ) التي تطعن في الإسلام ، وتقذف محمدًا عليه الصلاة والسلام ، ولدينا كثير من أعدادها التي تتضمن هذه المطاعن . وبعد هذا فمن يدري ؟ فقد يكون المقري مصليًا وصائمًا وبيده سبحة يقرأ عليها أورادًا . ومن يدري ؟ فقد يكون البغدادي السيئ الذكر ممن يتمسحون بالقبور ويستغيثون بالأولياء ويتظاهرون بهذا الورع الكاذب . وأما المفتي فهو المفتي فلا حاجة إلى تثبيت كونه يصلي الخمس ويصوم ويتهجد ويوتر ويتنفَّل ! ! .. إلخ .

وقد مضى علينا – نحن في سورية – شيء من هذا لأوائل عهد الاحتلال ، لكن لم تكن خيانة هؤلاء المعممين في قضية دينية مباشرة . فقد اقترحت عليهم فرنسا أن يمضوا برقية إلى جمعية الأمم ينكرون بها عمل المؤتمر السوري الفلسطيني المطالِب باستقلال سورية وفلسطين ، فأمضاه منهم عمائم مكورة ، وطيالس محررة مجررة ، ورقاب غليظة ، وبطون عظيمة ، وإن لم أقل الآن : أخزاهم الله ، أخشى عتاب إخواننا المغاربة الذين يرونني خصصت بهذا الدعاء صدرهم الأعظم ، ومفتيهم الأكبر ، وأعفيت معممي سورية ؛ فلذلك يقضي العدل بأن نقول : أخزاهم الله أجمعين ، أخزى الله الذين منهم في المشرق والمغرب ، ممن يوقعون على اقتراحات الأجانب المضرة بالدين والوطن ولعل الأخ الشيخ بسيوني عمران يقول : إن هؤلاء أفراد قلائل فلا يجوز أن نجعل الأمة الاسلامية مسؤولة عن مخازيهم وموبقاتهم .

الجواب على ذلك : أن الظلم يخص والبلاء يعم كما لا يخفى ، ولكني لا أسلم أن هؤلاء أفراد قلائل ، وأن الأمة غير مسؤولة ؛ إذ لو كان وراء هؤلاء أمة يخشونها ، ما تجاسروا على الاتِّجار بدينها بعد الاتجار بدنياها ، بل كانوا لو اقترح عليهم الفرنسيس اقتراحًا مضرًّا بملتهم وأمتهم ولم يقدروا على رده – اعتزلوا مناصبهم ، ولزموا بيوتهم ، وكان الفرنسيس كلفوا بالعمل غيرهم ، فإذا أبى الخلف ما أباه السلف مرة بعد مرة – علم الفرنسيس أن لا فائدة في الإصرار ؛ فعدلوا عن دسيستهم البربرية وما أشبهها ، ولكنهم مصرون عليها بسبب استظهارهم بأناس ممن يزعمون أنهم ( مسلمون ) ، فهم يهدمون الإسلام بمعاول في أيدي أبنائه ، ويقولون : لسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير أفلا ترى كيف قالوا عن الظهير البربري : إنه قد أصدره السلطان وحكومة المخزن . أفهذا هو الإسلام الذي يناشد الله الشيخ بسيوني

عمران بتأييد أهله ؟!

قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود : 117 ) . ولا شك أن ( المسلمين ) الذين يبلغون هذه الدركات من الانحطاط وتتركهم الأمة الإسلامية وشأنهم يلعبون بحقوقها يستحقون للإسلام التمحيص الذي هو فيه  فإنما سمح الله بأن يستولي الأجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خولاً ، ويغتصبوا جميع حقوقهم ، تعليمًا لهم وتهذيبًا وتصفيةً وتطهيرًا كما يصفَّى الذهب الإبريز بالنار .

قال الله تعالى : { ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ( الروم : 41 ) . لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون ! وأن المسلم إذا أراد أن يخدم ملته أو وطنه قد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه ؛ إذ يحتمل أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى ، وقد يكون أمله بها فارغًا .

ولله در الملك ابن سعود حيث يقول : ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين ، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين . وهو كلام أصاب كبد الصواب ، فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين ، منهم من تجسس للأجانب على قومه ، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه ، ومنهم من سلّ لهم السيف في وجه قومه ، وأسال في خدمتهم دم قومه .

فأين إسلامهم وإيمانهم من قوله : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ( الحجرات : 10 ) ، وقوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ( المائدة : 51 ) ، وقوله :{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( الممتحنة : 9 ) ،

وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( الأنفال : 1 ) .

أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله ؟ أم بمثله تكون أخوة الإيمان وولايته وولاية أهله ؟!

أو لمثل هؤلاء يعِد الله العز والنصر والتمكين في الأرض ، وهم سعاة بين أيدي الأجانب على ملتهم وقومهم ، كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم إمكان المقاومة ، أو باتقاء ظلم الأجنبي أو بارتكاب أخف الضررين ؟ وجميع أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق . ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم بسيوفهم فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم ، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم ، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم ، وأبوا إلا أن يكونوا روادًا لهم ، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم ، وتراهم مع ذلك وافرين ناعمي البال ، متمتّعين بالهناء وصفاء العيش ، وهم يأكلون مما باعوا من تراث المسلمين ، ومما فجروا من دماء المسلمين ، وينامون مستريحين . مثل هؤلاء ليس لهم وجدان يعذبهم من الداخل ، ولا نجد من المسلمين مَن يجرؤ أن يعذبهم من الخارج .

ولم نكن لنطلق الكلام إطلاقًا على العالم الاسلامي في هذا الموضوع ؛ فإن الأمة الأفغانية مثلاً لا يمكن أحدًا أن يحطب فيها في حبل الأجانب علنًا ويبقى حيًّا ، والنجديون لا يوجد فيهم مَن يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه ، والمصريون قد ارتقت تربيتهم السياسية كثيرًا عن ذي قبل ، فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا عليه . فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصوبة لعدو دينه وبلده فلا يخشى شرًّا ، ولا يحاذر قلقًا ولا أرقًا !

أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } ( النور : 55 ) ؟ !

حاش لله أن يكون تعالى عنى بهؤلاء ( المسلمين ) الذين يخونون ملتهم ويسعون بين يدي أعدائها ويناصبون إخوانهم العداوة ابتغاء مرضاة الأجانب والحصول على دنيا زائلة وحطام فانٍ ، كيف وقد قرن الإيمان بلازمه وهو عمل الصالحات ؟! ، بئسما شَرَوْا به أنفسهم . وكذلك لا يعني الله بهؤلاء المسلمين الذين إن لم يكونوا خامروا على قومهم ، وسعوا بين أيدي الأجانب في خراب أمتهم ، وأوطئوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح – فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع والسجود والأوراد والأذكار وإطالة السبحة والتلوم في السجدة ، وظنوا أن هذا هو الإسلام ، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والأخرى لما كان القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد ، والإيثار على النفس ، والصدق والصبر ، ونجدة المؤمن لأخيه ، والعدل والإحسان ، وجميع مكارم الأخلاق . ولو كان هذا كافيًا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } ( التوبة : 24 )   . أفيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول : إن المسلمين اليوم – إلا النادر الأندر ، والكبريت الأحمر – يفضلون الله ورسوله على آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم ؟ أو يؤْثِرون حب الله ورسوله- وإنما حب الله ورسوله إقامة الإسلام – على الجزء اليسير من أموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها ؟!

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (7 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان