تفكيك الأمة المصرية (1/2)

انتشار اللغة المصرية العامية

ناقش الشيخ محمد رشيد رضا في العدد الأول من مجلة المنار الدعوة المضللة التي انتشرت حينها في مصر لإحياء اللغة العامية المصرية ، بجعلها لغة كتابة  متسائلاً :  ألم يكفِ الأمة المصرية تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين ينشؤون الجرائد باللغة العامية ؟! كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة تكون من أنجح وسائل إحيائها ، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة) و  (الشيطان) ـ جرائد كانت تنشر بالعامية في مصر ـ تعارض الإسلام ، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار ، بل سقطت مجلة البيان الفصيحة ، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه ) !!

وكانت مصر في هذه الأوقات قد شهدت ظاهرة غريبة تتمثل في انتشار الرسائل الصغيرة التي كانت تطبع في المطابع الإفرنجية ومنها رسالة حملت اسم ” الكراسة ”  أخفى مؤلفها اسمه وعلق الشيخ محمد رشيد على ذلك بقوله : لعله للإخلاص في هذه الخدمة !! و تحجج أصحاب هذه الدعوة المغرضة بأن اللغة العربية معرضة للتلاشي والإمحاء من القطر المصري بإقبال المصريين على تعلم اللغتين الإنكليزية و الفرنساوية و لمزيد من التلبيس على العوام قالوا كلمة حق يراد بها باطل :  من سنة الله تعالى في الكون أن الضعيف يقلد القوي ، والمغلوب يحتذي مثال المتغلب عليه في سائر شؤونه ، وبذلك انتشرت اللغة العربية في بلاد الروم و الفرس والبربر ، وانتشرت اللغة الإنجليزية في أميركا و أستراليا وأجاب عليهم الشيخ في مقالتين طويلتين حملتا عنوان : ” صدمة جديدة على اللغة العربية ”  مفنداً هذه الأباطيل و قد نشرت سنة 1898م .

و في مقال بعنوان  ” المدارس الوطنية في الديار المصرية “

كتب الشيخ محمد رشيد رضا في افتتاحية العدد الخامس عشر الذي صدر في 9 صفر سنة 1316هـ الموافق يوليو 1898م : سعادة الأمم بأعمالها ، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها ، فكل أمة ترغب عن العلم فمآلها إلى الشقاء ، شقاء الاستعباد وفقد الاستقلال ، لا يعصمها منه اتساع مساحة بلادها ، ولا كثرة أفرادها ، ولا عظمة حكامها ، ولا صحة دينها ، ولا شرف أسلافها ، ولا شيء مما يتعلل به المسترسلون مع الأوهام ، المنقادون بأزمة الغرور ، وكل أمة نشطت لاقتباس العلوم والاستضاءة بنور الأعمال النافعة ، فأقامت أساس مدنيتها على هدى ، فبشرها بالسعادة ، سعادة المدنية الفاضلة، والحرية الشاملة ، والسيادة الكاملة ، لا يمنعها من هاته قلة أفرادها ، ولا احتلال الأجانب لبلادها ، ولا استبسال حكامها ، ولا اختلال نظامها ، ولا فساد عقائدها ، ولا قبح عوائدها ، إذ العلم يصلح كل خلل ، ويشفي من جميع العلل ، يشهد بجميع ما قلته العيان ، وينطق بصحته البرهان . سل التاريخ عن أحوال الأمم والشعوب التي سقطت في مهاوي العدم ، وماذا كان من السبب في سقوطها ، وعن الأمم الواقفة على شفا الخطر ، وما علة يأسها وقنوطها ، سله عن الدول التي طاولت السماء في رفعتها ، وفاخرت الجبال في قوتها ومَنَعَتها ، وهزأت بعقاب الجو في عزتها وعصمتها ، أصرح لك في القول :

بالعلم والعمل ترفع الأمم

سله ما الذي أحل بالممالك التيمورية ( الهندية ) الدمار، وأوقف دولة الصين العظيمة على شفا جرف هارٍ ، تنقص من أطرافها ، وتتناوش من جميع أكنافها ، ما الذي انتاش الولايات المتحدة الأميركية ، وأنقذها من مخالب السلطة الإنكليزية ، ما الذي نهض بالأمة اليابانية ، حتى طارت مع الأمم الأوروبية في كل جو، وسبحت معها في كل بحر ، وضربت من الفنون بكل سهم ؟ أَصِخْ بسمعك للتاريخ ، واستمع لما يتلوه عليك تجد أن جوابه عن هذا كله محصور في كلمتين وهما : (علم وعمل ، وجهل وكسل) ، فبالعلم والعمل يقرن كل تقدم ورقي ، وعن الجهل والكسل ينشأ كل تأخر وهوي ، فلكل غاية مبدأ ، ولكل رغيبة طريق يوصل إليها ، وكل من سار إلى الدرب وصل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) . كل هذا من البديهيات الثابتة بالمشاهدة والاختبار ، فلا ينازع فيها إلا الصم البكم العمي الذين لا يعقلون ، فلنصرف النظر عنه إلى تعميم التعليم المفيد ، والتربية على العمل النافع ، ولنجعل موضوع كلامنا في ذلك البلاد المصرية ، وليس تخصيص القول بهذه البلاد مخرجًا له عن خدمة عامة الشرقيين ؛ فإن أحوال الأمم والشعوب يشبه بعضها بعضًا في الأمور الكلية ، وتشابه البلاد الشرقية في أكثر شؤونها الجزئية ، لا سيما موقفها الحرج أمام أوروبا ، فليعتبر بما نذكره في شأن مصر كل شرقي عاقل .

تُذاكِر المصري من أي طبقة في سعادة بلاده ؟

فيجيبك : أن ذلك لا يكون إلا بجلاء الإنكليز عنها والصواب أن السعادة أمر وجودي ، لا يحصل بمجرد الجلاء ثم يتحدث الشيخ محمد رشيد عن تعميم التربية والتعليم باعتبارهما مناط السعادة ، لكن الأكثرية غافلة عن قوة الأمة والشعب على مثل هذا العمل العظيم و يصف مدارس الحكومة المصرية على أنها لا أثر فيها للصبغة الدينية ، بل قيل : إن الوليد يدخلها بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله ، إلا إذا كان له أهل وعشيرة أتقياء بُصَراء يتعاهدون سيره ويحكمون ربط عقيدته ، ولا أثر فيها للصبغة الوطنية ، ولا الجنسية . أيضًا ، فقد استبدلت اللغة الأجنبية باللغة العربية في التعليم ، وأقيم التاريخ الإنكليزي مقام التاريخ العثماني والمصري ، واستغني عن الآداب العربية بالآداب الإفرنجية ،

ويعتاض عن المعلمين الوطنيين بالأجانب شيئًا فشيئًا . وكل ذلك مما يغرس في قلوب المتعلمين عظمة الأمم التي يتعلمون تاريخها وآدابها ، واحتقار أمتهم وجنسهم ودولتهم ، ماضيها وحاضرها . فأي خير يرجى من تعلمهم بهذه الصفة ،

واصطباغهم بهاته الصبغة ؟! أما إنه ليتوقع شرها ، ولا يرجى خيرها . وكيف ترجى الحياة الوطنية من العامل على إماتتها ، ويؤمل ثبوت الجنسية الأصلية من الساعي بإزالتها ، فإنْ هذا إلا غرور .

وخلاصة القول …

أن التعليم النافع للوطن والبلاد هو ما تحيا به الشعائر الدينية بتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال ، وتقوى به الرابطة الجنسية والوطنية بإحياء اللغة العربية ، ونقل جميع الفنون إليها بالتدريج ، وجعل التعليم بها دون سواها ، وبتمكين رابطة الأمة المصرية بالجامعة العثمانية ـ يقصد الخلافة ـ ، ومادام زمام التعليم بأيدي الأجانب يجذبونه كيف أرادوا ، فلا يمكن أن نحصل إلا على خلاف هذه الرغائب ، وهو استبدال حرية الفساد والفحش بآداب الدين ، واللغة الإنكليزية أو الفرنسوية باللغة العربية ، وتمزيق الوطنية والجنسية شذر مذر وبعد ذلك ، إما أن يتجنس المتعلمون بجنسية معلميهم ومربيهم ، وإما أن يكونوا عونًا لهم على مصالحهم ، وفي كل ذلك إماتة للجنس ، وتضييع للوطن الذي يراد إحياؤه وإعزازه بالتربية والتعليم .

 

 

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان