من العملات المركزية إلى العملات اللامركزية في سطور

ظهور النقود

كانت فكرة ظهور النقود هو التخلص من عيوب المقايضة بخلق وسيط؛ لتبادل القيم الاقتصادية لتسهيل إشباع الحاجات والرغبات بالشراء والبيع المباشر، وظلت تتطور النقود وأشكالها من عملات معدنية مصنوعة من معدن نفيس له قبول لدى الكافة بندرته الاقتصادية، ويعتبر الذهب معياراً أساسياً للمنتجات والخدمات فقد أحكم الله تعالى اكتنازه بنصاب محدد يعادل 85 جراماً من خالصه. تجاوزه يفرض عليه الزكاة، وسند ذلك في قول الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) {سورة آل عمران} صدق الله العظيم.

ولذلك ظهرت النقود الورقية كسندات مديونية تعادل قيمة من الذهب يحق لصحبها تسيلها إلى هذا المعدن النفيس إلى أن تدخلت الدولة كتطور للمجتمعات لتنظم تداول هذه النقود فنشأت النقود المركزية التي نعرفها الآن، وخير دليل على ذلك صدور القانون المصري رقم  45 لسنة 1935 بشأن العقود ذات الصبغة الدولية والتي أجاز فيه بأن يكون الدفع ذهباً إذا كان الوفاء التزاماً ذا صبغة دولية بشرط ألا تكون العملة متداولة محلياً.

ظهور البنوك المركزية

ومع تطور الحياة الاقتصادية، وتشعبها، وزيادة التجارة الخارجية، ومن ثم تداول النقود بين الدول ظهرت البنوك المركزية؛ لتباشر السياسة النقدية للحفاظ على قيمة العملة التي تصدرها أمام العملات الأجنبية إلى أن تم توقيع اتفاقية بريتون وودز سنة 1944 بجعل الدولار عملة أساس مرتبطة بالذهب بسعر ثابت يبلغ 35$ لكل أونصة من الذهب، ، ولكن نتيجة زيادة الطلب على الدولار لتسوية الديون الدولية ترتب عليه تضخم بالاقتصادي الأمريكي لعدم كفاية غطاء الذهب، مما جعل الهيمنة الأمريكية تفرض إلغاء هذه الاتفاقية سنة 1971 وحل ارتباط إصدار الدولار بالذهب. وحل محلها اتفاقية صندوق النقد الدولي؛ ليقوم بدور البنك المركزي بين الدول اعتمادا على السيولة الدولية والتي تعرف بأنها: (( الموجودات غير الوطنية التي تكون السلطات النقدية الوطنية مستعدة لقبولها لأغراض تسوية الديون والالتزامات المترتبة لها أو عليها ، وبسبب خاصية القبول العام الذي تحظى به هذه الموجودات فيمكن تعريفها بأنها: تلك الموجودات التي يجري اللجوء إليها لتسوية العجز في ميزان المدفوعات دون الاضطرار إلى تغيير سعر الصرف أو إتباع سياسات انكماشية سريعة أو فرض قيود على التجارة ))، ويعتبر من مصادر السيولة الدولية: الذهب، والعملات الاحتياطية وخاصةً العملات القائدة Currency  Leader كبديل عن الذهب في التسويات الدولية باعتبارها تقوم بوظائف النقود الدولية.

ظهور التجارة الإلكترونية

ولقد أدى ظهور التجارة الإلكترونية وسرعة انتشارها أن جعل النقود تتحول من الشكل المادي إلى الشكل الافتراضي. مما ترتب عليه ظهور النقود الرقمية ومصارف المقاصة الالكترونية، وخرجت النقود المركزية من سيطرة البنوك المركزية، وصارت الأدوات المباشرة التي كان يقوم بها البنوك المركزية مع جهازه المصرفي من البنوك للسيطرة على قيمة العملة أمام العملات الأخرى عاجزة عن تحقيق ذلك؛ لأن تداول النقود عبر الشبكة مطلق بلا رقابة أو تشريع. الأمر الذي أدى إلى ظهور أزمات في السياسة النقدية وخاصة أن الاقتصاد الرقمي يقوم على التجارة الإلكترونية، ولذلك فالدول المتخلفة والتي تعاني من الفجوة الرقمية صارت ضحية للدول المتقدمة؛ لأن ثرواتها تتنقل عبر التداول الرقمي للنقود لعدم تعادل عمليات استيراد المنتجات سواء كانت بضائع أو حقوق ملكية فكرية أو خدمات مع عمليات التصدير. ومن هنا خرجت البنوك من وظيفتها في حماية أموال الناس إلى تحويل قيمتها إليها بالتلاعب في قيمتها بأداة التعويم غير المشروعة. فهو غسيل أموال بالتدمير الجزئي لقيمة العملة الذي يؤدي إلى انخفاض قوتها الشرائية، وما يقابلها من غطاء لها بالاحتياطي. فتثرى البنوك على حساب المدخرين بتقليل قيمة المديونية من العملة الوطنية،  وغالباً ما يسبق التعويم حصد للعملات الأجنبية من السوق النقدي بقرارات تقيد شرائها فيتضاعف الإثراء بكسب الجزء المدمر من الوطنية.

ونظراً لخروج البنوك المركزية عن وظيفتها الاجتماعية بأنها تقوم بإدارة النظام العام النقدي إلى الربح والإثراء على حساب المواطنين ظهرت فكرة العملات اللامركزية للخروج من ربقة السيطرة من النظام النقدي المركزي الذي صار معيباً تحكمياً مصدر للتضخم المستمر بصناعة نقود الودائع وإصدار نقود بدون غطاء فالنقود المركزية في انخفاض مستمر؛ لخروجها عما فرضه الله تعالي بإهدار قاعدة الذهب الذي ثبت ندرته النسبية. وهذا يفسر أن البنك المركزي المسيطر على السياسة النقدية دائما يحدد معياراً ثابتاً للتضخم يعادله فائدة استعواضيه للمدخرين.

ولكن ما هو الدافع من ظهور العملات اللامركزية؟

إن هذا يرتبط بتوغل الفساد المالي والإداري الذي انتشر في العالم والذي لم تؤثر فيه اتفاقيات مكافحة الفساد، ولاسيما في الدول النامية، وذلك بغية غسيل الكسب غير المشروع من خلال وسيط الكتروني له ضمان عام على الشبكة يقول بتحويل الخدمات والأموال غير المشروعة لعملات لامركزية مثل: البتكوين، فالوسيط الضامن للعملة المركزية يقبل تسيلها في أي وقت وفي أي مكان لما يقابلها من قيمة نقدية بالعملات المركزية. ولكن هذا لن يمنع الجانب الإيجابي للعملات اللامركزية من أنه إجبار العالم لإذابة تقسيماته الحدودية كما خلقه الله جلال جلاله، وإلى توحيد العملة لتكون موحدة دولياً؛ لأن ذلك تطور طبيعي للتجارة الإلكترونية التي أذابت الحدود الإقليمية إلى الإقليمية المطلقة عند بعض الفقهاء. فالمستقبل سيجبر الدول إلى اتفاقية دولية بإصدار عملة رقمية لامركزية موحدة ستتحكم فيها شركة أو مصرف له احتكار تام؟ فقد دق ناقوس الخطر للاقتصاد المصري؛ ليسارع إلى إصدار قانون لتداول النقود الرقمية والتجارة الإلكترونية، وتكوين شراكة بين الدول العربية لإصدار عملة رقمية عربية موحدة تحقق إشباع نقدي لتبادل الثروات العربية؟ ألا آن الأوان للتخلي عن الخلاف العربي الشخصي إلى لم الشمل بوحدة الأصل والدين والأرض والعملة!

بقلم الدكتور/ مصطفى حمدي

دكتوراه في الحقوق

فيديو مقال من العملات المركزية إلى العملات اللامركزية في سطور

أضف تعليقك هنا