الغموض في التصميم الجرافيكي

التصميم الجرافيكي

ان ممارسة التصميم الجرافيكي ادت الى تقليل قيمة الاتصالات الغامضة وبالتالي لا يتعلم المصممون في كثير من الاحيان المزايا التي تقدمها الاتصالات الغامضة. ينصب تركيز تاريخ التصميم غالباً على التواصل الواضح وبدرجةٍ أقل عن التصميم الذي ينشط عقل المتلقي. ومن خلال الاعتراف بأن الغموض هو شكل فعال للاتصال يمكن لمصممي الجرافيك توسيع لغتهم وتوسيع مسار الاتصال.

يُعرَّف الغموض بأنه بيان مكتوبٌ او بصري، هو ايضاً مفهوم او موضوع يمكن تفسيره بأكثر من طريقة، فهو يقدم معانِ متعددة للقارئ او المتلقِ او الجمهور. لا ينظر الى الغموض على انه مرغوب به فحسب في مجالات مثل الأدب والفنون الجميلة بل متأصلاً في قيمة العمل الفني او الفكرة وتفسيرها في ذهن المشاهد. وفي مجال الإعلان وهو المجال التصميمي المغروس في الثقافة التجارية، يُستغل الغموض لتشكيل علاقات وثيقة بين المستهلك والمنتج. ويتم ربط المدلول في هذا السياق من خلال عملية انشاء تراكيب ذات معانٍ عميقة. ان امكانيات الغموض لا تزال غير مستكشفة في التصميم الجرافيكي وهو المجال الذي يهتم في الغالب بتوصيل رسالة واضحة.

التصميم النقدي

يُعرِّف (انثوني دان) و(فيونا رابي) (2013) التصميم النقدي بأنه ˮفكرٌ نقدي مترجم الى مادة. فهو يتعلق بالتفكير من خلال التصميم وليس من خلال الكلمات واستخدام اللغة وبنية التصميم وذلك من اجل إشراك الناس‟. ومن الناحية النظرية ترى (جوانا دروكر) و(إميلي ماكفاريش) (2009) بأن المنهج النقدي يتيح طرقاً جديدة للتفكير في التصميم الجرافيكي للنظر فيها. وبذلك يمكن كشف وتقييم القيم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية والقوى السياسية التي تؤثر على الاتجاهات الجمالية والانتاج المادي ودور الغموض في التصميم.

ويصف (ديلنوت) (1984) في كتابه ’حالة تاريخ التصميم: المشاكل والإمكانيات‘ مصطلح التصميم بأنه غامض في الاساس فيما يتعلق بعملية فعل التصميم ونتائج ذلك النشاط (الصور والكائنات المصممة) والأهمية. ويذهب الى ان الجانب الأكثر اهمية في التصميم هو ان يتم انتاجه واستلامه واستخدامه ضمن سياق اجتماعي مؤكد. ولذلك فالتصميم مُعرَّض للقوى السياسية والفلسفية فضلاً عن التغيير الاقتصادي والتكنولوجي، مما يؤدي الى توسيع نطاق انشطته او تعديلها وعدم تقييدها بالقواعد المقررة. ونتيجة لهذه السيولة فإن اللغة البصرية للتصميم الجرافيكي تتغير بإستمرار في حين ان التقدم التكنولوجي يغير الطريقة التي نتعامل بها مع العالم ويحدد مكاننا فيه.

وتتم دراسة مصدر ازدواجية التصميم (الجرافيكي) في الغموض في سياق الحراك المتضارب لتشكيل انظمة عقلانية تنطبق على جميع المشاكل. وكما يذكر (جون دي بيري) (2010) في كتابه: ’النقطة -الفونت: حديثٌ في التصميم‘، ˮان الغرض من التصميم هو اعطاء الوضوح والشكل لكل ما ليس له شكل موجود او على الاقل لخلق بعض البُنى التي تساعدنا على التنقل داخل الفوضى اليومية.‟ على النقيض من ذلك فقد تم استغلال الغموض في توسعة هادفة لمفاهيم التخصص مما يعكس الغموض في الحياة اليومية.

ما بعد الحداثوية: التعدد والالتباس المُبهج

على النقيض من المطلق والقواعد العالمية للحداثوية يتميز تصميم ما بعد الحداثوية بالتجزئة وشوائب الشكل والعمق وعدم التحديد والتناصية والتعددية والانتقائية والعودة الى العامية.

وقد تم تحديد البلاغة البصرية الحداثوية المحايدة على انها ملتزمة بخصائص الغموض المُقْنِعَة كما اوضح كل من كيبس (1944) ولوش (1982). وان الادوات الجمالية نفسها المستخدمة لتجسيد الصدق والإتساق من خلال الطباعة بالحروف دون ذنبات (سانس سيرف) والتشبيه الفوتوغرافي في رفض الغموض تظهر في هذا السياق من اجل تحسين قيمة الغموض. في حين ان هذه الامثلة لا ترغب في تقليص التصميم الحداثوي الى اتجاهات اسلوبية تحت رحمة القوى الرأسمالية، فإن هذه الامثلة تثبت ان الغموض له قيمة بطبيعته (في سياقات معينة) من التصميم، ولكن قد تم تقليل قيمته في القطاعات التجارية والتعليمية الرئيسية.

لقد جاءت الجمالية الوظيفية المحايدة لتمثيل مفاهيم عامة حديثة عن التصميم ’الجيد‘ (والتيبوغرافيا) وتقوم بإيصال رسالة واضحة عن طريق الحد من الغموض. واصبح ’البديل‘ البصري ووظيفة الاختزال في وقت لاحق رموزاً اسلوبيةً تشكل اساس الحداثوية للشركات. على النقيض من ذلك، احتضنت ما بعد الحداثوية ثراء وعمق المعاني المتقدمة من خلال المشاركة النظرية مع لغة بصرية من الاتصالات في جمالية يحركها الحاسوب.

الغموض

يذكر (جون كابوتو) (2005) في كتابه ’في تقريظ الغموض‘ ˮاذا كانت الكلمة واضحة بشكل لا لبس فيه، فقد فقدت اقتراحها واصبحت مصطلحاً تقنياً.‟ ويُعرِّف الغموض بأنه افراط او مضاعفة المعاني ويقدم في وقت واحد عدة اتجاهات مختلفة للقارئ ويجب ان يبقى في حالة من التعدد ’المتعمد‘ من اجل تحقيق معناه.

ويذكر (داريو غامبوني) (2002) ان جميع الصور غامضة اساساً لأن الادراك البصري هو فعلٌ سيميائي من التفسير يدمج الذاكرة الثقافية والخيال. ذلك ما وصفه في مقابلة أجريت معه فيما بعد بأنه ˮاختيار ومواجهة المحفزات مع بيانات الذاكرة، وبالتالي فهو عملية نشطة ذاتُ بعد ادراكي‟.

العلاقة بين الصورة والنص

يتم تحدي العلاقة ذات المعنى بين الصورة والنص من قبل الفنان (رينيه ماغريت)، في استكشافٍ عاكس للرسائل الموجهة بالعلامات من خلال التلاعب في الاطار النظري والسيميائي. في اعمال (ماغريت) الفنية فان يقين المعنى نفسه يتم تحديه في تجاور الاشياء العادية المصورة في علاقات بصرية وسياقات غير عادية، مما يشكك ادراكنا وتصور الاشياء اليومية المألوفة من خلال تمثيلها البصري.

قد وصف الغموض بأنه يستغل صوراً معقدة واشكالاً غير واضحة لتقديم تفسيرات متعددة للمشاهد. ومع ذلك، يمكن ان يتحقق الغموض ايضاً من خلال عدد من الاشكال البصرية الدقيقة والتخطيطات التصميمية. ويمثل شعار (فيديكس) مثالاً على الغموض ذي النمط المزدوج الذي يتضمن معاني كامنة في عملية تصميم وظيفية. تم صياغتها في جمالية محايدة وانموذجٍ من الحداثوية التجارية لمحارف (سانس سيرف)، وإشارة إضافية مخفية في هذا الشعار من خلال التلاعب في الفضاء بين الحروف ’إي‘ و’إكس‘.

مما سبق يتضح ان الغموض هو عنصر مهم في التصميم الجرافيكي. وهناك جدل حول هذا الموضوع. على الرغم من ان خطوط التأليف قد تكون غير واضحة في الاتصالات الغامضة، الا ان المشاهد لديه فرصة ليكون نشطاً جداً لانه يصبح مشاركاً في خلق معنى العمل. وتشير بعض الدراسات الى ان الجمهور يرغب في الغموض لان الكثير من الناس يتمتعون بحل المشاكل في النوعيات التي يثيرها الغموض.

ان الاعمال التصميمية غير المحددة هي غامضة بحيث ان المشاهدين سوف يضطرون الى خلق المعنى بانفسهم لأنه ليس هناك اجابة صحيحة او خاطئة، هناك كمية لا حصر لها من المعاني الممكنة. وقد يكون ذلك مقلقاً لبعض المشاهدين ولكن ضروريٌ في كثير من الحالات من اجل تمييزه عن الفوضى البصرية الموجودة في العالم.

الخلط بين الغموض وسوء الفهم

وينبغي عدم الخلط بين الغموض وسوء الفهم. ويجب تطبيق الغموض عن قصد من اجل ان يكون ناجحاً. اما اذا كان التواصل البصري غير واضحٍ ويؤدي الى غموض غير مقصود، فإن ذلك ليس شكلاً ايجابياً من اشكال التواصل. ينبغي استخدام الغموض مع اخذ المشاهد بنظر الاعتبار بصورة جدية. وهذا يمكن ان يوفر فرصاً جديدة للتواصل تترك للمشاهد اسئلة اكثر من الإجابات.

يعترف الكثير من مصممي الجرافيك ان الغموض غالباً ما يكون موجوداً في التواصل البصري. وبنظرة على تاريخ التصميم الجرافيكي، يمكن للمصممين ان يروا كيف كان الغموض يعمل دائماً في اساليب الاتصال البصري. يوفر هذا المبدأ التوجيهي فهماً كبيراً للغموض في التصميم الجرافيكي الذي تغفله النصوص التاريخية في مناقشاتها للاعمال. يمكن للمصممين الآن النظر في ادوات الاتصال المشروعة تلك عندما يقومون بعمل تصاميمهم. وللغموض فوائد ايجابية للمشاهدين وإذا ما استخدم بحكمة فسوف يعزز مجال التصميم الجرافيكي ويوفر مجالاً لاساليب جديدة للاتصالات البصرية.

اطيب التحيات

فيديو المقال الغموض في التصميم الجرافيكي

 

أضف تعليقك هنا

د. راقي نجم الدين

د. راقي نجم الدين - العراق

دكتوراة في تقنيات التصميم