أصحاب السعادة …!!

 “محاورة في سعادة الأمة “

أعود لافتتاحية الشيخ محمد رشيد رضا المنشورة في العدد الثاني من مجلة المنار و الصادر يوم الثلاثاء 29 شوال سنة 1315هـ الموافق فبراير – 1898م  تحت عنوان ” القول الفصل : محاورة في سعادة الأمة ” و أسرد منها بتصرف قليل :

نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية ، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر التأمل والاعتبار ، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها ، من بداوة وحضارة ، وهمجية ومدنية ، وقوة وضعف ، وصعود وهبوط ، وغلبة وانغلاب فتجلى لهم أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم واحدة ! وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك ، والتفاوت في الاستعداد وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات ، ويخرج من عداد الإنسان ، ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور عارضة وظروف خارجية ؟!

و إعمال الفكر في معرفة مناشئ هذه العوارض ، وعلل هاته الطوارئ ، و الارتقاء في الأسباب الكثيرة ، و التبصر في تأثيرها ، يدلنا كيف يمكن اتقاء العوارض المضرة ، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم فأخرتها ، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي ، والقوى القدسية التي منحها الله للإنسان .

استسلام الشعوب

إن الكلام في سعادة الأمم وشقائها ، وشدتها ورخائها ، وهبوطها وارتقائها ، قد يعترض عليه آخرون قائلين : إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال ، ويزعج الخاطر ، وهو عبث لا يفيد شيئًا ، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم ، ولا لأعمالهم أثر في منافعهم ، بل ليس لهم إرادة أيضًا ، بل هم في الحقيقة كالريش في الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به ، ولا إرادة ولا اختيار ، نستغفر الله ، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة ، ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين : ( سُني في الظاهر جَبري في الباطن) .

،فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية ، ولكن عموم الجهل جعلهم { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ }           (النساء : 143) وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية ؛ كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر ويقول : ( هو بيدنا إيه ) وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا ويقول : ( شو طالع باليد ) وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } ( النجم : 58 ) . كلمة حق أريد بها باطل ، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل ، أرأيت إن ألمت ملمة بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب ، بل ويتعدُّون الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها الشرع وينبذها العقل ، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين ،  والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء ، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح ، ويستنفرون أولئك بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر ، ويستنبئون عن حقيقة الأمور بخطوط الرمل أو الطرق بالحصا وحبوب الفول ، ويتعرفونها من الدجاجلة والعرافين .

فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها وتباينها ، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط ، فهم جبرية بإزاء المصالح العامة ، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة .

عودة الى التاريخ

وقد نظرت في التاريخ سير العلوم واختبرت حالتها اليوم فرأيت العلماء الباحثين في مسائل الجبر والقدر والكسب قصروا أنظارهم على مفهومات هذه الألفاظ ، وتفلسفوا فيها ، ولم يلتفتوا إلى ما تحدث هذه العقائد في الإرادة من الآثار ، وما يتبع تلك الآثار من الأعمال ، وما ينشأ عن تلك الأعمال من ضعف أو قوة ، فينبهوا الأمة عليه . ألّفوا فيها المتون والشروح ، وعلقوا عليها الحواشي والتقارير ، فما زادت الأمةَ تآليفُهُمْ إلا حيرة وإشكالاً ، وكانوا كجواب المجاهيل يغذ أحدهم السير سحابة نهاره وعامة ليله ثم لا يدري هل أراد بسيره قربًا أو بعدًا. وأما الذين لم يبلغ الجهل منهم مبلغ إنكار الوجدان والقول بالجبر الصراح ، فهم يعلمون أن الأخذ بالأسباب عملاً واعتقاد ارتباطها بالمسببات بحيث لا تتخلف عنها إذا تمت شروطها ، ولا تحصل إلا معها هو الحق ، وأن انكشاف الخطوب على أيدي الآخذين بأسبابها التي سنها الله تعالى لها لا يقتضي أنهم عاندوا الإرادة الإلهية وكانوا هم الكاشفين لها من دون الله تعالى .

 

 

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان