شيء عن الدّيالكتيك المادي والتّاريخي، الجزء ٢\٣، بقلم: زين إسماعيل الشرقاوي

شيءٌ عن الدّيالكتيك المادّيّ والتّاريخيّ – الجزء (2-3)

الاختلاف بين المادّيـّة الميكـانيكيّـة، والدّيـالكتيكيّـة

[أ] لا تَعتبِر – المادّيّة الدّيالكتيكيّة – العالَم مُركَّبًا من أشياء جاهزة، كما تفعل الميكانيكيّـة، بل مُركّبًا من عمليَّات، تمرّ خلالها الأشياء في تغيُّراتٍ لا تنقطع من الوجود والفناء، والاضمحلال والاستحالة.
[ب] تعتبر المادّيّة الدّيالكتيكيّة، أنّ المادّة في حركةٍ دائمة، وأنّ الحركة هي أسلوب وجود المادّة، بحيث لا يُمكن أن توجَد مادّة دون حركةٍ، تمامًا، كما لا توجد حركة من دون مادّة؛ أيْ إنّ المّادّة هي الموضوع، والحركة صفة مَحمولة على المادّة، ولازمة لها. فتجد الحركة في الفضاء الكونيّ، وتجدها في ميكانيكيّة الكتل الأصغر في مُختلِف الأجرام السّماويّة، وتجدها في أصغر الجزيئات الأوّليّة، السّائرة في التّيّارات الكهربيّة، والموجات المغناطيسيّة، وغير ذلك. لا شيء ساكن، بالكّلّية، وكلّ سكونٍ هو نسبيّ فقط، وليس له معنًى، إلاّ نسبةً إلى شكلٍ مُحدّد أو آخر من أشكال الحركة. فقد يكونُ جسمٌ ما، مثلًا، في حالةِ توازنٍ ميكانيكيّ ظاهريّ على الأرض، وقد يكون في حالةِ سكون، لكنّ هذا لا يمنعه من أن يُشارك الأرض في حركتها حول الشّمس، ومع المجموعة الشّمسيّة بأكملها. فالمادّة، إذن، دون حركةٍ، أمرٌ لا يُمكن التّفكير فيه تمامًا، كالحركة دون مادّة – على حدّ قول إنجلز.
[جـ] في المادّية الدّيالكتيكيّة، على عكس الميكانيكيّة، لسنا في حاجةٍ إلى مُحرِّكٍ أوّل، أو إلى قوّة خارجيّة تفرض الحركة على المادّة، لكن من الضّروريّ، في المقام الأوّل، أن نبحث عن الدّوافع الدّاخليّة للتّطوّر، عن الحركة الدّيناميّة الدّاخليّة، الكامنة في كلّ العمليَّات المُختلفة. فكلّ شيء، إذن، يحمل نقيضه، ولا حاجة إلى نقيضٍ خارجيٍّ يُصارعه.
[د] حركة المادّة هي حركة شاملة لكلّ التّغيّرات، والعمليّات في الوجود، من مجرّد التّغيّر في المكان، إلى التّغيّر في التفكير والتّصوّرات الذّهنيّة. فهي، من ثَمَّ، تُدرك التّعدّد غير المنتهي لأشكال حركة المادّة، وتحوّل شكلٍ من أشكال الحركة إلى آخر، كما التّطوّر الحاصل لأشكال الحركة المادّيّة، من الشّكل البسيط، إلى الشّكل المُعقّد، ومن الأدنى، إلى الأعلى. فالتّطوّر المادّيّ، هو الّذي يتقدّم من مرحلةٍ إلى أُخرى، مَعَ نشوء شيء جديدٍ باستمرار. الدّائرة الدّيالكتيكيّة، تبدأ من نقطةٍ مُعيّنة، لكنّها لا تعود لها تمامًا، بل تتوسّع لتقطع نقطة جديدة.
[هـ] في العمليّات المتعدّدة الجوانب، الّتي تحدث في الكون، تُولَدُ أشياءُ، وتتغيّر وتكفّ عن الوجود، لا كَوَحَداتٍ مُنفصلة، إنّما في علاقة وتداخل أساسيّ، بحيث لا يمكن فهم أيّ منها بذاته، مُنفصلًا، بل في علاقاته وتداخلاته مع غيره، ومع الحالة العامّة.

وهكذا، نَلْحَظُ أنّ المادّيّة، أصبحت أكثر غنًى ومرونةً في تعاملها مع الوقائع، والموضوعات، وفي محتواها، كما أصبحت أكثر شمولًا من نسختها المكيانيكيّة العتيقة.

قوانين الدّيالكتيك

(1) التّغيّر الدّيالكتيكي

ينطلق هذا القانون بملاحظة الكون ومراقبته، حيث نستنتج: لا شيء يبقى ثابتًا حيث هو، ولا شيء يظلّ على ما هو عليه. والدّيالكتيك، هُنا، يعني أن ندرسَ الأشياء في حركتها، ما دمنا نبدأ من ملاحظة أنّ شيئًا لا يبقى على حاله. والحركة الدّيالكتيكية، لا تعني النّقلة، أو التّغيّر في مقولة الأين (أيْ التّغير في المكان الواحد المحدود في نفس الموضع، أو الانتقال من مكانٍ إلى آخر)، فهذا تفسير ميكانيكيٌّ للحركة. فعندما ندرسُ تفّاحةً ما، من وجهة نظر الدّيالكتيك، لن ندرس تدحرجها من على المنحدر، ولا سقوطها من شجرة، بل سندرس حركة التّطوّر الخاصّة بها، ومراحلها، فالتّفاحة النّاضجة، لم تكن كذلك دائِمًا. إنّها كانت تفّاحة خضراء صلبة، قبل أن تنضج وتتعفَّن، وكانت برعمًا صغيرًا قبل أن تكون زهرةً، وكانت بذرة، قبل أن تكون نبتةً، وشجرةً بعد ذلك. وهكذا، نفهم أنّ للتّفّاحة تاريخًا تطوّريًّا خاصًّا بها، يُمثّل مراحل حياتها، الّتي قادتها إلى ما هي عليه في لحظةٍ ما.

وهكذا، يتضّح مفهوم التّطوّر المادّي، الّذي يُنتج في مراحله المُختلفة، شيئًا جديدًا، كما أنتجت لنا البذرة نبتةً، وشجرةً، وثمرةً. فنحن ندرس الأشياء، بالتّالي، من وِجهة نظر الحركة، ومن وِجهة نظر الماضي والمُستقبل، الَّذَيْن لا يُمثّل الحاضر بينهما، سوى مرحلةٍ انتقاليّة. ومهما أوردنا أمثلةً على ذلك، لن يختلف إلاّ مقدار التّغيّرات الحاصلة، ودرجتها، سواء أكانت تغيّراتٍ مرئيّةً، أم غير مرئيَّةٍ لنا.

ومن هُنا، نفهم من هذا القانون، أن لا شيء نهائيًّا (يتّصف بالنّهائيّة) – بالنّسبة إلى الدّيالكتيك –، ولا شيء مُطلقًا (يتّصف بأنّه مطلق)؛ أي لا يخضع لأيّ شرطٍ وتغيُّرٍ، ولا شيء مقدّسًا؛ أي لا يجب لمسه أو مناقشته، بل احترامه فقط. فالشّيء الخالد، إنّما هو التّغيّر والصّيرورة. ونفهم، أيضًا، أنّ تاريخ الأشياء يختلفُ ضرورةً، وأنّ الصّيرورة تقوم بعملها في كلّ الاشياء، حيث إنّ التّفّاحة لا يُمكن لها أن لا تنضج، لدى توافر شروط النّضج، بل يجب أن تنضج، وتتعفّن إذا ما وقعت على الأرض، وتُحرَّر بذورها ليغمرها التّراب، وهذه هي الصّيرورة، الّتي تُمثّل في التّفّاحة، أطوارًا تَتَتَالى، وخاضعةً للزّمن، حيث الطّور الثّاني ينجم عن الأوّل. كما إنّه – تطوّر التّفّاحة – سيرورة طبيعيّة؛ لأنّ التّفاحةَ نَضَجَت نتيجةً لديناميّة ذاتيّة، تجري بشكلٍ طبيعيّ، ديناميّة تتأتّى من الكائن نفسه؛ بسبب التّكوين الدّاخليّ له؛ وبسبب التّرابط الدّاخليّ للعلاقات في التّفّاحة، الّتي دفعتها لتنضج. وهكذا، عندما نتحدّث عن صيرورة ديالكتيكيّة؛ نقصد تلك الصّيرورة الّتي يكون فيها الطّور الأوّل، مُسبِّبًا للثّاني، وليس تجاوزًا للأطوار فقط، دونما علاقة سببيّة. والسّيرورة الدّيالكتيكيّة، هي الّتي تكشف عن ديناميّة ذاتيّة طبيعيّة، تدفع التّفّاحة إلى النّضوج. بحيث لو أخذنا قَلَمًا، لَوَجدنا أن لا سيرورة ذاتيّة له، إنّما يصير القلم قَلَمًا، بفعل تدخّل الإنسان. فهذه، هُنا، ليست ديناميّة ذاتيّة، وليست تغيُّرًا ديالكتيكيًّا. ويتمخّض هذا القانون عن قانون آخر، وهو دراسة الأشياء في علاقاتها المتبادلة، وظروفها.

(2) الفعل المتبادل

ما دمنا ندرس الأشياء في حركتها، فلا بدّ لنا، إذن، أن لا ندرس الأشياء كلّ واحدٍ منها على حِدَة، بل أن ندرسها دائِمًا في محيطها، وعلاقاتها المتبادلة مع غيرها من الأشياء. فعندما نتّخذ موضوعًا للدّراسة، لا بدّ أن نكون على علمٍ بالظّروف الواقعيّة الموضوعيّة المحيطة به، وأن لا نتجاهل هذه الظّروف. ولْنَعُدْ إلى مثال التّفّاحة، ولْنَسأل: من أين جاءت التّفّاحة؟ نُجيب: من الشّجرة. ثمّ، من أين جاءت الشّجرة؟ من التّفّاحة، أيضًا؛ تلك التّفّاحة الّتي سقطت، وتعفّنت، وكشفت عن بذورها، وكوَّنَت شجرةً. والآن، بسبب ذلك، وجبت علينا دراسة الظّروف الّتي أحاطت بالتّفّاحة، والعلاقات المتبادلة الّتي مرّت بها، حتّى كوَّنت لنا شجرةً. وهذه الظّروف تتمثّل بالتّربة، وبتأثيرات الهواء، والشّمس، والماء، وغير ذلك.

وهكذا، بالمنهج الدّيالكتيكيّ، قادتنا دراسة التّفّاحة، إلى فحص التّربة، والظّروف المحيطة، عابرين بذلك من سيرورة إلى أخرى؛ أي من سيرورة التّفّاحة، إلى سيرورة الشّجرة، ومنتقلين بذلك، ضرورةً، إلى سيرورة الأرض والتّربة؛ وهذا ما يُسمّى «ترابطُ السّيرورات». وتاليًا، عبر كلّ هذه السّيرورات، نكون قد درسنا التّفّاحة، ليس بمعزلٍ عن الظّروف المحيطة بها، والمراحل الّتي مرّت بها، مُعتبرين أنّ التّفّاحةَ كانت تفّاحةً دائِمًا، بل ربطناها بمراحلها كافّة.

يتبيّن لنا، من خلال هذا، أنّ الدّيالكتيك لا يعتبر الأشياء ناجزةً وجاهزةً، وأنّه يدرسها باعتبارها بداية لسيرورة جديدة. لكن، لا يجب أن نفهم من ذلك، أنّ الدّيالكتيك شيءٌ حتميٌّ أو قَدَريّ، إذا ما طبّقناه على المجتمع والتّاريخ، مثلًا. فالأشياء ليست جميعها بهذه البساطة الّتي نراها فيها، فالإنسان مهمٌّ في إحداث التّغيير، فهو قد يستطيع تعجيل أو تأخير التّحوّلات. ونخلُص إلى التّالي: إنّ التّرابط بين السّيرورات والعمليّات، هو ترابطٌ نابعٌ من/وحادثٌ نتيجةً للقوّة الدّاخليّة للأشياء، المُسمّاة «ديناميّةً ذاتيّةً». كما إنّ هذا القانون، لا يطرحُ فكرة «عودٍ أبديّ» للأشياء والعمليّات، على شكل حلقات مُتكرّرة ومُفرغة من أيّ معنًى. فالتّفاحة تحلّلت، ولَمْ تُعطِ شجرةً واحدة، بل أشجارًا عديدة. كما إنّ الشّجرةَ الّتي نَمَت من تَحلُّلِ التّفّاحة، لم تُعطِ تفّاحةً واحِدةً، بل تُفّاحًا. وهذا ما يُوضّح لنا، فكرة التّطوّر التّاريخيّ على مرّ العصور، فعندا نراقب التّاريخ، يظهر لنا أنّ الوقت لا يمرّ دونما تركِ أثرٍ يُؤثّر على المجتمع والواقع، بشكلٍ أو بآخر، وهذا ما يُسمّى «التّطوّر الحلزونيّ»؛ فالدّائرة الّتي قد يرسمها هذا التّطوّر، لن تبقى دائمًا بنفس الحجم والمكان، لكنّها ستتّسع وتنمو، لِتُكوِّنَ شكلًا حلزونيًّا، يُمثّل التّقدّم الّذي يُحدثه تتالي التّطوّرات. وهذا ما يكشف لنا عن القانون الثّالث.

(3) التّناقض ووَحْدة الأضدّاد

يحتاج هذا القانون إلى كثير من التّفصيل؛ لسعة مفهومه وتطبيقاته؛ ويتفرّع إلى التّالي:
[أ] الحياةُ والموتُ
عندما يدرس الدّيالكتيك الأشياء، يدرسها عبر تطبيق رؤيةٍ ثنائيّة الجانب للأشياء، إذ يضع الأشياء على طرفَيْ النّقيض، مُبتعدًا بذلك عن المنهج الميتافيزيقيّ. لماذا، إذن، يفعل هذا؟ لأنّنا عندما نتفحّص الأشياء، نرى أنّنا لا نستطيع معارضتها الواحدة بالأخرى، ولا نستطيع فصلها عن بعضها هكذا، بتعسُّفٍ إطلاقيّ. ولو ابتعدنا عن اعتبار أنّ التّناقضَ قائمٌ في أفكارنا عن الأشياء، وليسَ في الأشياء ذاتها، ولو ابتعدنا، أيضًا، عن اعتبار التّناقض مُجرّد علاقةٍ منطقيّةٍ خاطئةٍ بين القضايا، وأنَّهُ لا يمكن أن يوجد في الشّيء نفسه، لَوَجدنا أنّ وجود التّناقضات في الأشياء، أمرٌ مألوفٌ جدًّا، ونراه دائِمًا. ومثال ذلك، عناصر الجسد الميّت، الّتي تتحلّل وتتحوّل لِتُولِّدَ حياةً أُخرى، فتُستخدَم كسمادٍ للتّربة، كي تصبح أكثر خصوبةً. كما إنّ خلايا الجسد الّتي تموت، لولا تجدّدها الدّائم بخلايا أُخرى تُولَد، لَما بَقي الجسد على قيد الحياة.

[ب] تحوُّل الأشياء إلى أضدّادها
نرى من خلال ما تَقدَّم، أنّ الأشياء تحمل التّناقض في ذاتها، وفي علاقاتها معَ غيرها من الأشياء، كما إنّ الشّيء قد يتحوّل إلى ضدّه. ويُمكن أن نأخذَ مثالًا على ذلك، الحقيقة، الّتي نُكابد لنصل إليها. فهما هو حقيقيٌّ بالنّسبة لنا، رُبَّما يكون صحيحًا لفترة من الزّمان، ثمّ لا يفتأ يُصبح خاطئًا، فالأرض كانت قديمًا، مَركزًا للكون، ثُمّ تبيّن، لاحقًا، أنّ الأرض ليست سوى كوكبٍ يَدور حول الشّمس، مع مجموعةٍ من الكواكب الأخرى. ونلاحظ، تاليًا، أنّ الأشياء في ذاتها، تحمل تناقضاتها، فالإنسان نفسه، يحمل شيئًا من الحياة، وشيئًا من الموت؛ حيث تموت الخلايا فيه، وتحلّ محلّها خلايا جديدة في نفس المكان، ليستمرَّ هو بدوره، على قيد الحياة. فالحياة توجد في أحشاء الموت، ولولا التّناقض القائم في الأشياء، وبين الأشياء، لتوقَّفت الحياة، وحلّ الموت في أرجاء الكون. وبالتّالي، تتغيّر الأشياء، وتتطوَّر؛ لأنّها تتضمّن تناقضًا ذاتيًّا. والسُّؤال هُنا: هل يُمكن أن يُقلب الوضع بدلًا من أن يتقدَّم؟ من المُمكن حصول ذلك، طبعًا، إذا ما سادَ أحدُ الضِّدَّين على الآخر، وتفوَّق عليه، ويظهر هذا على مستوى المجتمعات والتّاريخ.

[جـ] إثباتٌ، ونفيٌ، ونفيُ النّفي
لمّا كانَ الوجود يحمل تناقضًا، وكان هذا التّناقض يُمثّل صراعًا بين المتناقضات، يدفع المجتمع، مثلًا، إلى الأمام، أو إلى الوراء، وَجَبَ أنّ هناكَ شيئًا يُمثّل إثباتًا (أطروحةً)، وشيئًا يُمثّل نَفيًا (نقيضًا)، وشيئًا يُمثّل توليفًا، أو تركيبًا بين الإثبات والنّفي، ويتجاوزهما، لِيُنتِج شيئًا جديدًا. وهذا الإثبات والنّفي، كائنٌ في الوجود على مستوى الوقائع والمجتمعات، ويتمخَّضُ عن قوًى واقعيَّةٍ تتحارب فيما بينها. فلو أخذنا المجتمع الرأسماليّ قديمًا، وأردنا أن نتمثَّلَ التّناقض الّذي كان قائِمًا فيه – وجدنا أنّ هناك، أوَّلًا، قوّةً تميلُ إلى إثبات نفسها، والسّيطرة على ثَرَوَات المجتمع، وتطمح إلى صيانةِ ذاتها، وتعيش على فائِض العُمّال، وغير مُنتِجة، مُتمثِّلةً بالطّبقة البُرجوازيّة؛ أيْ عمليّة الإثبات. ثمّ سنجد، بعد ذلك، طبقةً اجتماعيّةً مُضادّة، تطمح إلى نفيِ الطّبقة البُرجوازيّة الّتي تعلوها مرتبةً في المجتمع، مُتمثِّلةً بطبقة البروليتاريا؛ مِمَّا يُكوِّن هيراركيّة اجتماعيّة تسود المجتمع؛ وهذه الطّبقة تُمثّل عمليّة النّفي. وفي هذا المثال، نرى أنّ الشّيء، على مستوى الوقائع، لا يُمكنه أن لا يُوجِد نقيضه معه. فالبُرجوازيّة، لا يُمكنها أن تُوجَد دونما خلقٍ لنقيضها البروليتاريّ، الّذي سيحفر قبرها.

فبذلك، نفهم كيف يكون النّفي والإثبات الدّيالكتيكيّ. إنّه يجب أن يكون ديناميًّا ذاتيًّا، وليس ذا مصدرٍ خارجيٍّ قسريّ. بل يجب أن يُولّد الشّيء نفيه بنفسه، ليحدث، بعد ذلك، ترابطٌ لسّيرورات، ونشهد تطوُّرًا حلزونيًّا تاريخيًّا من جديد. لكن، نلاحظ أنّه ليس من الضّروري أن نشهد هذه التّركيبة التّطوّريّة من الإثبات والنّفي، في كلّ مكانٍ، وفي كلّ مثال، فلن نجدها حلقةً مُكتملةً دائِمًا؛ لأنّ الأشياء قد تكون ما زالت تارةً في المرحلة الأولى، وطورًا في المرحلة الثّانية، من عمليّة التّطوّر والتّركيب. فالتّطوّر، إذن، لم ينتهِ بعدُ في كلّ مكان.

[د] وَحْدةُ الأضدّاد
وحدة الأضدّاد، هي تلك الحالة الّتي تقف فيها الأضدّاد معًا، في علاقةٍ من التّبعيّة المُتبادلة، بحيثُ يكون كلٌّ منها شرطًا لوجودِ الآخر. وهي تلك الحالة، الّتي نشهد فيها تداخلًا بين الأضدّاد، وانتقالًا من الضّدّ إلى الآخر. وتكون هذه الوَحدة باعتبار أن لا شيء يوجد مئة بالمئة، دون أن يتضمَّن شيئًا من ضدّه. فإذا أخذنا العلم والجهل، نرى أنّ الجهل، في البدء، كان مُخيِّمًا، ثمّ قَدِمَ العلم، فتحوّل الجهل إلى ضدّه، وهو العلم (إنّ الجهل والعلم ضدّان، وليسا نقيضَيْن)، مع بقاء نسبةٍ من الجهل طبعًا، لأنّه لم يفنَ تمامًا. ومثال ذلك أيضًا، أنّ العلمَ لدينا لا يوجد كلّيًّا وشاملًا مئة بالمئة، فنحن دائِمًا ما نجهل الكثير من الأشياء، فيجتمع لدينا العلم والجهل في الآن نفسه، ولا يفنيان بالكّلّيّة؛ ذاك أنّه لا يوجد جهلٌ كلّيّ، ولا يُوجد علمٌ كلّيّ مطلق. فكذا، نرى أنّ الأضدّاد توجد معَ بعضها، في آنٍ واحدٍ، وفي الأشياء نفسها. فنخلُص إلى أنّ الجهلَ نسبيٌّ، والعلمَ نسبيٌّ. ويجب أن نُلاحظ هُنا، أنّ الوحدة بين الأضدّاد، هي وحدة داخليّة حقيقيّة لا تنفصم؛ فالضدّان مُترابطان، وإذا ما قضينا على أحدهما، فلا يُمكن للآخر أن يبقى على حاله.

وبعد كلّ ما تقدَّم، نخلُص إلى القانون الرّابع للديالكتيك.

(4) تحوُّل الكمّ إلى الكيف، والتّقدُّم بالقفز

كما يُعرف لدينا، أنّ كلّ تحوُّلٍ هو نتيجة صراع القوى المُتعارضة، فحيثما تطوَّر شيءٌ ما، فذلك لأنهّ يتضمّن ضدّه في ذاته، ما دام كلّ شيء يُمثّل وَحْدةَ أضدّادٍ. لكن، أيكون التّحوّل تراكُميًّا بطيئًا، أم مفاجِئًا سريعًا؟

يرفض هذا القانون فكرةَ أنّ التّحوّلات تحدث عبر تراكماتٍ، أو تحوُّلاتٍ صغيرةٍ، تُؤدّي إلى تحوُّلاتٍ كبيرةٍ عنيفةٍ. بل يطرح، عوضًا عن ذلك، فكرة أنّ التّحوّلات تحدث بشكل طارئ، عبر قَفَزَاتٍ مفاجئة، وقد تكون عنيفة. فالماء هبوطًا من درجة الغليان (وهذا هو التّغيّر الكمّيّ)، سيبقى سائلًا، حتّى نصل إلى الدّرجة صفر سيلسيوس، حيث يتجمّد مُباشرةً (وهذا هو التّغيّر الكيفيّ). وهكذا، تكون التّحوّلات بمثابة قَفَزَاتٍ تقطع صلتها بالماضي. والكمّ هو الّذي نُجيب عنه بسؤال «كم؟»، حيث إنّنا لو رفعنا درجة حرارة المياه (الكم)، من درجة مئويّة واحدة، إلى مئة درجة، فسيتحوّل الماء فورًا إلى بخار، وهذا هو «التّغيّر الكيفيّ»، الّذي يُمثّل تغيُّرًا نوعيًّا في صفة الماء، أو في كيفيّته. ومثال ذلك أيضًا، أنّ تدمير المجتمع الرّأسماليّ، في الاتّحاد السوڤييتيّ، لم يكُن عبر مجموعة من الإصلاحات، بل بالثّورة، الّتي أجرت تغيُّرًا كيفيًّا عنيفًا، فالتّغيّرات الكمّيّة المُستمّرة لدى هذا الشّعب، والمُتمثلّة بإغضاب الشّعب، والشّعور بالظّلم، ورفض السّلطة القائمة، وغير ذلك؛ أدّت إلى تغيُّرٍ كيفيٍّ، مُتمثّلٍ بانتقال الشّعب من حالةِ هدوءٍ نسبيّ، أو لاثورة، إلى حالة ثورةٍ عنيفةٍ. إذن، أينما وُجدت التّغيّرات الكمّيّة، وُجِدت، تباعًا، التّغيّرات الكيفيّة.

أضف تعليقك هنا