في رثاء جد برتبة أب

على كرسيٍ متحرك عبرت تفاصيل ذلك اليوم بذاكرتي ،دخول جسم غريب في الأنف هذا ما كُتب بتقارير المستشفى وعلى أساسه طلب الطبيب أن أنام بوضعية الجلوس ،فقضيتَ الليلة جالساً على كرسي وسانداً رأسي إلى ذراعك وبعد مرور سنوات طويلة وتحديداً فجر يوم الخميس 18 يناير/2018م تكررت الوضعية ولكن تبدّلت الأدوار.

“للموت هيبة”

هذا ما يقال عن هادم اللذات ،الموت فاجعة تُخرس الثرثار و تُعجز الفصيح ،”لا إله إلا الله ،الحمد لله إرتاح و قلوبنا باردة” ،هكذا استقبلت خبر وفاتك وبداخلي نار تتغذى على عظامي ولا أظنها تُخمد.

انتقلتُ للسكن في منزلك قرابة الرابعة من عمري ،طفلة بلسانٍ ثقيل وأحرف متقطعة تتجاهل وجود الرجال وتتجاوزهم للوصول إلى أذن جدها فتخبره ما تخبره ولا يمل انتظارها أو يشفق عليها، وليستغرق نطق الجملة ساعة ما المشكلة؟

جدي كنتَ ….

آخ ما أقساها من مفردة ،أي عذابٍ أشد من تحول الحاضر لماضي لا عودة له؟

جدي ،يا والدي الذي أعرف و عائلتي التي أحب ،كيف أرثيك؟

كيف أختزلك في أسطر؟

كنتُ دائماً أتمنى أن تعود ذاكرتك ولو نصف ساعة ،فترى نتيجة تعبك واعتناءك بأحفادك الستة ،نعم أنا أنانية و لكم وددتُ أن ترى حجم الشبه بيني وبين والدتك وتسمع حديثي الذي لن يستغرق ساعات فقد كبرت و انطلق لساني ،تعمدت التمني وأنا أعرف بأنه مرتبط بالمستحيل حدوثه ،لأنه بقرارة نفسي كنت أحمد الله على مرضك وأعتبره نعمة، فمهما كانت قوتك فلن تتحمل غياب جدتي التي بعد رحيلها بأشهر سألتَ عنها وأجهشتَ بالبكاء حين أخبرناك بأنها رحلت.

عيناك المغمضتان منذ مدة فُتحتَا يوم رحيلك، وكأنك تنظر إلينا النظرة الأخيرة ،عيناك ظلت مفتوحة بالمغسلة تنتظر ربما قدوم جدتي وأبنائك محمد وخالد فأنت أيضاً لا تعلم برحيلهما.

منذ اللحظة التي دخلتَ بها للسعودية مهاجراً من حضرموت طفل بروح رجل ،هل كنت تعلم بأن القدر سيفاجئك وأنك ستبني منزلاً وتنفث فيه من روحك ليكون رحماً آمناً ليس فقط لأبنائك ،عائلتك وأرحامك بل أيضاً لأحفادك الستة؟

كلّ من دخل إلى المنزل لأول مرة بالعزاء قالها: “بيتكم مريحٌ و دافئ” جاوبتهم:

“لأنه بيت جد!”.

و أنا ساهية مع أفكاري اقترب حفيدك الطفل قائلاً: “عزيمة جدي مزعجة”، كيف أشرح لطفل بعمر الست سنوات أن هذا التجمع ليس عزيمة وما هو مبرر الإزعاج بعزاء الميت؟

ميت؟

أنت ميت، إذًا لماذا أنا بغرفتك وكيف تراءَى لي أن خالتي أشارت بيدها كي أصعد للاطمئنان عليك؟

لطالما آمنتُ بأن التعود نعمة من الله ،فالحياة بلا مرونة شاقة في دنيا دوام الحال بها من المحال ولكن السؤال هو:

كم سنةً سنحتاج كي نعتاد الغياب؟

كيف أصحو ولا أراك بالصالة واضعاً ساقاً فوق الأخرى وقد إنتهت إبنة خالتي من إطعامك وبدأت مناوبة رعايتي لك ؟

في كل مرة “الرز بيكون مهري” و لين خالتي ستقول:

“يا ابتهال خلي لجدك منه هذا ليّن عليه”.

في كل مرة سيصعد خالي للدور العلوي سيُخطئ ويغني لك:

“الله حيّو يا شيخ عمر” .

في كل مرة ستسافر أمي للدمام للمراجعة مع طبيب العظام ستسأل عنك وتوصيني:

“لا تخلي جدك وخالتك لوحدهم وتغيبي فوق محد يسمع حسك” .

خالي الأكبر ،بقية خالاتي وأبنائهم،

كيف يا جدي كيف؟

لم أعد أذكر كيف بدأت أعراض الزهايمر معك قبل إثني عشرة عاماً، ولكنني أذكر أن الأعراض تسارعت وتطورت عقب وفاة جدتي رحمها الله ،كنا صغاراً ولم نعرف الموت أو نحضر عزاء ،مشاعرنا كانت ارتباكاً مخلوطاً بخوفٍ وصدمة ،فقدتها بعد مرور سنوات حين كنت أراك وحيداً وتائهاً بدونها ،كنت أتخيل دائماً بأنك قبل أن تودعنا ستتحدث وتخبرنا بمشاعرك ومدى رضاك عنّا ،سترى نتيجة اعتنائك بنا وتعبك ،كنت أتساءل هل أنت فخورٌ بما وصلنا إليه؟ ،أهديتك كتابي الذي لم يرَ النور بعد ،كان لديَّ أملٌ بأنك ستعيش لوقت طباعته ، قد لن تفهم أو لن تسمعني حين أقرأ لك الإهداء “إلى جدٍّ ذاكرته المثقوبة ماعادت تختزن ملامح العطاء و إلى جدةٍ برحيلها اختلت الموازين”، ولكن قد تشعر به وسيعرف العالم بأنني رُزقت بـ جد كان بمثابة عائلة بأكملها ،كنت أطلب من ابنة خالي أن تخفف من خوفها وانفعالاتها رفقاً بها ولكنها أثبتت لي حين وقعتَ من الدرج وارتطم رأسك بالباب الزجاجي وفقدتَ الوعي أننا لا نملك التحكم بإنفعالاتنا ،لم يحدث لك شيء حينها وكنت تحاول إخبارنا بلغة غير مفهومة بأنك بخير ،قلتَ وأنت تبتسم: “أنا أحبك” ،كانت نظراتك صادقة وشعرت بأنك تعرفني فبكيت وأنا أجيبك: “وأنا أحبك” ،بمواقف كثيرة كنا نشعر بأنك تعرفنا فتبتسم أو تغمز ممازحاً .

في صبيحة اليوم الثاني للعزاء صرخت ابنة خالتي :

“كيف راح هو مايعرف يمشي ويروح لوحده؟”

منذ سنوات وقبل رحيل جدتي خرجتَ من المنزل حافي القدمين ،في منتصف الظهيرة و على كتفك مشلح البرد (بشت) وبعد البحث وجدك خالي في المسجد ،يومها كنت تنوي العودة إلينا فذهبت للمكان الذي تعودت الذهاب إليه حتى أعطاك العامل الهندي نسخة من المفتاح وطلب أن لا توقظه عند مجيئك قبل الآذان ،أما هذه المرة فقد كان رحيلك بلا عودة، وبدَا مخططاً له ،عطلة وأبنائك من حولك. جدي يا رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى ،كفيت و وفيت وعسى جنان الفردوس دارك والله يجمعنا فيكم بدار الحق.

بقلم :حُبابة الصغيرة

فيديو مقال في رثاء جد برتبة أب

أضف تعليقك هنا

ابتهال العمودي

ابتهال العمودي