مفهوم الحتميّة في الفلسفات المختلفة، بقلم: زين إسماعيل الشرقاوي

مفهوم الحتميّة في الفلسفات المختلفة

تدورُ في أوساط المجتمع الفلسفيّ، منذ عصور الإغريق القديمة، قضيّة هي من الأهميّة بمكان. إنّها قضيّة هل يُعدّ السّلوك الإنسانيُّ حُرًّا، ونابعًا من إرادته الواعية، أم أنّهُ خاضعٌ للحتميّة (وإن اختلفت أنواعها). وقد أُعيد توليد هذه القضيّة ممّا حدث من تقدُّمٍ في مجال العلوم الطّبيعيّة في بداية القرن السّادس عشر وما تلاه من قرون، فقد راجت كثيرًا آنذاك فكرة العلّيّة/السّببيّة، الّتي اعتمدت عليها العلوم المُتطوّرة بدورها، وهذه الفكرة تعني ببساطة أنّ لكلّ حادثةٍ علَّة. ولمّا كانت فكرة العلّيّة تقودنا إلى أنّ الأحداثَ يربطها علاقات علّيّة، وبالتّالي، إلى أنّها تحدث في صورة قوانينَ طبيعيّة، فإنّنا على أساس هذه القوانين، وبمعرفة العلل الفعليّة القائمة وراءها، من الميسور أن نهتديَ إلى تنبُّؤاتٍ مُستقبليّة دقيقة. وما يحدُّ قدرتنا في بعض الأحيان على التنبُّؤ، هو ضيق معرفتنا بقوانين الأحداث والعِلل الحاضرة. وأمّا هذه النّظريّة، الّتي تناولت مفهوم العلّيّة الكلّيّة، وكيف أنّها تحكم الأحداث والوقائع والأفعال، فقد سُمِّيَت «النّظريّة الحتميّة».

مفهوم الحتميّة «Determinism»

الحتميّة في اللغة

هي مصدرٌ صناعيٌّ من ‘الْحَتْمِ’، وتعني: وجوب ما لا مفرّ منه. ونقول: حتميّة الشّيء؛ أيْ كونه واجبًا لا مفرّ من وقوعه. وعلى الجهة المُقابلة في الفلسفة؛ هي فرْضيّة فلسفيّة، أو مذهب فلسفيّ يرى أنّ كلّ ما يحدث في الكون، على الإطلاق، بما في ذلك كلّ قرارٍ وفعلٍ بشريّ، خاضعٌ لقانونٍ سببيٍّ/عِلّيٍّ ما، أو حادثٌ وَفْقَ علاقة سببيّة ما، أو هو تسلسل لا مفرّ من وقوعه، ونتيجة لازمة للشّؤون السّابقة؛ فلكلِّ حادثٍ إذن هناك تفسير سببيّ؛ أيْ لكلِّ حادثٍ هناك أسبابٌ ضروريّة وكافيّة، تُفسِّر سبب حدوثه. وهذا يعني أنّ في الفلسفة الحتميّة، ليس هناك متّسعٌ للصّدفة (والّتي هي بطبيعتها اجتماعٌ للشّروط الموضوعيّة، وللشّيء المفعول به في الزّمان والمكان المُناسِبيْن)، ولا للإرادة الإنسانيّة الحُرّة المُتوَهَّمة.

دعا مفهوم الحتميّة البعض إلى القول: «إنّ الحتميّةَ بمعناها البسيط، ليست غير الارتباط العلّيّ بين الظّواهِر المختلفة؛ أيْ إنّ العلّيّة تعبيرٌ ظاهريٌّ للحتميّة، ولدى البعض هي مرادف وعنوان لها». يتضمّن مبدأ الحتميّة، مُسلّماتٍ يُبنى عليها، وتسبقه وُتبرّره، وتهبهُ محتواه، وتباينت أوجه النّظر في طبيعة هذه المُسلّمات. فلدينا المُسلَّمة المبنيّة على أنّ هناك نظامًا في الطّبيعة، وأنّ هذا النّظام المُتكرّر الوقوع في اطّرادٍ، ويحكم ذلك الاطّراد مبدأ السّببيّة (أيْ العلاقة بين العلّة والمعلول)؛ وهذا يعني لدى فلاسفة الحتميّة، أنّ كلّ ما يحدث في الكون والوجود، قابلٌ للتّفسير والتّنبُّؤ من حيث المبدأ الحاكم. ونَخلَص بهذا إلى النّتيجة القائِلة: «معرفتنا لجميع الشّروط –الموضوعيّة على وجه الخصوص- الّتي تُعيِّن وقوع الظّاهرة، تُمكّننا من التّنبُّؤ بما سيحُدث حتمًا».

الفرق بين التّنبّؤ والحتميّة

إنّ التّنبّؤ بما هو إخبارٌ عمّا سيكون، بما هو كائنٌ، وليدُ اطّراد العلاقات بين الظّواهر وترابطها، فتزايدُ معرفتنا بالظّروف الّتي تحيط بسلوك الإنسان مثلًا، كفيلٌ بمساعدتنا على اكتشاف القوانين السّيكولوجيّة، والعلميّة الصّحيحة الّتي تحكم السّلوك البشريّ. وهذا كلّه يقتضي وجود التّناظر المنطقيّ التّام بين عمليّتَي التّفسير والتّنبّؤ؛ أيْ تشاركهما في البنية المنطقيّة؛ وهو النّمط الاستنباطيّ. لكنّ الفرق الكامن بين العمليّتَيْن، هو كون التنبّؤ عمليّة تسبق الحوادث، بينما التّفسير لشيءٍ وقع حدوثه. لكن في كلتا الحالتين، يتمّ الاستنباط وَفْق القانون السّببيّ المُشار إليه، ومن معرفة الشّروط السّابقة لوقوع الحَدَث.
أمّا بالنّسبة لبراهين الحتميّة وأدلّتها، فقد تباينت كثيرًا وانشعبت، فهناك البرهان المستمدّ من الفيزياء، وهناك المُستمدّ من البيولوجيا والفسيولوجيا، وهناك برهان قانون العلّيّة الحاكم للحتميّة، وهناك برهانٌ مستمدّ من فلسفة الطّبيعة العلميّة، وهناك المستمدّ من علم النّفس (السّيكولوجيا)، خاصّة لدى التحّليل النّفسيّ عند فرويد، وهناك أيضًا علم الاجتماع (السّوسيولوجيا)، وعلم الأخلاق، واللاهوت (الثّيولوجيا). ولا متّسع لتناولها جميعها الآن. أمّا بالنّسبة للنّظريّات الحتميّة المختلفة، فهي كثيرة، لكنّها تشترك جميعها في الخضوع للقانون السّببيّ. ولنلقِ نظرة الآن على هذه الحتميّات.

الحتميّة الأخلاقية/القيمية «Ethical Determinism»

هي تلك الحتميّة الّتي يقول أصحابها لدى تعريفها وشرحها: «إنّ الإنسان يسعى إلى اختيار الأفضل، ولا يُمكنه أن يختار، بمحض إرادته، فعلًا ما يضرُّ به نفسه». حتّى في رغباتك، ودوافعك، وما يقتضيه عقلك، أنت تسعى إلى اختيار الأفضل. ومن هنا نفهم رأي أرسطو وأفلاطون أنّ الإنسانَ لا يفعل الشّرّ إلاّ مضطرًّا، أو عن جهلٍ؛ لإنّه مفطور على الخير وفعل الخير. وهذه فكرة يَخلَص إليها أيضًا، ديكارت، وتوما الإكويني، وليبنتز (وهذا طبيعيّ؛ لأنّ أغلب أفكار هؤلاء، هي ذات جذورٍ دينيّة). فلَدى برهان علم الأخلاق، هناك ما يُؤيّد مبدأ الحتميّة، وهو على النّحو الآتي: «إنّ شخصيّة أيّ إنسانٍ، هي الّتي تُحدّد أفعاله، وهي مسئولة عنها؛ لأنّ هذه الأفعال صدرت عنها؛ ولأنّه قام بها اعتمادًا على كونه هذا الشّخص بالذّات، وليس ذاك». ومن هنا يظهر لنا أنّ الشّخصيّة هي مُحدِّد الأفعال، لكن السّؤال هُنا: ما هي مُحدِّدات الشّخصيّة؟ إنّها القوانين الحاكمة على اختلافها. على أيّ حال، لو كانت أفعال الإنسان نابعة من أثر إرادةٍ حُرّة، فكيف لنا أن نعتمد عليه، وهو سيكون بذلك شخصًا غير مسئولٍ؟ فلمّا كان مُقيّد الشّخصيّة، لذا أمكن لنا الاعتماد عليه.

الحتميّة المنطقيّة «Logical Determinism»

تُصرّح هذا الحتميّة بأنّ هناكَ عللًا منطقيَّةً تتبعها بالضّرورة نتائجُ منطقيّة محتومة. وتدعو بمنطقيّة التّرابط الضّروريّ بين العلل والنّتائِج. ويقول الرّواقيّون: «إنّ العالَمَ كلّه عقلٌ وضرورةٌ طالت الإنسان، كما العالم بأسره». إذن، في الحتميّة المنطقيّة، نحن نتحدّث عن أشياءَ مفروضة على الإنسان، تخرج عن نطاق قدرته، ولا يتوقّف وجودها عليه، وهي أمورٌ ضروريّة؛ لأنّها محتومة وخاضعة لجملةٍ من المعوّقات الخارجيّة. فالإنسان لا يستطيع تغيير مصيره، والقدر هو القانون الكلّيّ الشّامل، ولا سبيلَ للإفلات من ضرورة الأشياء. ببساطة، مَنْ عرفَ قوانين الوجود، فعمل على أن تُطابق إرادته الباطنة تلك القوانين، كان مُتّسقًا تمامًا مع وجوده. ومن هُنا، يكون الحديث عمّا يجب أن تكون عليه أخلاق الفرد، والحديث عن مسئوليّتهِ عن أفعاله، وهمًا باطلًا لا أساسَ لهُ. إنّ الحتميّة المنطقيّة كالحسابات الرّياضيّة، فلو كانَ بيانٌ ما يقتضي وقوع حَدَثٍ ما في المُستقبل صحيحًا، تحتّم، إذن، أن يقع الحدث في المُستقبل.

الحتميّة اللّاهوتيّة «Theological Determinism»

هي تلك الحتميّة الّتي يُقرّ بها اللّاهوت، والدّيانات التّوحيديّة على اختلافها. وتُصرّح بأن كلّ حَدَثٍ وقع في التّاريخ، ويقع، وسيقع، قد حدّده الإله من قبل، فكلّ شيء مُحدّدٌ ومُنظّمٌ وقوعه. ببساطة، إنّ الله يعلم كلّ شيء، ومن ثَمَّ، يعرف ما أنوي أن أفعله، وما سأفعله، قبل إقدامي حتّى على الفعل، ولذا، ليس بمقدوري أن أفعل سوى ما يعرف أنّني أنوي فعله. وتبعًا لذلك، تنتهي الاحتمالات، وتبقى حقيقة واحدة، ولا يبقى أيّ وجودٍ لإمكانيَّتَيْن أختار إحداهما. والنّتيجة الصّارمة والفعليّة لهذه الحتميّة، ستقتضي بأنّك لست حُرًّا لفعل أيّ شيء، غير ما يتوجّب عليك فعله، عندما يحين الوقت لذلك. وهذا ما يقتضيه مذهب المعرفة المُسبّقة عند اللّه (Divine Foreknowledge) لدى الكثير من المفكّرين، حيث تُستبعد الحرّيّة من اختيار الإنسان. ولكن، مع ذلك، هناك بعض الآراء لا تضع أيّ عوائق أمام حرّيّة التّصرّف، بالرّغم من معرفة اللّه المسبّقة.

وبعد مُدّة من الزّمن، تطوّرت دلالات الحتميّة ومفاهيمها، بسبب التّطوّر العلميّ الحاصل في العالم، فظهرت عدّة حتميّات جديدة.

الحتميّة الميكانيكيّة/الصّارمة «Mechanical Determinism»

وهي تلك الحتميّة الصّارمة (تُدعى بالصّارمة لدى اليونان) الّتي تسير في خطٍّ مستقيمٍ بلا اعوجاج، وقد استمّدت دعائمها من ميكانيكيّة السّير نيوتُن (والّتي تلتها نسبيّة آينشتاين، وريبة هايزنبرغ)، وقد عبَّر عنها المُفكّر الرّياضيّ الفرنسيّ، بيير سيمون دو لابلاس (1749-1827) تعبيرًا دقيقًا في قوله: «لو استطاعَ عقلٌ ما أن يعلمَ في لحظةٍ مُعيّنة، جميع القوى الّتي تُحرّك الطّبيعة، وموقع كلّ كائنٍ من الكائِنات الّتي تتكوَّن منها، ولو كانَ هذا العقل من السّعةِ بحيث يستطيع أن يُخضع تلك المُعطيات للتّحليل، لاستطاعَ أن يُعبِّر بصيغةٍ واحدةٍ عن حركةِ أكبر أجسام الكون، وعن حركةِ أخفِّ الذّرّات وزنًا، ولكانَ علمه يقينيًّا، ولأصبحَ الماضي والمُستقبل ماثِلَيْن أما ناظِريْه كالحاضِر تمامًا». وهذا الشّكل من الحتميّة، يُسقط الفعل الفرديّ والجمعيّ عبدًا لقوًى غيبيّة من خارج التّاريخ، فكلّ حدثٍ، وكلّ فعلٍ أو إرادةٍ إنسانيّة، تتحوّل إلى مفعولٍ بهِ يخضع لقوانينَ موضوعيّة طبيعيّة، وجودها مستقلّ عن الإنسان. ومن هُنا نقول: في هذه الحتميّة، لا تُعدّ إرادة الإنسان علّة حقيقيّة (Vera causa) تُفسّر الحركات الفيزيائيّة الحاصلة والفاعلة فيه أيضًا.

لكنّ استمرار تطوّر العلم، لعب دورًا مهمًّا في دحضِ هذه الحتميّة الصّارمة، بالرّجوع إلى الطّبيعة العضويّة، والفيزياء الحديثة، والحياة الاجتماعيّة للشّعوب. وبمقابل الحتميّة الميكانيكيّة، وبسبب زعم روّاد الليبرتاريّة/الليبرانيّة (Libertarianism) بأنّ الحتميّة تمحو المسئوليّة الأخلاقيّة، بسبب ذلك، ظهر موقف وسط يُدعى «الحتميّة الرّقيقة/المعتدلة».

الحتميّة الرّقيقة «Soft Determinism»

هي تلك الحتميّة الّتي أضفت وأتاحت للإنسان بعضًا من الحُرّيّة، في حُدود ما وفّرته له من طبائع. فبالرّغم من أنّ سلوكهم يخضع للحتميّة، إلاّ أنّهم قد يكونون مسئولين أخلاقيًّا. إذن، هي تعترف بإرادة الإنسان، لكنّها تُعبِّر أيضًا عن ضيق حدود هذه الإرادة، وقلّة تأثيرها بالمجريات الحاضرة، لكنّها تُؤكّد على المسئوليّة الأخلاقيّة والعمليّة للإنسان؛ حتّى يكون مسئولًا عن قراراته وأفعاله. فهناك أفعالٌ مرتبطة بدوافعَ داخليّة مثلًا، وهناك حركات يكون الإنسان خلالها مُستجيبًا لمُؤثّراتٍ خارجيّة قسريّة، ولا يكون لدوافعهِ الدّاخليّة أيّ شأنٍ فيها. فسلوك الشّخص يعدّ حُرًّا، ما لم يكُن نتيجةً لأيّ إرغامٍ أو إلزامٍ خارجيّ. ومن أنصار هذه الحتميّة: أفلاطون، وأفلوطين، وكريسيبوس الرّواقيّ.

ومع الاكتشافات الحديثة، وصعود العلوم الوضعيّة في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، قامت الحتميّة في العلوم، وحلّ المنهج العلميّ القائِم على الملاحظة والتّجرِبة والقياسات الكمّيّة، محلّ التأمّل والتدبّر الفلسفيّ المحض.

الحتميّة العلميّة «Scientific Determinism»

هي تلك الحتميّة الّتي برزت مع قوانين نيوتُن في حركة الكواكب والأجرام الكبيرة، قيّدت الإنسان كثيرًا، وخَلَصت إلى أنّ كلّ ما في الطّبيعة، بما في ذلك الإنسان، يسير وَفْق قوانينَ ونواميسَ كونيّة ثابتة، لا يحيد عنها الإنسان، ولا تحيد هي نفسها. وتظهر هذه الحتميّة جليّة في الفلسفات الماديّة الّتي يرجع فيها الكون إلى المادّة، وتسبق فيها المادّة، الأفكار والأحاسيسَ من حيث أصالة الوجود. فالأفكار والأحاسيس هي تغيّرات في جزيئات المادّة الّتي يتركّب منها الإنسان، وبالتّالي، سلوك الإنسان يخضع لـ/يتأثرّ بالقوانين نفسها الّتي تخضع لها المادّة. وواجب الإنسان لتكون أفعاله حُرّة وخاضعة للإرادة، أن يفهم سَيْر هذه القوانين، حتّى تتبع أفعاله هذه القوانين وتتبع أيضًا إرادته النّابعة من طبيعته الماديّة. وهذه هي آراء هوبز وديمقريطس ولوقيبوس. لكن هناك مَنْ خالَفهم في ذلك، مثل فيلسوف التّشاؤم وإرادة الحياة «آرثر شوبنهاور»، بزعمِ أنّ أفعال الإنسان كما تخضع للضّرورات الدّاخليّة، فإنّها تخضع أيضًا للمُؤثّرات الخارجيّة. ومِيزة الحتميّة العلميّة، أنّها تُتيح قدرة كبيرة للتنبّؤ بالأفعال والأحداث. فلمّا كانت إرادة الإنسان مشروطة بالبواعث والرّغبات والدّوافع الدّاخليّة، فبمعرفتك لتلكم المحدِّدات، تكون عمليّة التّنبُّؤ بأفعال الإنسان سهلة. وفي الحتميّة العلميّة، يلعب اللاشعور دورًا كبيرًا، واعتُبِر في الطّبّ النفسيّ بأنّه محدِّد السّلوك الأصليّ.

وبحلول القرن التّاسع عشر، وبتوجّه فلسفة العصر الحديث إلى عودة الفكر الديالكتيكيّ/الجدليّ مع هيغل وماركس وأنجلز ولينين وغيرهم، اتّخذ مبدأ الحتميّة دلالاتٍ جديدة، منها المثاليّة، ومنها الماديّة. وبتطبيق الفكر الدّيالكتيكيّ على المجتمع والتّاريخ البشريّ، بما فيه من فكرٍ ومعرفةٍ ومجتمعٍ وعلاقات، ظهر على السّاحة مبدأ جديد، وهو مبدأ الحتميّة التّاريخيّة.

الحتميّة التّاريخيّة «Historical Determinism»

تخبرنا الحتميّة التّاريخيّة بأنّ التّاريخ جزءٌ من توليفةٍ أكبر، خاضعةٍ لقوانينِ الوجود، ومن ثَمَّ، التّاريخ يسير وَفْق قوانينَ ثابتة في طبيعتها، وأنّ للأُمم والحضارات والممالك، دورات حياةٍ تشبه دورات حياة الكائنات الحيّة كَكُل. ولمَّا كان التّاريخ يسير وَفْق قوانين قابتة، فإنّ عمليّة التنبّؤ به ستكون من القوّة والدقّة بمكان. لكن يبقى في التّاريخ تحوّلات مفاجئة تغيّر مساره بأكمله، وبعيدًا عمَّا هو مُتوقّع. ببساطة، التّاريخ مثله مثل أيّ شيء في الطّبيعة، يخضع لقوانينَ علميّة وموضوعيّة، تُحدِّد حركته وكيفيّة تطوّره، وبمعرفة القوانين، نفهم الواقع السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وبها نتحكّم بالواقع والمستقبل. فهيغل مثلًا، وجد البشريّة تمرّ في تطوّرها التّاريخيّ بمراحلَ لا تحيد عنها، فمن هنا نقول نحن: إن كانَ كلام هيغل صحيحًا، وإن كانت الحتميّة التاريخيّة فاعلة في لعب دورها المحدّد، فإنّ التّاريخ سيكون حَسَب هيغل، مجرّد تكرارٍ لامتناهٍ، ومن ثَمَّ، لا فائدة مرجوّة منه؛ لإنّه إن عرفنا تلكم القوانين الثّابتة الّتي يسير وَفقها التّاريخ، البشريّ منه خصوصًا، فإنّنا بمعرفتنا لهذه القوانين، سنتنبّأ بما سيحدث حتمًا. لكن، السّؤال هُنا: إلى أيّ مدًى يمكننا التّحكّم بالواقع الموضوعيّ، وإلى أيّ مدًى يمكننا التنبّؤ بما سيكون عليه المستقبل؟ ما هي حدودنا؟ ولْنَكُن دقيقين في كلامنا: إنّ الحتميّة التّاريخيّة، ونظيرتها الاقتصاديّة، لدى ماركس بالتّحديد، لا تعني أبدًا ثبات المصير وإطلاقيّته، أو قَدَريّة الأحداث والمُنتهى، بل تعني قدرة الإنسان الواعي بمصيره وبضرورة التّغيير، ووعيه أيضًا بحرّيّته وبقدرته على الفعل.

الفرق بين الحتميّة والجبريّة

الفرق بين مفهومي الحتميّة والجبريّة، يُشابه الفرق بين العلم والميتافيزيقا، فالجبريّة في أساسها مفهوم دينيّ، تزعم أنّ الإنسان في أساسه مسيّرٌ وليس مُخيّرًا، وترى أنّ ما يحكم الكون هو الضّرورة المُفارقة المُتعالية؛ أي هي مُستقلّة عن العالم، لكنّها تسوده كما تشاء. إنّ الحدث لدى الجبريّ، ضروريّ وواجبٌ وقوعه، سواء توافرت سوابق حدوثه أم لا، فهو واقعٌ لا محالة، مهما تباينت واختلفت رغبات البشر واختياراتهم وأفعالهم. إذن، باختصار، الحدث لدى الحتميّة، هو ضرورة مشروطة، لا بدّ من وقوع سوابق حدوثه، والضّرورة كامنة في ذات الشّيء، وليست مفارقة للطّبيعة. أمّا الحدث لدى الجبريّة، هو ضرورة مطلقة غير خاضعة للوجود بما فيه.
إذن، هكذا كانت الحتميّة عبر التّاريخ، ولدى مُختلِف المدارس والمذاهب الفلسفيّة، وقد كان لدى كلّ طرفٍ حججه وبراهينه. أمّا واقعنا الآن وعصرنا الّذي نعيش فيه، فإنّه يقودنا تدريجيًّا نحو انسلاخٍ عنيفٍ من دائرة اليقين الحتميّ، إلى دارة اليقين الاحتماليّ.

أضف تعليقك هنا