فقه الصداقة (2) حُب الصديق والشوق للقائه

الحب المتبادل

كلمة لا يعرفها إلا من جربها ، ولا يجهلها إلا من حرم منها ، فمتى يجربه المحرومون ويحافظ عليه المجربون؟!

الحب بين الصديقين هو الركن الأعظم لصداقتهما الذي متى افتقداه ضاعت صداقتهما بلا رجعة ،

الحب هو الشيء الذي بدونه حياتنا لا طعم لها ولا لون ……… إن كنت لا تُصدّق فلتقع في الحب وأخبرني عن طعم الحياة بعده ثم افقد هذا الحب وأخبرني عن مقدار الكآبة التي ستعيش فيها والفراغ الوجداني الذي لن يملأه إلا حب مثل الحب الذي ضاع ……………..

بالحب تشعر أن لك هدفا ساميا في الحياة يدفعك للعمل يكون وقودا محركا لقوتك وطاقتك ، بالحب تصبر على آلام الحياة ومآسيها مادمت لك حبيب عندما ستلقاه ستلقي كل همومك خلف ظهرك فهو بلسمك الشافي عند البأس و منفرجك عند الضيق، ما أعظمه من  شرف حرم منه التعساء ونسي منه حظه الجهلاء ……….. ولكنه يحتاج إلى قيد عسير, فنحن قلنا الحب المتبادل فليس كافيا أن يكون الحب من طرف واحد فحسب ، لا بد أن يكون متبادلا بين الطرفين و بنفس المقدار حتى تكون صداقة حقيقية، وبغير ذلك يختل الميزان وتسقط الصداقة بعد مشاكل جمة شديدة الآثار على القلب ، وسوف نتحدث عن كل ذلك فيما بعد …………..

علامة الحب  :

 ◄أنت محب ، تقول إن لك حبيبا فما أمارة ذلك ؟…..

إنه الحزن لفراقه والشوق للقائه ، فما أصعب الفراق على أنفس المحبين على رغم أنه ضرورة من ضروريات الحياة ، إلا أنه علامة الحب الذي هو ركن الصداقة الأول  ………………..

قيل للشبلي : من الصاحب ؟ قال من إن غاب تشوقت له الأحباب وإن حضر تلقحت به الأبواب،  وقيل له فمن النديم قال من إن نأى ذَكَرَك عند الكاس وإن دنا ملك الاستئناس !

وصديقك الحبيب لقاؤه بهجة وسرور لا عيب فيه سوى أنه يتكدر بفراقه !! وانظر لذلك الشاعر الذي يصف عيشه بعد فراق صديقه

لعمرك ما عيشة رغـــدة    ***   لدي إذا غبتَ بالراضية

وإني إلى وجهك المستنير   ***   في ظلمة الليل الداجية

لأشوق من مُدنف خائف   ***  لقاء الحِمام إلى العافيــة

(مدنف : مريض ،     الحِمام : الموت)

فهو يشتاق  إلى صديقه أكثر من شوق العليل إلى برئه من علته فصديقه بلسمه الشافي ودواؤه الناجع المريح لقلبه

وبي برح شوق لو بثثتك كنهه    ***    لأيقنت أني في ودادك مخلص

ولا تأس من روح اجتماع يضمنا    ***  إلى برد أيام بقربك يخلص

( لا تأس : لا تيأس)

والصديق لاينسى صديقه تلك حقيقة

، فالغياب عن العين يعوضه الحضور في القلب ، وعند الفراق تنهمر الدموع دموع الأسى والحزن

قد كنت أبكي على ما فات من سلفي    ***     وأهل ودي جميعا غير أشتـــــــــات

فاليوم إذا فرقت بيني وبينــــــــــهم   ***      نوىً بكيت على أهل المــــــــودات

(   النوى : الفراق   )

وقال آخر :   شوقا إليك تفيض منه الأدمع    ***       وجوى عليك تضيق عنه الأضلع

وأبو الصوفي له قصيدة طويلة يصف فيها فراقه لصديقه وحبيبه وأثر ذلك على قلبه فبعد أن قال في مطلعها :

قلبٌ لتَذْكار الأحِبَّةِ قَدْ صَـــبا   ***    فكأنه سَعَفٌ تهاداه الصَّــبا

تُدْنيه من أرَج التواصلِ نفحةٌ   ***    وتَصدُّه ريح الصــدود تَنكُّبا

فيظل بين هدىً وبين نــــوى    ***  وبين جوى وبين تلهفٍ متقلبا

(الصبا : نوع واسم من أسماء الرياح، أرج : نبات طيب الرائحة، جوى : داء وغصة في الحلق)

فبعد التحير الذي أصابه من تبدل أحواله مع صديقه من صدود بعد طول تواصل لم تجد عيناه إلا الدموع لتطفئ لهيب الشوق

عَجَباً لجَرْيان الدموع ومُهْجَتــــِي     ***     تَصْلَى بنيرانِ الفراق تَلهّـــــــُّبا

كلتاهما نار تَوقَّدُ بالحَــــــــــشا     ***     هَذِي لتنضَحَ والدموعُ لتَنضُبــــا

فاعجبْ لنارِ الشوقِ يُذكِيها البكا     ***     والدمعُ من نار الفـــــراق ِتصبَّبا

فبعد أن ظن الدموع دواء لدائه الذي ألم به من فراق حبيبه إذا الدموع تذكي أي: تشعل نار الشوق في قلبه فكانت مزيدا من اللهيب بدلا من تطفئها………………

فياله من شوق ويا لها من حيرة ………………………

◄ولكن افتراق الأبدان لا يعني افتراق الأرواح فإن غاب صديقي عني فإنه لم يغب عن قلبي

كتب ابن السراج إلى ابن الحارث الرازي : كتبت إليك من محل قد ابتهج بودك وانزعج بصدك يناديك ألا إن القلب قد تألم لمفارقتك فمتى يلم الشعث بمشاهدتك ؟؟

فأجابه :كلا ،وإن امتزج فرح الاتصال بترح الانفصال فما ضر مباعدة الأشباح مع مساعدة الأرواح ………..

وكما قال رؤبة بن العجاج:         إني و إن لم ترني كأنني   ***    أراك بالغيب وإن لم ترني

فصورته لا تغيب عن خياله فهي مطبوعة في قلبه لاصقة في ذهنه ، وهل ينسى الإنسان نفسه ويسهو عن ذاته ؟؟ نعم ربما يحدث ذلك ولكن الصديق المحب لا يسهو عن حبيبه وإن سها عن نفسه !!

قال علي بن هارون :          لئن غبتَ عن عيني بالبعد والنوى   ***   لما غبتَ عن فكري وعن ناظر القلب

أراكَ على بعد المسافة والنـــــوى  ***    كما تبصر العينان منـــي على القرب

ومنهم من شوقه لحبيبه يذكره بمحاسنه ومآثره في سره وعلانيته  فيزداد شوقه كما كتب أبو الحوراء إلى صديقه: الله يعلم أنك ما خطرت ببالي في وقت من الأوقات إلا مثّل الذكر منك إلىّ محاسن تزيدني صبابة إليك وضنّا بك واغتباطا بإخائك ……

الشوق للصديق

وقد استغرق بعض الأصدقاء المحبين في هذا الشوق حتى أصابهم ذهول الحيرة والتردد بين حقيقة الغياب الحسي وحقيقة الحضور القلبي

ومن عجبي أني أحن إلـــيهم    ***    وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها   ***     ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلــعي

وقال متيم آخر  :           إن قلتُ غبتَ فقلبي لا يصدقنــــني   ***    إذ أنت فيه مكان السر لم تغبِ

وإن قلتُ ما غبتَ قال الطرف ذا كذب ***  فقد تحيرت بين الصدق والكذب

(الطرف : العين)

◄بل إن هذا الشوق الذي غمر اللبّ والقلب ينعكس على اللسان لسان الصديق المحب فتراه دائم التحدث عن صديقه في غيابه فهو يتكلم عنه مع أهله وجيرانه ومعارفه حتى يعرفه كل هؤلاء وهم لم يروه ، فيوقن الجميع بمكانة ذلك الصديق في قلب صديقه بل يتشوقون لمعرفته من كثرة ذكره على لسان صديقه وانظر لقول الشاعر عبد الله بن المعتز:

إنا على البعاد والتفــرق           لنلتقي بالذكر إن لم نلتق           وانظر لقول الآخر :

فإن يك عن لقائك غاب وجهي     ***      فلم تغب المودة والإخـــــــاء

ولم يغب الثناء عليـــــــــك مني    ***       بظهر الغيب يتبعه الدعـــــاء

وما زالت تتوق إليك نفســــــي    ***       على الحالات يحدوها الوفـــــاء

فهو لا يذكره ذكرا عاديا فحسب بل إنه يثني عليه ويعدد محاسنه ، بل في أثناء عبادته وعلاقته بربه لا ينسى أن يذكره فهو يدعو له كما يدعو لنفسه ، فحتى وقت العبادة لم ينسه….

وانظر لذلك الصديق يخاطب صديقه:

يا أخي إذا ذكرتني ادع لي وإذا ذكرتك أدعو لك فإذا لم نلتق فكأنما قد التقينا فذاك أروع اللقاء…………….

فيديو مقال فقه الصداقة (2) حُب الصديق والشوق للقائه

أضف تعليقك هنا