شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (11 / 16 )

ضياع الإسلام بين الجمود والجحود ؟

فقد أضاع الإسلامَ جاحدٌ وجامدٌ . أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين ، ويخرجهم عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم ، ويحملهم على إنكار ماضيهم ، ويجعلهم أشبه بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدًا فيذوب فيه ويفقد هويته . وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين ، وأنه هو يريد أن يبرأ منهم ، لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس ، الوضيع النفس ، أو عن الذي يشعر أنه في وسط قومه دنيء الأصل ، فيسعى هو في إنكار أصل أمته بأسرها ؛ لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ليس له نصيب من تلك الأصالة ، وهو مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلاً طبيعيًّا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها من لغة وعقيدة وعادة وموسيقى وطعام وشراب وسكنى وغير ذلك .

محافظة الشعوب الإفرنجية على قومياتها :

فلننظر إلى أوربا – لأنها هي اليوم المثل الأعلى في ذلك – فنجد كل أمة فيها تأبى أن تندمج في أمة أخرى . فالإنكليز يريدون أن يبقوا إنكليزًا ، والإفرنسيس يريدون أن يبقوا إفرنسيسًا ، والألمان لا يريدون أن يكونوا إلا ألمانًا ، والطليان لا يريدون أن يكونوا إلا طليانًا ، والروس قصارى همهم أن يكونوا روسًا ، وهلم جرًّا .

ومما يزيد هذا المثال تأثيرًا في النفس أن الأيرلنديين مثلاً أمة صغيرة مجاورة للإنكليز ، وقد بذل هؤلاء جميع ما يتصوره العقل من الجهود ليدمجوهم في سوادهم مدة تزيد على سبعمائة سنة ، فأبوا أن يصيروا إنكليزًا ، ولبثوا أيرلنديين بلسانهم وعقيدتهم وأذواقهم وعاداتهم .

وفي فرنسا نفسها تأبى أمة ( البريتون ) إلا أن تحافظ على أصلها . وفي جنوبي فرنسا جيل يقال لهم ( الباشكنس ) احتفظوا بقوميتهم تجاه القوط ثم تجاه العرب ، ثم تجاه الأسبان ، ثم تجاه الفرنسيس . وجميعهم مليون نسمة ، وهم لا يزالون على لغتهم وزيهم وعاداتهم وجميع أوضاعهم . والفلمنك يأبون أن يجعلوا اللغة الإفرنسية لغتهم ، والثقافة الإفرنسية ثقافتهم ، ولم يزالوا يصيحون في بلجيكا حتى اضطرت دولة بلجيكا إلى الاعتراف بلغتهم لغة رسمية .

وفي سويسرا ثلاثة أقسام : القسم الألماني وهو مليونان وثمانمائة ألف ، والقسم المتكلم بالفرنسية وهو ثمانمائة ألف ، والقسم المتكلم بالطليانية وهو أكثر قليلاً من مائتي ألف ، وكل قسم منها محافظ على لغته وقوانينه ومنازعه مع أنهم كلهم متحدون في مصالحهم السياسية ويعيشون في مملكة واحدة .

وإن الدانمرك وبلاد الإسكنديناف وهولاندة فروع من الشجرة الألمانية لا مراء في ذلك ، لكنهم لا يريدون الاندماج في الألمان ولا العدول عن قومياتهم ، وبقي ( الشيك ) مئين من السنين تحت حكم الألمان وبقوا تشيكًا ، واستأنفوا بعد الحرب العامة استقلالهم السياسي ، بعد أن حفظوا لسانهم واستقلالهم الجنسي مدة خمسة قرون .

وقد هذب الألمان أمة المجر وعلّموهم ورقوهم ولكنهم لم يتمكنوا من إدماجهم في الألمانية ، فتجدهم أحرص الأمم على لغتهم المغولية الأصل وعلى قوميتهم المجرية . ولبثت الروسية العظيمة من مائتين إلى ثلاثمائة سنة تحاول إدخال بولونية في الجنس الروسي ، وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة ؛ بحجة أن العرق السلافي يجمع بين البولونيين والروس ، ففشلت جميع مساعيها في إدماج البولونيين فيها ، وعاد هؤلاء بعد الحرب العامة أمة مستقلة في كل شيء ؛ وذلك لأنهم لم يتخلوا طرفة عين عن قوميتهم . وليس من العجب أن لا تريد أمة عددها 30 مليونًا الاندماج في غيرها ، ولكن الأستونيين – وهم مليونان فقط – انفصلوا عن الروسية ولم يقبلوا الاندماج فيها وأحيوا استقلالهم ولسانهم المغولي الأصل ، وجعلوا له حروفًا هجائية . ومثلهم أهالي فنلاندة المنفصلون عن الروسية أيضًا . وقد خابت مساعي الروس في إدماج اللتوانيين من هذه الأمم البلطيكية في الجنس الروسي ، وانتفضوا بعد الحرب العامة أمة مستقلة كما كانوا مستقلين قوميًّا ، وجميعهم أربعة ملايين . وأقل منهم جيرانهم اللتوانيون الذين هم مليونان لا غير ، ومع هذا قد انفصلوا بعد الحرب وأسسوا جمهورية كسائر الجمهوريات البلطيكية ؛ لأنهم من الأصل لبثوا محافظين على لغتهم وجنسهم .

وقد عجز الروس من جهة – كما عجز الألمان من جهة أخرى – عن إدخال هذه الأقوام في تراكيبهم القومية العظيمة ؛ لأن كل شعب مهما كان صغيرًا لا يرضى بإنكار أصله ، ولا بالنزول عن استقلاله الجنسي . وقد حفظ الكرواتيون استقلالهم الجنسي مع إحاطة أمتين كبيرتين بهم هما اللاتين والجرمان .

وحفظ الصربيون استقلالهم الجنسي مع سيادة الترك عليهم مدة قرون ، ولم يزل الأرناؤوط أرناؤوطًا منذ عهد لا يعرف بدؤه ، وهم بين أمتين كبيرتين اليونان والصقالبة ؛ أي السلاف .

وكذلك البلغار أبوا إلا أن يبقوا بلغارًا فيما بين الروم والسلاف واللاتين ، ثم جاءهم الترك فتعلموا التركية لكنهم بقوا بلغارًا . ولا أريد أن أخرج في الاستشهاد عن أوربة ؛ لأني إن خرجت عن أوربة قالت تلك الفئة الجاحدة : نحن لا نريد أن نجعل قدوة لنا أممًا متأخرة مثلنا ! فالأمم التي استشهدنا الآن بها كلها أوربية – وكلها متعلمة راقية – وكلها ذوات بلدان ممدنة منظمة ، وكلها عندها الجامعات ، والأكاديميات ، والجمعيات العلمية والجيوش والأساطيل .. إلخ .

العبرة للعرب وسائر المسلمين برُقي اليابانيين : ولكني أخرج من أوربة إلى اليابان فقط ؛ لأن رقي اليابان يضارع الترقي الأوربي ، وقد تم لليابانيين كما تم رقي أوربة للأوربيين ؛ أي في ضمن دائرة قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم .

لماذا لا نسمي اليابان وأوربا رجعية بتدينهما ؟!

أنقل إلى القراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل أوربي سائح في اليابان وظهرت في جريدة ( جورنال دو جنيف ) بتاريخ 20 أكتوبر ، فإنه يقول : ( إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء ، وإن رأيته ساعيًا في كسب المال فلأجل أن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحُسن والجمال . وقد انتقش في صفحة نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال ؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة ستين سنة فقط صارت من طور أمة من القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى أمة عظيمة من أعظم الأمم ، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم في سياسة اليابان ( ليتأمل القارئ ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف بكل ما تركه القدماء لسلائلهم ، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع احتياجات الحياة العصرية ، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه ، ومع التمسك الشديد بقوميته ، غير مجيب نداء التفرنُج ( وفي الأصل التغرب Accidentalisme ) الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ما هو ضروري له

لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح ، ولاشك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق الأقصى ) . ثم يقول : ( كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة ، ويحظرون دخول الأجانب في بلادهم ، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية ، وتلافت اليابان ما فات بشكل مدهش . والنتائج هي أمامنا ، إلا أن الماضي لا يزال عند اليابانيين مقدسًا معظمًا في جميع طبقاتهم ؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة ، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه ، لكن ينبذون كل ( تغرب ) بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه ، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون . وهناك هياكل ( شنيتو ) ومعابد ( زن ) والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون . والحق أن هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية ، والأفكار الشيوعية المضرة ) .

ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسا تأليف جديد عن اليابان للمركيز ( لامازليير ) Mazeliere La قد أطنبت الجرائد في وصفه ، ونشرت عنه جريدة ( الديبا ) مقالاً رنّانًا ، فنحن نوصي القراء الذين يهمهم أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان ــ وهو موضوع في غاية الجلالة لما فيه من الاستنتاج لسائر بلاد الشرق ــ بمطالعة هذا الكتاب الذي لا يمكن أن يُنسب إلى مؤلفه التعصب لليابان ، على أنني رأيته في الجملة مطابقًا لتواريخ ألفها علماء يابانيون متخصصون في التاريخ . وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الإفرنسية . ولا بد لي في هذه العجالة من نقل بعض فِقَر من تاريخ لامازليير المذكور ، قال في أثناء الكلام على تمدن اليابان العصري وخروج هذه الأمة من عزلتها القديمة ما يلي : ( فبدأت اليابان تستعير من أوربة وأمريكا قسمًا من مدنيتهما المادية ، ومن نظامهما العسكري ، ومن مباحث تعليمهما العام ، ومن سياستهما المالية ، فكان المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده ، فكان ذلك مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء ، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة اليابانية ) . ثم تكلم عن الحرب اليابانية الصينية ، وانتهى إلى قوله الذي نترجمه ترجمة حرفية :

إن ظفر اليابان بالصين لم يُثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها اليابان عن الغرب وكفى ، بل أثبت أمرًا آخر وهو أن شعبًا آسيويًّا بمجرد إرادته وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب ( تأمل جيدًا ) مع الاحتفاظ باستقلاله وقوميته وعقليته وآدابه وثقافته )

وقبلاً كنت نشرت في الجرائد ــ وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير ــ خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين ، وكيف استمرت مراسم هذا الاحتفال مدة شهر ، وكانت بأجمعها دينية ، وكيف أن الميكادو هو كاهن الأمة الأعظم ، وكيف أنه من سلالة الإلهة ( الشمس ) وكيف اغتسل في الحمام المقدس المحفوظ من ألفي سنة ، وكيف أكل مع الآلهة ( ! ) الأرز المقدس الذي زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة ، حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه ، وكيف كان ثمة في الحفل ستمائة ألف ياباني وكلهم يهتفون : ليحيى الميكادو عشرة آلاف سنة إلى غير ذلك !

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (11 / 16 )

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان