شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (9 /16)

ما أهم أسباب تأخر المسلمين ؟

من أعظم أسباب تأخر المسلمين : الجهل ، الذي يجعل فيهم مَن لا يميز بين الخمر والخل ، فيتقبل السفسطة قضية مسلَّمة ولا يعرف أن يرد عليها . ومن أعظم أسباب تأخر لمسلمين : العلم الناقص ، الذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط ؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه

فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري ! وكما قيل : ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون .

أقول : ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم . ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين : فساد الأخلاق ؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن ، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة ، وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح ، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف ، ولله در شوقي إذ قال :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا  .

ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين : فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص ، وظن هؤلاء – إلا مَن رحم ربك – أن الأمة خُلقت لهم ، وأن لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون ، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة بطشوا به عبرة لغيره . وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء المتقلبون في نعمائهم ، الضاربون بالملاعق في حلوائهم ، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شقَّ عصا الطاعة ، وخرج عن الجماعة .

ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أَوَد الأمراء . وكانوا في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر ، يسيطرون على الأمة ، ويسددون خطوات الملك ، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة ، ويهيبون بالخليفة فمن بعده إلى الصواب . وهكذا كانت تستقيم الأمور ؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين بالزهد ، متحلين بالورع ، متخلين عن حظوظ الدنيا ، لا يهمهم أغضِب الملك الظالم الجبار أو رضي . فكان الخلائف والملوك يرهبونهم ويخشون مخالفتهم لما يعلمون من انقياد العامة لهم ، واعتقاد الأمة بهم ، إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء خَلْف اتخذوا العلم مهنة للتعيُّش ، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا ، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم ، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين ، هذا والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء ، وعلو مناصبهم ، يظنون فُتياهم صحيحة ، وآراءهم موافقة للشريعة ، والفساد بذلك يعظم ، ومصالح الأمة تذهب ، والإسلام يتقهقر ، والعدو يعلو ويتنمَّر . وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء  .

ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين : الجبن والهلع ، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت ، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمائة من غيرهم . فالآن أصبحوا – إلا بعض قبائل منهم – يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد . ومن الغريب أن الإفرنج المعتدين لا يهابون الموت في اعتدائهم هيبة المسلمين إياه في دفاعهم . وأن المسلمين يرون الغايات البعيدة التي يبلغها الإفرنج في استحقار الحياة والتهافت على الهَلَكَة في سبيل قوميتهم ووطنهم ، ولا تأخذهم من ذلك الغيرة ، ولا يقولون : نحن أولى من هؤلاء باستحقار الحياة . وقد قال الله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } ( النساء : 104 ) .

وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين : اليأس والقنوط من رحمة الله ، فمنهم فئات قد وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلَوْن على كل حال ، وأنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه ، وأن كل مقاومة عبث ، وأن كل مناهضة خرق في الرأي . ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوربيين إلى أن صار هؤلاء يُنصَرون بالرعب ، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين . وهذا بعكس ما كان في العصر الأول :

يرى الجبناء أن الجبن حزم … وتلك خديعة الطبع اللئيم .

نسي المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلمًا لا غير يأتون من       ( برشلونة ) إلى ( فراكسيمة ) من سواحل فرنسة ويستولون على جبل هناك ويبنون به حصنًا ، ويتزايد عددهم حتى يصيروا مائة رجل فيؤسسون هناك إمارة تعصف ريحها بجنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا ، وتهادنها ملوك تلك النواحي وتخطب ولاءها ، وتستولي على رؤوس جبال الألب ، وعلى المعابر التي عليها الطرق الشهيرة بين فرنسا وإيطاليا ، وتضطر جميع قوافل الإفرنج أن تؤدي للعرب المكوس لأجل المرور ، ثم تتقدم هذه الدولة العربية الصغيرة في بلاد ( البيامون ) مسافات بعيدة إلى أن تبلغ سويسرا وبحيرة كونستانزة في قلب أوربا ، وتضم القسم العالي من سويسرة إلى أملاكها ، وتبقى خمسًا وتسعين سنة مستولية على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها ، ولا تزال تناجزها إلى أن استأصلتها ، وكانت تلك العصابة العربية يوم انقرضت لا تزيد على ألف وخمسمائة رجل ( وقد نشرنا تفصيل خبرها في المجلد 24 من المنار ) .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (9 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان