“قاعدة الرخص لا تناط بالمعاصي” دراسة مختصرة.

إن القواعد الفقهية ذات أهمية بالغة داخل الفقه الإسلامي، إذ بها تنضبط للفقيه الفروع الكثيرة التي يشق عليه حفظها لكثرتها، واختلاف موضوعاتها، داخل معنى عام يؤلف بينها، ويسهل عليه بإدراكه إدراكها.
ولعل من أهم القواعد الفقهية التي عدها الفقهاء من كليات الشريعة تلك التي تتعلق بكون المشقة جالبة للتيسير. وهذا المعنى مستمد من النصوص الشرعية الدالة على قصد الشارع إلى رفع المشقة عن المكلفين، ومنها تلك التي نصت على رخص بأعيانها، في حالات بأعيانها.
إلا أن الطبيعة البشرية الميالة إلى التساهل والكسل، والتمادي في تهوين شأن العزائم، والتوسع في مسمى المباح، توشك أن تدفع المكلف، إن هو لم يكبح جماح هواه، ولم يلجم شهوة نفسه، إلى أن يرتع خارج حدود الشرع وأحكامه، فيكون أمره فرطا.
وقد تخلق في زماننا كثير من القضايا التي نظر فيها بعين التساهل وقلة التمحيص والدقة بحجة التيسير والتخفيف عن الناس من غير استناد إلى أصل شرعي، ومن غير التقيد بضوابط ومعايير الرخص التي أنعم الله بها على عباده. ذلك أن الأصوليين قد عملوا على ضبط الرخص باعتبارها قسما من أقسام الحكم الشرعي، بضوابط تقصرها على مستحقيها، في أحوال مخصوصة، وبالقدر الذي يخرج المتربص من حال المشقة.
ولئن كان العلماء قد اتفقوا على أن رخص الشرع يستحقها المطيعون من المكلفين، أي الذين استوجبوها بأسباب لا تنافي الطاعة، فقد اختلفوا في العصاة الذين هم في حالة تستوجب الترخص.
وسأتناول في هذه الكتابة قاعدة ” الرخص لا تناط بالمعاصي” بالدراسة بشكل مقتضب.
 أولا: المعنى الإجمالي لقاعدة: «الرخص لا تناط بالمعاصي»: إن رخصة الشرع لا يستحقها إلا المطيعون، أي الذين استوجبوها بأسباب لا تنافي الطاعة، أما العصاة الذين هم في حالة تستوجب الرخص، لكن أسبابها تنافي الطاعة، فإنهم لا حق لهم فيها، لأنهم دخلوا إلى رخص الشرع من باب المعصية لا من باب الطاعة.
 ثانيا: وردت هذه القاعدة بصيغ مختلفة، فمن الفقهاء من أوردها بصيغة الاستفهام كقولهم هل تبطل المعصية الترخص أم لا؟ ؛العصيان هل ينافي الترخيص؟ . ومنهم من أوردها بصيغة الجزم كقولهم الرخصة لا تكون إلا للمطيع أما العاصي فلا. وقولهم إنما جعلت الرخص لمن لم يكن عاصيا ، وهذا إنما يدل على اختلافهم فيها، فمنهم من أقرها واعتبرها قاعدة، ومنهم من لا يعتبرها كذلك، وإنما استقرت هذه القاعدة بصيغتها التي اعتمدتها في هذا المقال عند المتأخرين.
 ثالثا: حكم الترخيص في المعصية:إن قاعدة “الرخص لا تناط بالمعاصي” مستنبطة من قوله عز وجل:﴿ فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ . وهذه الآية فيها إجمال واشتراك جملي ، الشيء الذي جعل العلماء يذهبون في حكم الترخيص في المعصية إلى ثلاثة أقوال:
1- منع الترخص في المعصية: وقد ذهب هذا المذهب الشافعية، والحنابلة، وفئة من المالكية كابن العربي ، وحجتهم في ذلك قول الله تعالى:﴿ فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾فقالوا: «غير باغ ولا عاد، أي غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فمن خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله فاضطر إلى أكل الميتة لم تحل له» لان الرخصة «إنما أباحها الله عونا للمكلف، والعاصي لا يحل له أن يعان، فإن أراد أن يأكل فليتب وليأكل. ولان الرخصة نعمة من الله، والنعمة لا تنال بالمعاصي» .
2- جواز الترخيص في المعصية: وقد ذهب هذا المذهب الحنفية وفئة من المالكية، وحجتهم في ذلك قوله عز وجل:﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾.
وقد حملوا قول الله عز وجل:﴿ فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، أي غير متجاوز حدود الضرورة ولا معتد الذي أبيح له، ومعنى الآية على هذا الاحتمال: إن المسافر إذا اضطر إلى أكل الميتة فله ذلك في حدود ما يسد به رمقه ويذهب عنه الضرر والهلاك المتوقع.
قال الجصاص : «ومن امتنع عن المباح حتى مات كان قاتلا لنفسه، متلفا لها عند جميع أهل العلم، ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع، بل يكون امتناعه عند ذلك من الأكل زيادة على عصيانه» .
3- التفصيل في الترخص: وهذا هو المشهور عند المالكية، فقد فصل ابن خويز منداد في الترخص في المعصية فأجاز الرخصة في الأكل للمضطر، والتيمم، وعدم الرخصة في الفطر والقصر، وقال : «فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر (للضرورة) وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم، بل أسوأ حال من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر، فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا : إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء، وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي ترك الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة الصلاة، أيجوز أن يقال : ارتكبت معصية فارتكب أخرى ؟! أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن؟! وللزاني اكفر، أو يقال لهما ضيعا الصلاة» . وهذا القول هو الذي قرره القاضي عبد الوهاب وأكده أبو الوليد الباجي .
 رابعا: الاستثناء من قاعدة ” الرخص لا تناط بالمعاصي”: -أكل الميتة للعاصي بسفره-
فأما الحنفية، فلم يروا مسوغا للعمل بالقاعدة بالمرة محتجين بقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ .
وأما المالكية فلهم في ذلك قولان:
أحدهما أنه لا يحل. قال ابن العربي عن رخصة السفر للعاصي: «لا تباح له بحال لأن الله تعالى أباح له ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان فإن أراد الأكل فليتب ويأكل» .
والثاني، أنه يجوز، وصححه القرطبي، وعقب على ابن العربي بقوله: «والصحيح خلاف هذا فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان» ، وهذا ما ذهب إليه أغلب المالكية أمثال والقاضي عبد الوهاب وابن خويز منداد.
وللشافعية أيضا القولان:
الأول: عدم الجواز، حيث قال شافعي: «من خرج عاصيا لم يحل له شيء مما حرم الله عز وجل بحال لأن الله تبارك وتعالى إنما أحل ما حرم بالضرورة على شرط أن يكون المضطر غير باغ ولا عاد ولا متجانف لإثم» .
الثاني: جواز أكل الميتة للعاصي بسفره، وقد صححه الكيا الهراس وعلل ذلك بقوله: «ليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو نتاج الضرورة سفرا أو كان حضرا وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وهو الصحيح عندنا» .
وذهب الحنابلة إلى أن: الرخص إنما تجوز ما لم يصحبها بغي وعدوان، فإن صحبها بغي وعدوان سقطت إلا أن يتوب العاصي.
غير أن ظاهر كلام ابن قدامة يخالف إمامه في ذلك، لأنه جعل لفظ الاضطرار عاما في كل حال، وأن حفظ النفس عن الهلاك أعظم من مصلحة اجتناب النجاسات فقال : «وتباح المحرمات عند الاضطرار لها في السفر والحضر جميعا لإن الآية مطلقة غير مقيدة بإحدى الحالتين وقوله : “فمن اضطر” لفظ عام في حق كل مضطر، ولأن الاضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة وفي السفر، وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك، لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة اجتناب النجاسات، والصيانة عن تناول المستخبثات، وهذا المعنى عام في الحالتين، وظاهر كلام أحمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر دفع ضرورته بالمسألة» .
والحاصل أن الفقهاء في كل المذاهب متفقون على أن حالة الاضطرار لا فرق فيها بين العاصي والمطيع، في السفر أو الحضر، لأن المحافظة على النفس مصلحة مقدمة ومقصد عظيم من مقاصد الشرع والمحافظة عليها مأمور بها نصيا:﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾،﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلى التَّهْلُكَةِ ﴾.
وقد حقق الإمام القرافي في المسألة تحقيقا دقيقا خرج فيه بإجماع العلماء على الترخيص للعاصي بسفره في أكل الميتة، دون القصر والفطر. ففرق بين كون المعصية سببا للرخصة وبين كونها مقارنة لأسباب الرخصة، فعمل في الأول بالقاعدة واستثنى الثاني بسبب الإجماع. فقال رحمه الله مفرعا على الفرق بين المقاصد والوسائل : «وتفرع على هذا الفرق فرق آخر وهو الفرق بين كون المعاصي أسبابا للرخص، وبين قاعدة مقارنة المعاصي لأسباب الرخص، فإن الأسباب من جملة الوسائل، وقد التبست ها هنا على كثير من الفقهاء، فأما المعاصي فلا تكون أسبابا للرخص ولذلك العاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر، لأن سبب هذين السفر وهو في هذه الصورة معصية فلا يناسب الرخصة، لأن ترتيب الترخص على المعصية سعي في تكثير تلك المعصية بالتوسعة على المكلف بسببها، وأما مقارنة المعاصي لأسباب الرخص فلا تمنع إجماعا، كما يجوز لأفسق الناس وأعصاهم التيمم إذا عدم الماء وهو رخصة، وكذا الفطر إذا أضر به الصوم، والجلوس إذا أضر به القيام في الصلاة، ويقارض ويساقي، ونحو ذلك من الرخص. ولا تمنع المعاصي من ذلك لأن أسباب هذه الأمور غير معصية بل هو عجزه عن الصوم، ونحوه، والعجز ليس معصية.
فالمعصية هاهنا مقارنة للسبب، وبهذا الفرق يبطل قول من قال: إن العاصي بسفره لا يأكل الميتة إذا اضطر إليها، لأن سبب أكله خوف على نفسه لا سفره فالمعصية مقارنة لسبب الرخصة لا أنها هي السبب» .
والخلاصة: أنه على رغم من اختلاف العلماء في هذه القاعدة، بين مجيز ومانع من الانتفاع برخص الشرع للعاصي بسفره، إلا أن القاعدة هنا تعارضت مع أصل عظيم من أصول الشرع وهو المحافظة على النفس لقول عز وجل﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾وهذا أصل مجمع عليه لا يدع مجالا للاختلاف في استثناء هذه المسألة من القاعدة.
والله أعلم.

فيديو “قاعدة الرخص لا تناط بالمعاصي” دراسة مختصرة.

 

أضف تعليقك هنا