جدلية العلاقة بين الحداثة والتراث عند “محمد الجابري”

بقلم: سـمـيـة غـريـب

عندما نتحدث عن الفكر و الحداثة عند “الجابري” يستوقفنا أهم مؤلفين كتبهما في هذا المجال وهما « التراث و الحداثة » و « نحن والحداثة» والذين صارا المرجع الرئيسي الذي يرجع إليه الباحث عندما يربط مفهوم الحداثة بما قدمه “الجابري” ، ويعتبر “الجابري” أحد كبار منظري الحداثة والأستاذ الأول للحداثيين العرب على وجه الخصوص.

الحداثة طريقنا الوحيد إلى عصر

ولأجل محاولة معرفة منهجه و فكره فيما يخص هذا الموضوع، ننطلق من أحد مقولاته الشهيرة إذ يقول: « الحداثة طريقنا الوحيد إلى عصر »، وليكرس أهميتها أكثر عبر عنها بأنها ديدن الحياة في كل مجال، ولا ريب أن الدارس لفكر الباحث يلاحظ شيئا مهما يكمن في كون الجابري لا يتحدث عن الحداثة منفصلة عن التراث أبدا، فكان أن جعل من هذه الأخيرة وثيقة الصلة بالأولى، وهذا ما يبدو جليا في أغلب مؤلفاته حتى في الحوارات التي أجريت معه ، ففي أحد المقابلات سئل عن هذا الموضوع فأجاب قائلا : «… المطلوب منا فيما يخص الحداثة ، ليس أن يحدث المحدثون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق، والنطاق الأوسع هو نطاق التراث». (1)

وفي هذا الصدد يقول الكاتب عزيز العرباوي في كتابه (تجليات التراث في الفكر العربي والإسلامي – الجابري وأركون نموذجا ): «ومن منطلق الاهتمام بالتراث وإعادة قراءته، فقد عمل المفكر المغربي محمد عابد الجابري على تقديم ابن رشد فكرياً وسياسياً ودينياً، فكتب حوله أبحاثاً قيمة ومتميزة دعا فيها إلى فكره العظيم، بل كانت دعوته استحضار ابن رشد والحاج إليه اليوم، دعوة صريحة لاعتبار ابن رشد في مشروعه لم يأخذ في زمنه ، ولا بد من إعادة الاعتبار إليه بتبني فكره وثقافته النقدية سواء في المجال السياسي أم المجال الديني … » .

ولكي لا يفهم من فكر الجابري بقوله بتحديث التراث أي إحداث القطيعة معه بل على العكس من ذلك تماما إذ جعله الإطار الأساسي الذي نتحدث فيه عن مضامين الحداثة وهذا ما يؤكد قوله :« فالحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ، ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني ارتفاع بطريقة التعامل مع مستوى نسميه بالمعاصرة ، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي».(2)

وفي مجمل دراسته يسعى إلى أن يجعل التراث حاضرا لنفسه ومعاصرا لنا ، وهو بهذا يستهدف الإجابة على الأسئلة التالية: كيف نعيد مجد حضارتنا؟ وكيف نحيي تراثنا؟ ثم كيف نعيش عصرنا؟ وكيف نتعامل مع تراثنا ؟ (3)

وهذا ما قاد محمد عابد الجابري إلى تأليف كتابه الشهير ( الحداثة والتراث) والذي سنتطرق إلى أهم أفكاره فيما بعد.
أما عن الحداثة في إطارها العام فحدد الجابري غاية الحداثة وأكد أن الواجب على الحداثة أن تفرض نفسها كمبدأ وفكر جديد من منظور عصري هذا ما حققه على الصعيد العالمي ، أما على الصعيد العربي فإنها لم تفرض نفسها ، بمعزل عن التراث.
أولى “الجابري” الحديث عن التراث أهمية كبرى وعرفه بأنه «كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي سواء ماضينا أم ماضي غيرنا، سواء من القريب أم البعيد»  (4)، وخصص له قسطا وافرا من كتاباته وليس أي تراث بل هو التراث الإسلامي الذي انطلق من أفكاره واتخذها مرجعا رسميا فهناك من رأى بضرورة التمسك بالتراث بكل معطياته من جهة وعن إحداث تغيرات فيه من لأجل مواكبة العصر من جهة أخرى، فكانت النقطة التي أسال فيها الباحثون الكثير من الحبر وفي هذا الإطار تستوقفنا مقولة إحدى المؤرخين عن التاريخ إذ قال : «بأن له ثلاث قوى :تراث، تجربة، تفاعل، الأولى قوة عمودية آتية من أعماق العصور وهي الدفع الذي يقدمه الماضي للحاضر، والثانية قوة أفقية تتمثل في التفاعل مع الشعوب والحضارات في التأثر والتأثير، ولكن في القوة الثالثة يكمن التاريخ الحقيقي فالتجربة هي القائمة على الحضور، الحي هي التي تدرك وتتجدد وتتخطى وهي التي تبني المستقبل ذلك إن التجربة اتفاق من الماضي وانخراط في الحداثة». (5)
فهناك يربط لنا الباحث الماضي بالحاضر وجعله القوة الدافعة والتجربة هي الوسيط بين الماضي وموضوع الحداثة وكأنها معادلة أطرافها تخدم بعضها ، لكن الجابري يقول بجدلية العلاقة بين أطرافها إذ يقول: «العلاقة هنا جدلية ، مطلوب من الثورة أن تعيد بناء التراث ومطلوب من التراث أن يساعد على انجاز الثورة». (6)
وهذا ما أوضحه أيضا فيما قال بتجاوز الفهم التراثي للتراث ، إذ يرى “الجابري” بأنها من أهم متطلبات الحداثة « ومن هنا كان من أهم متطلبات الحداثة في نظرنا تجاوز هذا الفهم التراث إلى فهم حداثي إلى رؤية عصرية له». (7)
كما يؤكد بأن التراث العربي الإسلامي ليس ككل تراث ، إذ أنه أضفى شيئا من الخصوصية على الحداثة عندنا إذ جعل منها بحق حداثة عربية، ليذهب “الجابري” في الأخير إلى تحديد ما تهدف إليه الدراسة الحداثية للتراث فيرى بأنها :« تحليل مفهوم التراث كما يتحدد في الوعي العربي الراهن ،ضرورة تقديم طريقة لقراءة النصوص وتفكيكها وقراءتها قراءة عصرية». (8)
كانت من أهم الأهداف التي سعت إليها دراسته للتراث سعيا منه إلى الحفاظ على الهوية والخصوصية مع تحديث التعامل مع التراث .
وفي الأخير يمكن القول يمكن القول أن أعمال ” محمد عابد الجابري” الفكرية يلاحظ عنها أنها تتوخى الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر والعمل المفتوح على مكاسب التاريخ المعاصر ، وذلك انطلاقا من مدخل نقد التراث ونقد آليات الفكر السائد في الثقافة العربية فهو من جهة يدعو إلى إعمال الحداثة في القراءات التراثية من خلال إدراج القطيعة مع بعض ما يدعو إلى رؤية الموروث العربي رؤية جامدة، مكتفيا بالتلقي المباشر دون النقد ، فاهتمامه بالتراث كان يهدف إلى انجاز مشروع الحداثة الفكرية في الوطن العربي.

بقلم: سـمـيـة غـريـب

الهوامش : 

(1) محمد عابد الجابري وآخرون ، الإسلام والحداثة والاجتماع السياسي ، مركز الدراسات الوحدة العربية ، ط 01، لبنان 2003، ص 26.

(2) محمد عابد الجابري ، التراث والحداثة ( دراسات ومناقشات) ، مركز الدراسات الوحدة العربية ، ط 01، بيروت 1991، ص( 15،16).
(3) محمود أمين العالم، الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر ، منتدى مكتبة الإسكندرية ، ص : 178 .
(4) محمد عابد الجابري ، التراث والحداثة ( دراسات ومناقشات)، مركز الدراسات الوحدة العربية ، ط 01، بيروت 1991 ، ص : 45 .
(5) جمعة المهدي الفزاني ، الانفصال الحضاري ، منشورات الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع ، ط1، ليبيا 1981 ، ص 132.

(6) محمد عابد الجابري، نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي ” المركز الثقافي العربي ، بيروت 1993 ، ص 15.

(7) محمد عابد الجابري، نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي ” المركز الثقافي العربي ، بيروت 1993 ، ص 15.
( 8) محمد عابد الجابري، نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي ” ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1993 ، ص : 19.

أضف تعليقك هنا