في قطار الحياة

بقلم: عزة عامر

 خيارات الحياة متنوعة

بينما أنا في محطة القطار انتظر وصول القطار المتجه إلى الإسكندرية، فتلفت حولي ووجدت أناسا كثيرون في كل مكان لكل منهم وجهة يتجه إليها له فيها قطار يركبه بملئ إرادته وحرية اختياره، وهنا سرحت لبعض الوقت وتخيلت نفسي وقد ركبت إحدى هذه القطارات وأخذت أتجول بين عرباته المختلفة ثم دخلت عربة منهم فوجدت شخصاً يجلس ومعه آيباد يتابع من خلاله سوق المال متصفحاً فيه أسعارالذهب وأخبارالبورصة والمال فتارة يتهلل وجهه قائلا” لقد ارتفعت اليوم أسهمي في البورصة” فيضغط سريعاً أزرار الحاسبة ليعرف مكسبه، وتارة أخرى يعبس وجهه لقد إنخفضت أسعار الذهب فيضغط ضغطة أخرى سريعة على الحاسبة ليعرف خسارته، واضعاً يده الأخرى على قلبه خوفاً من أن تكون كبيرة.

فعرفت أنه كرّس حياته للبحث عن المال لاهثا وراءه بكل الطرق دون أن يلتقط أنفاسه ليسأل نفسه ماذا سيفعل بالمال بعد أنا يحصل عليه ؟ فهل له هدف من وراء جمعه ؟أم أنها شهوة حب المال؟، والتي ربما تنسيه من حوله وحتى نفسه متخليا عن جمال الحياة حتى أصبح عبداً للمال بدلاً من اعتباره وسيلة لإسعاد نفسه ومن حوله.

العلم ليس كل شيئ في الحياة

ثم انتقلت إلى عربة أخرى فرأيت شخصاً آخر منكباً على كتبه لايلتفت لشئ آخر حتى أنه لم يشعر بدخولى ولكن لفت نظري إليه نظارته السميكة الموضوعة على عينيه، وإذا به يمسك بكتاب يطالع به بعض النظريات فيقول”هذا غير مثبت علمياً” فيتركه، ويمسك بكتاب آخر ويقول”هذا يُعتد به”، ويقول لنفسه سأعمل دراسة شاملة له لإيضاح ماجاء فيه فما زال أمامي الكثير من الوقت”.

وهنا شعرت أنه لاهم له سوى الاطلاع والعلم والمعرفة تاركاً وراءه الحياة بمباهجها عاكفاً على علمه فقط لينال الدرجات العلا ولاأنكرعليه ذلك، ولكن الحياة ليست قاصرة على العلم فقط بل بها الكثيروالكثير لينعم به إلى جانب العلم، وإذا كان هذا ممكناً فلم الحرمان من جوانب الحياة الأخرى؟!.

وهممت بالانصراف من تلك العربة، ودخلت أخرى فوجدت مجموعة من الناس منهم من يتكلم بصوت مرتفع مع أطفاله ، ومنهم من استغرق في نومه، ومنهم من يأكل، ومنهم من يتشاجر مع الكمسري حول سعر التذكرة، وكل منهم غير مبالِ بمن حوله.

فبدت لي هذه المجموعة رغم بساطتها أنها متفاعلة مع الحياة أكثرممن قبلهم، وإن كانوا غير مكترثين لأشياء أخرى كثيرة.

وفي نهاية المطاف رأيتني أمام مجموعة أخرى تظهرالسعادة على وجوههم يشع من عيونهم الأمل وتشعر بثقتهم في أنفسهم، وقد بدا ذلك جلياً من خلال طالب كلية الحقوق الذي كان يمسك بيده كتاب “قانون المرافعات” وهو يتكلم بصوت مرتفع متخيلاً نفسه في ساحة المحكمة يدافع عن المتهمين فيحصل لهذا على البراءة، ولآخر على حكم مخفف، وبجانبه جليسة الأطفال ومعها طفلان ترعاهما وتحافظ عليهما تفانياً في عملها وإخلاصاً له، وقد عرفت ذلك من خلال مكالمتها الهاتفية التي أخبرت فيها الطرف الآخر أنها تعمل جليسة أطفال.

السعادة تكمن في الرضا

وكان يوجد رجلاً آخر تقدم به العمر ممسكاً في يده بعض السلع البسيطة يعرضها على الجالسين ليشتروا منه فنظرت إليه نظرة حانية وسألته: لم لاترتاح وأنت في هذه السن؟ فنظر لي نظرة ثاقبة، وقال لي مبتسماً “هكذا الحياة يابني يوم لك ويوم عليك، والعاقل من يصادق الحياة ويتصالح معها حتى آخر يوم له فيها”، وهنا أدركت معنى البسمة التي تكسو وجهه المترهل الذي ترى به آثار الزمن ظاهرة عليه.

وشعرت بأن السعادة تكمن في الرضا، وأنه لابد لنا من السعي مع الرضا، وأن الوسطية والاعتدال في جوانب الحياة المختلفة بكل ماتحويه من علاقات إنسانية  تربطنا كالصداقة أو الحب أوالعمل أوالعلم دون مغالاة أومبالغة، هى الطريقة المثلى للوصول إلى تحقيق الأهداف بأبسط الطرق، فلايجب أن يعكف الإنسان على شيء واحد في الحياة تاركاً وراءه حياة بأسرها يستطيع أن يكون له فيها دوراً فعالاً.

وفجأة إذا بصوت مرتفع يقول “لقد وصل الآن القطار المتجه إلى الأسكندرية وعلى الركاب الاتجاه إلى رصيف خمسة”، وهنا أيقنت أنه لم يعد لدي الوقت للتجول أكثرمن ذلك فقنعت بما رأيت، ثم اتجهت ناحية القطار في خطى ثابتة وأنا أقول ” حقاً.. خير الأمور الوسط”.

بقلم: عزة عامر

أضف تعليقك هنا