واقع إسمه “حسن”..! حكاية واقعية

مشهد العودة الى البيت

ليلة شتوية وأجواء يبدو أنها تستعد لعاصفة.. عدت للتو من العمل أشعر بالإجهاد الشديد بعد يوم مرهق، أصبت مكاناً جيداً لإنتظار سيارتي العزيزة التي تضطر للمبيت في العراء منذ فبراير الماضي بسبب إصلاحات لا تنتهي في الجراج القريب من المنزل..  أطفأت أنوار السيارة وأوقفت المحرك وأغلقت الأبواب، حملت حقيبتي وتوجهت إلى المتجر القريب بغرض شراء بعض المستلزمات للبيت..

لمحت على مسافة ليست بعيدة طفل صغير يحاول الإختفاء بين سيارتين أسفل شجرة ويقف ثابتاً وهو يتطلع حوله خشية أن يراه أحد.. أدركت بالفطرة أنه يقضي حاجته مستتراً بالسيارتين، تماماً كما يفعل الكثيرين من أبناء هذه الأرض وكأنهم يعيشون في عصور الجاهلية حيث إعتاد العوام الخروج للخلاء..  لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالغضب للدرجة التي جعلتني أقرر الإقتراب منه لأوبخه وأعنفه على تلك الفعلة الشنعاء.. وقبل أن أصل لمكانه كان قد غادر موقعه وأسرع الخطوات تجاه مجموعة من الأطفال عددهم حوالي خمسة لا يزيد عمر أكبرهم عن 12 سنة على أقصى تقدير، ويحتلون ناصية من شارع جانبي بعربة يد يقومون بإدارتها لبيع بعض الساندويتشات الخفيفة..  إثار المشهد دهشتي حيث لم أره من قبل، لذا قررت التريث حتى أتبين ماهية الأمر..!

دخلت إلى المتجر الذي تجمعني وصاحبه والعاملين هناك علاقة يشوبها الحذر منذ أن قاموا بالإفتتاح.. قمت بالتباسط في الحديث مع صبي المتجر، ربما للمرة الأولى كي أستدرجه ليخبرني بما يعرف عن شأن هؤلاء الصبية بالقرب من متجره، وسألته إن كان يعرفهم.. فأجاب أنهم ليسوا من المنطقة، ولا يعلم عنهم شيئاً.. قلت له: لكنهم بسلوكهم المشين وألفاظهم النابية التي أسمعها وإياه يسيئون للمنطقة والسكان ولعمله أيضاً..! فرد بإقتضاب، وما عساي أن أفعل.. ليس لدي سلطة عليهم وهم مساكين يحاولون كسب القوت بأي طريقة..  في تلك اللحظة دخل الطفل الذي رأيته منذ دقائق بين السيارات بالخارج، وتوجه بثبات إلي قسم البقالة ونادى بصوت مبحوح على صبي المتجر: يا علي أنا عايز ساندويتش..!

واقع “حسن” المؤلم

تطلعت إليه.. لا أدري لماذا إستوقفني مظهره حتى إنني نسيت للحظات حنقتي وغضبي من فعلته التي كانت منذ دقائق.. عمره حوالي 10 سنوات لا أكثر، بدين بشكل غير صحي وتبدو عليه بوضوح علامات سوء التغذية، وعلى قسمات وجهه بالرغم من ثباته الإنفعالي لا تكاد تخطئ ملامح الهزال والخوف واللا مبالاة..  رد عليه صبي المتجر: أهلاً يا سي حسن.. عايز ساندويتش أيه..؟  رد الأخير: أي حاجة، أنا جعان..!  رق قلبي أو إنفرط من وقع الكلمة المؤلم..! وتابعته بنظري وهو يذهب صوب مكان البقالة، رأيت صبي المتجر وهو يعد له رغيفاً من الخبز الأبيض وقد تم حشوه ببعض شرائح من اللحم المحفوظ.. لم أندهش لكرم الصبي بعد أن علمت بأن هناك تعليمات من صاحب المتجر بإطعام هؤلاء الصبية مقابل إسدائهم بعض الخدمات للمتجر.. قام السيد/ حسن بالإستئذان لإضافة بعض قطع الخضار المخلل لطعامه فأعطاه صبي المتجر إياها عن طيب خاطر.. وقبل أن يتوجه الصبي للخارج إستوقفته وسألته: إنت إسمك حسن؟ أجاب: نعم، أي خدمة..؟  قلت: هل أنت من سكان المنطقة؟ فهز رأسه بإيماءة خفيفة لم أفهم معناها، ورأيت عامل المتجر وهو ينظر إليه وكأن الرد يهمه..!  سألته أين منزلكم؟ قال: ليس لي منزل.. إندهشت، وقلت: ألا تسكن مع أسرتك..؟  قال: ليس لي أسرة، أنا أنام هنا على الرصيف بجوار المحل..  إزدادت دهشتي وسألته مرة أخرى: هل أنت هارب من أهلك..؟  قال بنبرة حزن.. ليس لي أهل.. أنا لا أعرف أبي أو أمي..!  أحسست بالسماء تسقط فوق رأسي وأنا أتحدث مع الصبي، لكني تماسكت وقلت له، وكيف تعيش يا حسن.. كيف تحصل على المال مثلاً..؟ نظر إلي بعينين هادئتين وقال: ربنا بيرزق.. أنا ماعنديش حاجة.. ساعات بأوصل الطلبات من المحلات للبيوت، ودلوقت بأشتغل على عربية الساندويتشات اللي بره دي..  أحسست بالخجل والتقزم أمام الصبي المغبون..  وسألت نفسي: أي مصير هذا، وكم من حسن موجود في تلك المنطقة..؟ هل عميت بصيرتي إلى هذا الحد فلم أرى منه إلا فعلته التي ظننت منذ دقائق أنها شنعاء وهو من لا شئ له..!  إختصرت حديثي مع حسن وقلت إني تشرفت بمعرفته، ولو أني غاضب حين رأيته منذ دقائق يقضي حاجته في الشارع..!  لمحت مسحة خجل على وجهه وهو يقول لي: أنا أسف، مش هأعمل كده تاني..  إعتذاره إعتصر قلبي، وشعرت بأنني كنت أقسى عليه من مجتمع جائر وظروف قاسية نالت من طفولته وإنسانيته بهذا الشكل، ووضعته محرجاً دون ذنب أمام غيرتي من أي مشهد سلبي في بلادنا التي أحسبها أصيبت بنوبة من القسوة غيبتها من الشعور بأبنائها من الفئات الأقل حظاً، ومعدومي الحظ مثل حسن..!

دور المجتمع اتجاه واقع “حسن” و أمثاله

شيعت الصبي بنظري وهو يخرج من المتجر.. لم أستطع الصعود إلى المنزل في تلك اللحظة لأستمتع بالدفئ والراحة وهناك من لا يجد له إلا رصيف من الحجر الأصم ليشكو له ضعف حاله..  أخذت سيارتي وأدرت المحرك، وإنطلقت لا أعلم لأين أنا ذاهب، وكأنني فقط أريد الهروب من هذا المشهد التعس..  قادتني سيارتي حيث ميدان التحرير.. قمت بالدوران حول الكعكة الحجرية، ولا أدري لماذا رنت في أذني كلمات أمل دنقل  ” لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد.. وخلف كل ثائر يموت أحزان بلا جدوى ودمعة سدى..!

سألت نفسي لماذا تلك الكلمات بالذات، ولماذا الأن..؟  وسرعان ما إنتبهت للسبب.. إنه ما أرى حولي من لافتات الدعاية الإنتخابية التي تغطي شوارع مصر طولها وعرضها، وبإرتفاع الأبنية للوصول إلى نتيجة محسومة مسبقاً دون الحاجة لدراسة أو تحليل.. وسألت نفسي.. ألم تكن تلك الدعاية بتكاليفها الباهظة تكفي لستر عشرات الصبية والفتيات مثل حسن وما أكثرهم..؟

أصبت مرة أخرى بالخجل والإحباط، وعدت إلى منزلي كي أختفي من مشهد ربما فشلت في تبريره لنفسي.. وصلت إلى الشارع حيث يقع منزلي.. نظرت فلم أجد أي من الصبية في مكانهم.. أوقفت المحرك وغادرت السيارة، تعمدت المرور بجوار المكان الذي قضى فيه الصبي حاجته.. وقلت لنفسي: هذا هو أقل ما يرد به حسن على ظلم المجتمع..!

فيديو مقال واقع إسمه “حسن”..! حكاية واقعية

أضف تعليقك هنا