كيف نقرأ التاريخ

الماضى هو مرجع البشرية الأول لفهم الحاضر وصنع المستقبل، والتاريخ هو ديوان ذلك الماضى الذى يحمل خفاياه. وقد يكون التاريخ أمينا أحيانا وقد يكون غير أمين، وقد يكون كاملا فى قضايا وقد يكون ناقصا فى أخرى، وقد يكون صادقا في بعض ما يروى وقد يكون كاذبا فى البعض الآخر، لا يستثنى من ذلك أى قسم من أقسامه أو فرع من فروعه.
والتاريخ الإسلامى ليس بدعا من التاريخ، بل هو شق منه يسرى عليه كل ما يسرى على التاريخ من استقامة وعوج أو أمانة وتدليس. فالتاريخ الإسلامى ليس كما يظن البعض بأنه تاريخ الإسلام، وإنما هو تاريخ المسلمين أتباع هذا الإسلام، وهؤلاء المسلمون هم بشر، وهم أيضا ليسوا بدعا من البشر، ويسرى عليهم كل ما يسرى على البشر من استقامة وشطط وقوة وضعف وارتقاء وانحدار.
والأسباب التى تدعوا إلى تناول الأحداث والوقائع والمواقف من التاريخ كثيرة، وتحمل أوجها متعددة تشترك فيها كل أقسام التاريخ وفروعه، بالإضافة إلى أوجه أخرى يختص بها كل قسم وفرع. ولكل وجه من هذه الأوجه طبيعته التى تحدد أهدافه وتقر شروطه بما يضمن حسن التناول للخروج بنتيجة سليمة غير خادعة. ولذلك فقبل الشروع فى تناول أى حدث تاريخى يجب أولا تحديد الوجه الذى سيتم منه التناول حتى لا تختلط الأمور وتضيع الحقائق.

خصوصية التاريخ الإسلامي:

وللتاريخ الإسلامى – كما لكل أقسام التاريخ الأخرى – خصوصية، وخصوصيته تلك تضع لتناول أحداثه أوجها عدة يتفرد بها، نستطيع أن نحصر بعضها فيما يلى:
الوجه الأول: تناول الحدث للحكم على صاحبه الوجه الثانى: تناول الحدث لقياسه على الإسلام الوجه الثالث: تناول الحدث لقياسه على واقعه الوجه الرابع: تناول الحدث لقياسه على الحاضر

الوجه الأول:

تناول الحدث للحكم على صاحبه

وهذا هو أخطر وجوه التناول على الأطلاق، إذ قد تتدرج فيه ثنائية الحكم من الضعف والقدرة إلى النفاق والإخلاص وصولا حتى إلى الكفر والإيمان!، وتتعدد أهداف استخدام هذا الوجه من الحكم على الشخص ذاته إلى الحكم على ما قد يمثله هذا الشخص من مدرسة فى الفكر أو الاجتهاد أو الفقه.
فعلى سبيل المثال، يستخدم علم الاسناد هذا الوجه بشكل أساسى فى تصحيح وتضعيف الرواية انطلاقا من الحكم على الراوى نفسه فى مواقف من حياته قد لا ترتبط إطلاقا بموضوع الرواية مثل سلوكه الشخصى والاجتماعى والمعاملة مع الغير. كما يستخدمه – على الجانب الآخر – المعادون للإسلام والكارهون له فى التشكيك فى مصادر الإسلام الرئيسية، كما حدث قريبا مثلا مع الصحابى الجليل أبى هريرة ومحاولة استخراج واظهار – أو حتى تأليف – مواقف للتشكيك فى شخصه انطلاقا للتشكيك فيما رواه من أحاديث، ومن المعلوم أن أبا هريرة يعد من أكثر رواة الحديث على الإطلاق، انطلاقا للتشكيك فى صحيحى البخارى ومسلم (أكبر الكتب الجامعة للسنة الصحيحة) لاحتوائها على قدر كبير من رواية أبى هريرة، انطلاقا للتشكيك فى السنة النبوية كلها، انطلاقا للتشكيك فى الإسلام ذاته!!.
ولخطورة هذا الوجه الواضحة، فإن هناك بعض الآداب والضوابط فى تناوله ينبغى مراعاتها إذا كنا نريد باستخدامه الوصول للحقيقة دون شطط أو ميل. وأهم هذه الضوابط على الإطلاق هو تفهم أن الشخصيات التاريخية الإسلامية ليست على درجة واحدة من المكانة فى الإسلام ولدى المسلمين. فإن الإسلام وإن كان – نظريا – ليس به قداسة أو حصانة لشخص، إلا أنه فعليا قد تتمتع بعض الشخصيات والفئات ببعض من هذه القداسة والحصانة كالتزام أدبى وخلقى ودينى لدى المسلمين.
فمثلا يمثل الصحابى الجليل أبو بكر الصديق وحده الفئة الأعلى من هذه الفئات ولا يشاركه فيها أحد، فهو الذى وصفه القرآن بـ “ثانى اثنين”، وهو الذى قال فيه الرسول (ص): “لو وزن إيمان الأمة فى كفة وإيمان أبى بكر فى كفة لرجحت كفة أبى بكر”، والرسول هنا ذكر الأمة على إطلاقها فلم يشرطها بزمان أو بشخوص. فمن من صحيحى الإيمان وسليمى الفطرة ومنضبطى العقل يجرؤ على محاولة الحكم على هكذا رجل؟!!
ثم تأتى الفئة الثانية فى المكانة ويمثلها فقط اثنان، أبو بكر وعمر، وهى فئة الشيخين، وهى وإن كانت أقل بمقدارٍ من الفئة الأولى إلا أنها تضم أبا بكر (صاحب الفئة الأولى) وعمر، فمن يجرؤ على الحكم على عمر الذى نزل الاسلام ليوافق رأيه فى الكثير من الأمور والذى قال فيه الرسول (ص) فيما قال: “لو كان نبى بعدى لكان عمر”؟!!
ثم تتوالى الفئات بعد ذلك، من فئة الخلفاء الراشدين (الشيخان بالإضافة إلى عثمان وعلى) إلى فئة المبشرين بالجنة إلى فئة أهل بدر إلى فئة أهل بيعة الرضوان إلى المهاجرين إلى الأنصار إلى من أسلم قبل الفتح إلى عموم الصحابة إلى التابعين إلى تابعى التابعين، وهكذا.
ولكل فئة من هذه الفئات مكانتها ودرجتها، فما يصح قوله على فئة قد لا يصح على فئة أخرى، وما يحق لنا فى فئة قد لا يحق لنا فى أخرى، مع التأكيد مرة ثانية أنه فى الإسلام لا قداسة لأحد على الإطلاق، ولكن أدب وانضباط.

الوجه الثانى:

تناول الحدث لقياسه على الإسلام

وهذا الوجه يلى الوجه الأول مباشرة فى الخطورة وإن كان يقل عنه قليلا فى ضوابطه ومحظوراته، فهو وإن كان لا يتعرض لشخصيات دينية من منظور تاريخى – كما فى الوجه الأول – إلا أنه يتعرض بشكل صريح لأحداث تاريخية من منظور دينى!، ويأخذ فى مسعاه هذا شكل الفتوى وسمتها، وهذا هو مصدر خطورته!!.
ونستطيع أن نقسم هذا الوجه إلى درجتين تبعا لمستوى الخطورة، الدرجة الأولى: القياس على المحظورات، والدرجة الثانية: القياس على المقاصد.
ففى القياس على المحظورات يتم القياس على حدود الإسلام وممنوعاته ومحظوراته لبيان هل خالف هذا الأمر الإسلام صراحة أم لم يخالف، أو بمعنى أصح هل يعد هذا الأمر – قياسا على الإسلام – حراما أم لا، وهو ما يعطى للأمر شكل الفتوى ويرتب نفس نتائجها. ولذلك فينبغى لمن يتعرض لهذا الوجه وبهذه الدرجة أن ينضبط بضوابط الفتوى وينهج نهجها سواء فى كم المعرفة المطلوبة أو الإلمام بالحدث وملابساته وسياقه أو فى المنهج المتبع فى الاستدلال والقياس، وإلا صار الأمر كمن يفتى بغير علم أو من يبدل فى حدود الله!.
أما بالنسبة للدرجة الأخرى، درجة القياس على المقاصد، فيتم فيها قياس الأمر على أهداف الإسلام ومقاصده الكلية وغاياته العليا لبيان هل يعد هذا الأمر محاولة – سواء نجحت أو فشلت – لتحقيق هذه الغايات وخطوة فى طريق بلوغها، أم أن الأمر قد خرج عن إطار الإسلام (الشرع والدين) إلى إطار آخر فيلزم تناوله من وجه آخر لقياسه والحكم عليه؟. وهذه الدرجة – كما هو واضح – أقل خطورة بكثير من الدرجة الأولى، إذ لا يترتب عليها تعامل مع الحدود أو الحكم بالتجريم والتحريم كما فى الدرجة الأولى، وإنما فقط إبراء ذمة الإسلام من هذا الفعل وضمان أن لا يؤاخذ الإسلام بأى نتيجة تترتب عليه.
وإجمالا، فإن هذا الوجة من أوجه التناول – بدرجتيه – يبحث أساسا فى بيان ارتباط حدث ما بالإسلام أو خروجه من إطاره إلى إطار آخر، ويهدف بشكل صريح إلى إبراء ذمة الإسلام من الحدث ومما ترتب عليه من النتائج، كأحداث الفتن والحروب والقمع، بالإضافة إلى فتاوى واجتهادات أدت إلى ترسيخ قيم وتثبيت نظم سواءً سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو فكرية.

الوجه الثالث:

تناول الحدث لقياسه على واقعه

فى هذا الوجه – وخلافا للوجهين السابقين من أوجه تناول الحدث التاريخى – يتم تحييد الإسلام تماما عند تناول الحدث والتركيز على قياس الحدث بموضوعيه وتجرد لبيان مدى حظه من الصواب والخطأ (وليس الحلال والحرام) بالنسبة لسياق حدوثه. وسياق الحدوث هنا يشمل الفترة الزمنية التى وقع فيها الحدث بالإضافة إلى البيئة التى أثرت فى الحدث وأثر فيها سواء كانت تلك البيئة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو أخلاقية.
وبسبب ذلك التحييد يعتبر هذا الوجه (والوجه الذى يليه) آمنا تماما من الناحية الدينية، فهو لا يمس الأشخاص ذوى المكانة الدينية والذين قد يعد التجريح فيهم أو حتى مجرد إخضاعهم لمنهج التشكيك والاختبار غير مقبول اجتماعيا أو أخلاقيا أو حتى دينيا (فى بعض الأحيان). كما يعتبر هذا الوجه حراً بشكل كبير فى استخدام ما يلزمه من أدوات البحث والقياس سواء التقليدية القديمة أو غير التقليدية المستحدثة لاستخلاص النتائج المطلوبة.
وحيث أن هذا الوجه يقيس الحدث على واقعه، فإنه لإجراء هذا القياس بدقة وموضوعيه يلزم الإلمام بهذا الواقع من غالب نواحيه سواء السياسية أو الإجتماعية أو الفكرية أو الأخلاقية (وأحيانا الإقتصادية)، حتى وإن بدا الحدث ظاهريا مرتبطا بناحية واحدة من هذه النواحى، فلا يعقل أن يتم الحكم على قرار ما دون معرفة كل (أو غالب) ما أحاط بذلك القرار وكل ما أدى لاتخاذه.
وقد يكون هذا الحدث قد تعرض من قبل للتقييم، سواء من معاصريه أو ممن جاء بعدهم، ولكن بما أننا الآن نجيئ بعد هؤلاء جميعا (زمنيا) حيث نتائج ذلك الحدث قد استقرت بشكل أكبر وأخذت فرصتها بمدى أوسع فى انفاذ آثاره، فإن فرصتنا أكبر منهم فى الإلمام بنتائج ذلك الحدث وما سببه حدوثه، وعندما تضاف تلك النتائج إلى معطيات الحدث فبلا شك تكون فرصة الحكم عليه بشكل أوفق أكثر دقة وأقرب للصواب، شريطة الإلمام بملابساته (كما أكدنا آنفا).
ومن الأسباب الرئيسية لاستخدام هذا الوجه من أوجه التناول الدراسة التاريخية الأكاديمية، والتى تبحث وتستكشف خط سير التطور الانسانى لمجتمع ما (سياسيا أو إقتصاديا أو إجتماعيا أو أخلاقيا،…)، ومن الأسباب أيضا محاولة المجتمعات تحديد النقاط الرئيسية لنشوء التوجهات الكبرى فى مسيرتها وذلك إما للتعلم واستخلاص الدروس والعبر وإما لمحاولة إيجاد طريق للرجوع إلى حالة ما قبل الحدث.

الوجه الرابع:

تناول الحدث لقياسه على الحاضر

وهذا الوجه هو أبسط وجوه التناول على الإطلاق وأكثرها مرونة وانفتاحا، ومن المفترض أن يكون أكثرها استخداما كذلك.
وفى هذا الوجه نتجاهل الإسلام كأداة قياس بشكل كامل فلا ينظر إلى الحدث ولا إلى صانعيه من هذه الناحية، فنتحرر كليا من محظورات القداسة والمكانة وضوابط الفتوى وشروطها ومتطلباتها، ونتجاهل كذلك واقع الحدث وبيئته وملابساته فنتحرر من متطلبات الإلمام بواقع الحدث وبيئته وملابساته، ونتعامل مع الحدث على أنه مشروع فكرة أو مسودة مقترح وننظر فى إمكانية تطبيقه حاليا على أرض الواقع، ويتحول التاريخ فعليا – تبعا لهذا الوجه – من مستودع أسرار إلى بنك أفكار.
والبحث فى إمكانية تطبيق الحدث تلك تنقسم أيضا إلى مستويين، المستوى الأول هو هل الحدث قابل للتطبيق عمليا أم غير قابل، فإن كان غير قابل للتطبيق انتهى أمره، وإن كان قابلا للتطبيق ننتقل به إلى المستوى الثانى وهو هل تطبيق الحدث يعطى النتائج المرجوة أم أن هناك مسارات بديلة أكثر كفاءة وأعلى حظا؟
وبسبب خلو هذا الوجه من غالبية (إن لم يكن كل) الضوابط والمتطلبات التى تفرضها أوجه التناول الأخرى فإنه يكون متاحا لكل شخص استخدامه والعمل به.

كيف نحدد الوجه المناسب لتناول حدث ما؟

والآن وبعد أن استعرضنا سريعا بعض الأوجه المقترحة لتناول الأحداث التاريخية يأتى السؤال المهم: كيف نحدد الوجه المناسب لتناول حدث ما؟.
والإجابة أنه لا يوجد وجه مناسب صريح لتناول الحدث التاريخى، بل إن غالبية الأحداث التاريخية من الممكن تناولها من عدة أوجه حسب الهدف من هذا التناول، ولكن بشكل عام ولإعطاء طابع انفتاحى على تناول الحدث التاريخى يتم اختيار الوجه الأكثر مرونة والأقل فى الضوابط والمتطلبات أولا، فإن تحقق المطلوب كان بها وإن لم يتحقق نرتقى درجة واحدة فقط ونستخدم الوجه الذى يسبقه، وهكذا حتى يتحقق هدف التناول.
فعلى سبيل المثال لو تناولنا مسألة أخذ معاوية ابن أبى سفيان البيعة لابنه يزيد، وهى من المسائل الشائكة جدا فى التاريخ الإسلامى، لو طبقنا عليها مبدأ التدرج من الأسفل إلى الأعلى الذى ذكرناه فسنستخدم لتناول تلك المسألة الوجه الرابع وننظر هل هذا الأمر قابل للتطبيق عمليا فى الوقت الحالى أم أن الزمن قد تجاوزه ضمن أشياء أخرى يتجاوزها الزمن باستمرارية لا تنقطع وازدياد لا ينقص، وإذا ما كانت النتيجة أن المبدأ نفسه قابل للتطبيق (وهو بالفعل ما زال قائما فى بعض الممالك حتى يومنا هذا) ننتقل إلى المستوى الثانى من نفس الوجه ونبجث هل يعود هذا الأمر علينا بفائدة لو تم تطبيقه أم لا، ثم نستطيع الوقوف عند هذا الحد، ونكون قد حققنا بالفعل استفادة من استلهام التاريخ.
فإذا لم نصل إلى رأى قاطع فى أخذ الأمر أو تركه، فإننا ننتقل إلى الوجه الثالث من أوجه التناول وننظر إلى هذا الفعل فى حينه وهل أدت تلك البيعة إلى تقدم فى مسيرة الأمة الإسلامية أم أدت إلى انتكاسها، ثم نضيف ما توصلنا إليه من نتائج إلى ما توصلنا إليه من الوجه الرابع لنخرج برأى قاطع.
فإذا ما أثار البعض – بشكل لا يمكن تجاهله – أن الأمر يمس الإسلام، فعارضها البعض باسم الإسلام وأيدها البعض الآخر باسم الإسلام أيضا، فلا مناص من التحرك إلى الوجه الثانى لدراسة هل يعد أخذ البيعة ليزيد متعارضا مع حدود الإسلام وضوابطه ونواهيه، فإن لم يكن فيتم البحث فى هل كان أخذ البيعة ليزيد متفقا مع مقاصد الإسلام الكلية وتوجهاته، وذلك لتبيان هل كان أخذ البيعة ذاك مقبول أم مرفوض شرعا.
أما إذا لم نستطع أن نفصل فى الحدث – أخذ البيعة ليزيد – وحده دون النظر إلى ما صاحبه من أحداث وما سبقه من خطوب ومواقف، ورأى البعض أن أخذ معاوية البيعة ليزيد ليس إلا خطوة فى طريق سلكها معاوية قبل ذلك بزمن، فلا مناص ولا مفر من استخدام الوجه الأول والتعرض لمعاوية نفسه إن كنا مصرين على استكمال الدراسة، وهذا كما قلنا أصعب الأوجه وأشدها حرجا وأضيقها أفقا وأعقدها ضوابطا وشروطا.

ملحوظة: كل ما ذكرته فى هذا الموضوع فقط يعبر عن رأى شخصى ولا يستند إلى أى مصدر شرعى أو فقهى أو بحثى لعالم من العلماء، فالرجاء من كل من يقرأه أن يعى هذا جيدا وأن لا يحملنا ما لا نطيق.

فيديو كيف نقرأ التاريخ

 

أضف تعليقك هنا

محمد لطفى محمد

محمد لطفي محمد