طمأنينة اليأس..!

 

تضيق السبل، وتسير الأمور تجاه العدم مع رجعية أنظمة الحكم الشمولية، لأنها ببساطة تتفانى في قهر وتهميش وإفقار الشعوب في مقابل ضمانة البقاء في السلطة وإستمرار سيطرة رأس المال على مقاليد الحكم.. تلك هي الإمبريالية في أبسط توصيف لها، بعيداً عما قد يحمله المصطلح من عمق سياسي في المطلق..! وفي ظل هيمنة تلك الأنظمة، تنمو وتعيش طفيليات في صور آدمية تتغذى على فضلات أفكارها وتتنعم في كنفها بشكل مهين أحياناً،

وأحيان أخرى بشكل مثير للإشمئزاز..

لذا أجدني وكثيرين مثلي في حالة إمتعاض حين يعترضنا أحدها، وحينها لا نكاد نملك الإجابة عن سؤال جد محير: هل تلك هي سُنة الحياة كما يحلو للبعض التصور.. أم أن هناك حقاً شئ ما يستحق الصراع والاستبسال يدعى العدل والكرامة والحرية..!

 

ماذا أفعل..؟

” تلك هي صيغة سؤال اليأس المهذب الذي أحسبه يتردد بإستمرار على لسان كل رب أسرة أو معيل ضاقت به السبل لإستيعاب حجم الإخفاق الحكومي في إحتواء أزماته وتبعات مطالبه التي أحسبها لا تخرج عن النطاق المشروع حتى في أحلك الظروف، سواء كان هذا في مصر، أو في بلاد الجوار المنكوبة أيضاً بالإستعمار أو بأنظمة الحكم الشمولي..

وتكمن خطورة عدم القدرة على إجابة هذا السؤال فيما سيتبعه من دلالات مخيفة تكشف حتماً عن عمق غيبوبة تلك الأنظمة وعدم قدرتها على وضع تصور جاد وحقيقي لمجموع الأزمات المحيطة، بل والتهرب المتكرر من الاعتراف بالمسئولية تجاهها، أو إعلان عدم القدرة على إيجاد حلول بتبجح منقطع النظير.. وبالتبعية يصاب المواطن المنهك بالإحباط ويشعر بالعجز، حيث يصعب حينها إلقاء اللوم عليه إذا ما لجأ مضطراً إلى البدائل والحلول الأسهل ربما بالخروج على القانون، أو إتباع العشوائية واللا مبالاة في كافة أنماط السلوك حيث تغمض عين الدولة متمثلة في مؤسساتها وإدارات الحكم فيها..

 

في مصر التي أعنيها بتلك السطور،

نجد الخطاب الرسمي نيابياً وحكومياً وإعلامياً قد أجمع مؤخراً على مطالبة المواطن البسيط بتحمل قسوة الأوضاع، ومحاولة التصرف في تدبير أموره بما يتأتى له من قليل لا يكاد يسد الرمق.. وكأن نظام الحكم يرى بعينه التي تظن أنها لا تخطئ أن الشعب الذي أوشك على الغرق في مستنقع العدم أمام تغول الأسعار الفاحش، سيستطيع دون الانفجار أو الخروج على القانون أن ينفذ بشكل أو بأخر من تلك المصيدة المحكمة، تلك التي ربما لم تتشابك وتتعقد خيوطها بهذا الشكل من قبل..! هكذا يتحدث الرئيس عن إنجازات ومشروعات وخطط وطموحات أغلبها بعيد الأمد، غير مكترث بأنين الملايين تحت ضربات سوط القمع والإفقار وتكميم الأفواه التي تتوالى تباعاً، لاسيما من بعد إذعان مهين لشروط مانحي الخليج من أباطرة النفط، وكذلك تعليمات زبانية البنك الدولي ممثل عصابات سادة العالم الإستعماري، والمتحكم الفعلي في كل مقاصد الإقتصاد لدول العالم الثالث الأفقر والأكثر جهلاً.. لا بأس، وإن تبقى هناك شئ من القدرة على التحمل وإستطاعة تدبر الأمور بشكل ما في ظل الظروف المحيطة، فلماذا يتجاهل سيادته عمداً أي حديث عن القانون والحريات والمساواة، ولماذا يخشى تطبيق بنود الدستور مصدر العدل الذي هو أساس المُلك..؟

 

الرؤساء والملوك والأمراء بصفة عامة، عادة لا يرون إلا ما يعرض عليهم من تقارير وأخبار ومشروعات وخطط، وتجدهم يتحركون في مواكب محددة المسار ومؤمنة بالحراسات الاستثنائية.. وهم في الغالب ما يقابلون فقط شخصيات أو جموع منتقاة بعناية فائقة من ذوي الحظوة الذين يجيدون قراءة أفكار الحاكم ومداهنته عن إقتناع.. هؤلاء لا يحتاجون بالطبع للإجابة عن هذا السؤال السابق، لأنهم يعلمون جيداً أنهم ومصالحهم ومستقبلهم في حماية أزلية، طالما إحتموا داخل عباءة الحاكم الرسمية بصرف النظر عن توجهاته أو أهواءه..

 

” ماذا أفعل..؟ “..

فقط المحتضر والعاجز والمفجوع بعظائم الرزايا وفوادح الألم سيسأل هذا السؤال حينما يتملكه اليأس، فتجده يتطرق أطراق الرضى والاقتناع بطمأنينة اليأس البغيضة، والتي تعني نهاية طموحه.. فلم يعد هناك حينها مناص أو بُد من أي محاولة ببساطة لإنعدام الأمل في التحسن..! فهل هذا حقاً ما يراهن عليه الحكام في منطقتنا التي أصابها ما أصابها من الخراب والإنهيار جراء حكم تلك الأنظمة الديكتاتورية والشمولية..؟

حقاً إنه حينما يحل اليأس بأحدهم تنتابه حالة من الهدوء، وتتراجع لديه على الفور الوساوس على شاكلة لعل وربما.. إلا أن هناك طائفة من النفوس التي أوشكت على الإنقراض لا تهدأ أو تستكين لهذا المصير، وتظل تردد هذا السؤال في كل الأحوال بصيغه كافة، السلبي منها أو الإيجابي.. فتجدها تحاول الحصول على الإجابة عليه بالصدق والكذب، والواقع والإفتراض، والممكن والمحال، والصواب والخطأ.. لكن حقاً ما أتعسها تلك النفوس لما تلاقيه من متاعب لا تنتهي، وتنكيل لا يرحم ما تبقى لها من عقل وكرامة وإنسانية..!

الدولة متمثلة في أنظمة الحكم والإدارة تستهين بآراء المفكرين والمعارضين، وتعد صرخاتهم أمام الباطل من الأفعال والقرارات خيانة ومحاولة للإنقلاب على الشرعية.. وأغلب الظن أن شهوة السلطة قد أعمت الحاكم وحاشيته عن إدراك الرؤية الصحيحة..

 

فها هي بضائعهم المعروضة إعلامياً ومعنوياً وفقهياً تكاد لا تخرج عن نمطي الدين والوطنية..

فهنا تُباع الفتاوى والمواعظ في أكشاك أو على شاشات يديرها هواة يتقاضون رواتب في مقابل الترويج بإستماته لفكرة توظيف المجتمع لصالح إستقرار الحاكم، لا لتحسين مستوى المعيشة ورفع مستوى الفكر لدى من يزرحون تحت وطأة الهموم اليومية، وهناك من هم مازالوا يستدعون القيم الوطنية والتاريخية فقط من خلال الأغنية الحماسية أو المقطع المؤثر لزعيم أو قائد غبنه التاريخ أو خلده، في محاولات مستميتة للربط المستحيل بين أمجاد ماض عريق وإخفاقات حاضر مؤلم، لذا ربما تأتي النتائج غالباً مضحكة مبكية، أو مخيبة لآمال الجميع مؤيد كان أم معارض.. فنحن ببساطة شعب ذو طبيعة خاصة، لا ينقصه دين أو وطنية.. لكن ما أحوجه إلى الأخلاق، ولاسيما قوة الإرادة..!

 

في مصر كثير من الوطنيين والمؤمنين، ولكن قل فيها من إكتملت لديه نعمة الأخلاق.. ومن ينظر بعين الخبرة لأزماتنا، سيجد أننا في حاجة ماسة إلى دس ترياق قوة الإرادة في كافة مناحي الحياة.. كالتعليم والإنتاج والحفاظ على التراث والأرض وصيانة الكرامة..!
فهل من الممكن الشروع فوراً في محاولة إستبدال طمأنينة اليأس تلك التي أحسبها تفشت وأفسدت مزاج المجتمع، بشئ من قوة الإرادة وتعظيم مفهوم الأخلاق على حساب تجارة الشعارات المرسلة وحملات تزييف الواقع..؟

فيديو طمأنينة اليأس..!

 

أضف تعليقك هنا