شهادة وفاة ليس إلاّ #قصة

نهاية الصيف

صيف أربعة عشر وألفين أنزل ستاره
عاد موظفوا الإدارة للعمل
والتلاميذ للحجرات الدراسية
الجالية عادت إلى مهجرها
وعاهرات موسم الصيف عادوا إلى وكورهنَّ الباردة ،
خف الضغط على الفنادق والشقق المفروشة في المدن الساحلية خصوصا الشمالية منها ، كورنيش طنجة الطويل لم يعد مكتض بالمتجولين وملتقطي الصور وصاحبات السيقان العارية والصدور المشدودة المغرية ، السائحة البلجيكية التي غالباً تمر كل مساء تجر كلبها المدلَّل ركبت الطائرة وحلقت نحو بروكسل تعيش في شقة مع زوجها المتقاعد بحي مولينبيك .
الكل حمل أمتعته و ولى وجهه صوب المحطة كلٌ ووجهته ، فقط بائعي السجائر بالتقسيط والفواكه الجافة لم يبرحا مكانهم أعلى الدرج المفضي إلى الشاطئ ، الشاطئ الذي دنَّسه عُري المصطافين ومهرجانات الصيف الصاخبة .
شوارع مرتيل عادت نسبياً إلى هدوئها المعتاد وقلَّ السماسرة على الرصيف يلوحون بمفاتيح الشقق الجاهزة للكراء، هو إذن موسم ركود يلوح في الأفق .

بداية العام الدراسي

الجامعات بدأت تستقبل الطلبة ، الطلبة الجدد يحملون ملفاتهم قاصدين الشبابيك التي خُصصت للتسجيل كل وحسب الشعبة التي اختارها ، يكتشفون مرافق الجامعة بشغف وشوق لعلهم سمعوا الكثير عنها ، كذب أو صواب لا يهم المهم رسموا في مخيلاتهم أن للجامعة طعم خاص يجب تذوقه وانتشائه ، الطلبة القدامى يتأخرون قليلاً في الالتحاق لعله ملل السنة الماضية لم يقتله الصيف بعد ، القليل منهم فقط ممن ينشطون داخل فصائل طلابية حالمين بالثورة أو الخلافة ينظمون أيام الطالب الجديد تحت شعار “طالب جديد دم جديد في شرايين أوطم” .
الحي الجامعي بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة يسابق الزمن لتسجيل الطلبة وانتقاء من يستحق السكن من غيره ، غالباً يملأه طلبة القرى والمدن التي لا تتوفر فيها جامعات ، ومن بين الطلبة القدامى الوافدين على الحي الجامعي طالب يدعى مهدي ، مهدي السليماني ، الطالب ينحذر من مدينة العرائش ، المدينة الصغيرة القابعة في صدر المحيط ، من أب بحار وأم ربت بيت الابن الوحيد لﻷسرة بعد وفاة أخيه في السنة الرابعة من عمره بمرض ألم به لم يمهله الكثير .

مهدي طالب من أبناء الطبقة الكادحة

مهدي كغيره من أبناء الطبقة الكادحة تحمل المسؤولية وهو صغير ، منذ نعومة أظافره وهو يعمل ﻷعانة أبيه على مصاريف العيش والدراسة، يحب الدراسة بالقدر الذي يحب به الحياة يكافح من أجل حلمه ، يحلم أن يكون محامياً ناجحا ولهذا وبعد حصوله على البكالوريا انتقل الى طنجة ﻷتمام دراسة في كلية الحقوق كانت المرة اﻷولى التي تطأ قدماه طنجة يحلم بغد مشرق يتمنى انتشال أبيه من غضب البحر فصل الشتاء وحرارة شهر غشت القوية .
هو الآن في سنته الثالثة سنة التخرج وتحقيق حلم راوده طويلاً قام بإعادة التسجيل في الحي الجامعي كباقي رفاقه من الطلبة القدامى ، عليه الأن فقط إحضار امتعته وبدء الدراسة ، عاد إلى العرائش حتى ينتهي التسجيل وتنطلق الدراسة ، يبيع السجائر بالتقسيط في شارع المقاومة قضى حوالي أسبوعين في مدينته اﻷم قبل أن يتسرب إلى علمه أن الدراسة توشك على الانطلاق ، قرر الذهاب يوم الأحد ، وفي حقيبة كبيرة من النوع التي تُهرب فيها السلع من سبتة المحتلة والتي رسمت عليها خطوط متقاطعة شكلت مربعات صغيرة وضع في جوفها بطانية وبعض اﻷواني وقنينة غاز صغيرة وفي حقيبة ضهر وضع ملابسه وصورة تجمعه بأمه وأبيه وأخيه المتوفي الصورة وضعت في إطار زجاجي اصفرت أطرافه الخشبية بالرطوبة ، قصد طنجة موليا ظهره لمدينه حالما بغد أفضل.
يعتمد في جزء من مصاريفه على المنحة الجامعية و على ما يرسل له أبيه بينما يظطر للعمل من حين لآخر مع صباغ ينحدر من مدينة سيدي قاسم ،
الدراسة انطلقت وأطلق معه معاناة طالب ممزوجة ببصيص أمل تتقاذفه الرياح والامواج من الضفة الاخرى ، يشاركه في السكن داخل الحي الجامعي طالبين من القصر الكبير يشاركان كل شيء ، اﻷكل والدراسة وخرجات إلى المدينة على قلتها بل حتى المعاناة ، السنة هي سنة إشهادية الوقت ضيق ويمر مسرعاً ، حضور المحاضرات ، التحضير لامتحانات وبحث الإجازة لم يترك له خيار ، كل شيء يهون في سبيله غايته ، يذهب مرة أو مرتين في الشهر إلى العرائش لزيارة أسرته ليعود بعد أيام بنفس جديد، تجاعيد أمه وتشققات يد أبيه هو مصدر صبره واجتهاده يعي جيداً أن لا شيء أبدي في حياة الإنسان حتى الإنسان نفسه ، يعيش الحياة بحلوها ومُرها بكثيرا من التحدي ، السنة تمر مسرعة ، أنهى السداسي الخامس بنجاح، عاد إلى العرائش وتفرغ في العطلة للعمل على بحث تخرجه ، تحث عنوان ” الاثراء بلا سبب ” ، الرفاهية بدون سبب وللفقر ألاف اﻷسباب ، يبحث في عدة كتب ومجلات قانونية ويكتب ما توصل إليه على حاسوب قديم ، تمكن من إنهائه في العطلة ، الدورة الربيعة تمر مسرعة ولا وقت للبحث،حتى الرغبة في الدراسة تقل في فصل الربيع وحده النوم يُطارد الطالب أينما حل ، العطلة انتهت و عاد إلى طنجة لاستئناف الدراسة هي أيام روتينية تعود عليها ، من الحي إلى الكلية ومن الكلية إلى الحي وما بينهما مئات الأفكار تتراقص في ذهنه ، يحب الجميع ويظن الجميع يحبه رغم كل شيء يظل مبتسما طوال الوقت ، في الربيع تُحرق الأيام بسرعة ، نحن الآن في أواخر شهر يونيو والامتحانات أُعلن عنها ، كعادته يحضر لها قبل الإعلان، دائماً على استعداد كجندي مرابط على الحدود في الصحراء مستعد للقتال في الحرب والسلم ، اجتاز الامتحانات وسافر لمسقط رأسه ، وبعد أسبوعين ونصف تقريباً أعلن عن النتائج في الموقع الإلكتروني للكية استوفى جميع المواد ، أخبر أمه بذلك عانقته بحرارة وفي المساء رسم على وجه أبيه ابتسامة كشفت عن فراغ في أسنانه وهو يهم بوضع سلة قصب من يده تحتوي على سمك أتى به من الميناء .

استلام الشهادة 

وبعد أسبوع ذهب سعيدا ليسحب شهادة الإجازة قبل أن تغلق الكلية أبوابها ، وصل إلى الجامعة، الكلية فارغة إلا من بعض الموظفين والطلبة أمثاله يشتركون في سبب تواجدهم هناك، سحب شهادته وضعها في ملف أزرق وانصرف، غادر الكلية على أمل العودة لها من باب الماستر يوماً ما . يقف في باب الجامعة وفي الجهة المقابلة من الشارع تقف الحافلة المتجهة نحو المحطة وذلك وجهته ليسافر إلى العرائش ، يُسارع الخطى لعبور الشارع الملف الأزرق في يده وعينه على الحافلة تكاد تنطلق وهو في منتصف الطريق سمع صوت مكابح قوي نظر وفي ثانية التي شاهد فيها السيارة قادمة بتجاهه مر شريط حياته أمامه بكل تفاصيله البسيطة والمعقدة، الحلم والمعاناة ، أمه وأبيه وأخيه المتوفي ، كل شيء… صدمته السيارة بقوة ، سقط أرضا غارقا في دمائه وشهادته لطخت هي الأخرى بالدماء ، لم تأتي سيارة الإسعاف وإلا وهو جتة هامدة ، نُقل إلى مستودع اﻷموات بمستشفى محمد الخامس بطنجة و بعد استكمال الإجراءات نقل إلى العرائش حيث دفن في مقبرة المدينة هناك ، وانتهى كل شيء وكأن الشهادة التي قاتل من أجلها كثيرا كانت شهادة وفاة ليس إلا ، أما عن ألام ومعاناة أمه فتلك حكاية أخرى ، رحل المهدي ولم تبقى إلا الذكريات وشهادة إجازة ملطخة بالدماء .

فيديو مقال شهادة وفاة ليس إلاّ #قصة

أضف تعليقك هنا