محمد قلبٌ بالضفة وجسدا في الداخل المحتل !

انتظار عودة “محمد”

في يوم الجمعة من شهر ديسمبر لعام 2015، كانت غيوم سوداء منتشرة في أرجاء قرية عارورة والجو شديد البرودة والرياح تتسابق في ضرب فروع الأشجار، كنت في غرفتي ادرس فإذا بصوت خالتي أم أحمد التي كانت تسكن بجوارنا تنادي بإسمي خرجت لرؤيتها، قالت: منذ الصباح وانا اتصل على ولدي محمد لكنه لا يجيب “وقلبي عليه مثل النار”

محمد هو ابنها الثالث وعمره في حينها 22 عاما، ذو شعر أسود مجعد، وبشرةٍ قمحية، متوسط الطول وعريض المنكبين، كان يقيم بطريقة غير قانونية في أراضي 48 المحتلة “ما يسمى بإسرائيل” من أجل العمل ورغبة في الحصول على دخل أكبر لمساعدة اخوته في بناء منزل لهم.

وطلبت خالتي أن اتصل به وأطمئنها عليه اذا أجاب على اتصالي لأنها كانت تريد أن تخرج إلى زفاف أحد اقاربها في القرية المجاورة “عبوين”. اتصلت به بحلول المساء لكنه لم يجب وعاودت الاتصال به مرات ومرات إلى أن فتح باب المنزل بعنف! ، لم يكن في المنزل أحد غيري فكل عائلتي ذهبت للزفاف، ذهبت مسرعا وشعور رهيب ينتابني لارى من هناك.

كانوا ابناء خالتي الثلاثة ومعهم والدي، ووجوههم تنطق بؤسا والحزن ينبع من اعينهم، جلسوا جميعا بصمت وتعابير الخوف والقلق تلوح على وجوههم قلت: خير في شي؟ لم يجبني احد، التفت إلى اخيهم الاصغر وهززت رأسي مستفسرا عما حصل! اقترب مني ثم همس: أخي محمد سقط عن ارتفاع خمس طوابق “وهو هسا بالعملية”!.

قال والدي: “لا تخبروا والدتكم أنه سقط عن ارتفاع خمسة طوابق، أخبروها فقط أنه أصيب ببعض الضرر نتيجة سقوطه عن ارتفاع مترين”، فمن منا يعلم حرقة الألم في قلب أم قد أصيب ولدها بأي مكروه، ولا تستطيع حتى أن تكون بقربه.

“محمد”بالمشفى

أصبح الصمت سيد المكان، والكآبة تسانده وتنتشر فيما بيننا وصوت أمطار بالخارج يرد عليها صوت الرعد فتزيد خفقات قلبي ثم يزيد معه صمتي، لا نعلم ماذا بعد، جميعنا ينتظر ولا نعلم ما تخبئه لنا الساعات القادمة، فقط كنا نسمع صوت عقارب الساعة ينقر في رؤوسنا ببطئ. ضاقت انفاسي فوجدتني أخرج الى حديقة منزلنا لألتقط بعضا من الهواء البارد الذي يمتزج برائحة التراب وماء الأمطار العذبة، أغلقت عيناي فدعوته -سبحانه-: “رب كما خلقته من ماء وتراب بحق كل قطرة ماء تسقط من سمائك اشفه والطف به”.

بينما انا اتأمل بحزن قاطعني صوت أمي فأيقظ شرودي، حاولت أن أخبئ بعض قلقي فلا تشعر امي وخالتي بشيء، لكنني نظرت إلى جانبها وبفضول وانفعال سألتها: ” أين خالتي؟ “، أجابتني: “وقفت تتحدث مع زوجة عمك وستأتي بعد قليل، وأنت لماذا تقف هنا بالبرد؟ “، أجبتها والقلق يخط جبهتي: ” مصيبة يا أمي قد أحلت بنا ” فردت بتأهب: (شو صاير!). بدأت دموعي تتحدث عني وجسدي يرتجف أجبتها بنبرة متقطعة: ” محمد ابن خالتي، سقط عن ارتفاع خمسة طوابق أثناء عمله اليوم، وهو في غرفة العمليات الان ”

أصفر وجهها وعيونها ضاقت حزنا ولم تنطق بأي كلمة، ويداها ترتجفان بقوة ولم تستوعب الصدمة، مع دخول خالتي البوابة حاولنا اخفاء ملامح الخوف والقلق لنتذرع بقليل من القوة ونتمالك أنفسنا ونختلق حالة طبيعية لكي لا تشعر بشيء، قابلتها أمي بإبتسامة مصتنعة وقالت: ” هيا بنا نصعد للأعلى ونشرب بعضا من الشاي” فأجابتها خالتي: لا أريد، أشعر بالدوار، وقلبي ينغزني وأريد ان اتصل بإبني محمد فلم أكلمه اليوم “، فقاطعتها بالحديث قائلا: “هيا بنا نصعد الآن ومن ثم نتصل به فجميع ابنائك هنا”، فتعجبت وباستغراب سألتني: ” وما الذي حضر بهم”؟

بدأت الدموع تنهمر من عيون امي ونظرات الحيرة قد لاحت على وجهينا بصمت، وبنبرة تنم عن خوف وقلق سألتنا: ” هل حدث لمحمد أي مكروه؟ “، فردت أمي: “محمد بخير، اصابة عمل بسيطة ويحتاج لعملية بسيطة، سيكون بخير “.

تلقي أم محمد الخبر

انهارت خالتي بالبكاء فاقتربت أمي واحتضنتها لتعطيها قليلا من الصبر وساعدتها لنصعد بيتنا ومع كل خطوة يزداد خوفها وصراخها وتقول: ” ويلي عليك يا ولدي يا محمد! “، والأمطار تتساقط ولكن دموع خالتي كانت أكثر وصراخها قد سبق صوت الرعد. فتحنا الباب فالتفت الجميع بنظرة الفضول والحيرة يراقبون أمهم فيما اذا علمت بأي شيء، جلست وضربت على رأسها تقول: ” كنت أعلم أنه ليس بخير، ااه يا محمد “، جلست امي بجانبها ووضعت يدها على كتفها لتخفف عنها حزنها وتمنحها بعض الصبر.

تقول خالتي أم أحمد: ” نظرت إلى أبنائي الثلاثة أبحث عن رابعهم (محمد) لكنني لم أجده بينهم، نظرت اليهم والحزن ينبعث من لمعة عيونهم، سألتهم: “ماذا حل بأخيكم؟ “، لم يجبني احد، كررت السؤال مرات ومرات، وكان آخرهن بنبرة أعلى: ” فليجبني أحدكم، أين محمد وماذا حصل له؟ “، اقترب ابني الأكبر (أحمد) مسك بيدي واحتضن رأسي على صدره وقال: ” سيكون كل شيء على ما يرام، لا تقلقي أماه، إصابة طفيفة “.

كانت الساعة السادسة مساءا عندما علم أبناء خالتي بالحادثة حيث اتصل بهم حسان (صديق محمد) وأخبرهم بما حدث لشقيقهم وأن عمليته سوف تستغرق تسع ساعات. حسان هو صديق محمد وابن قريته ورفيق عمله داخل الاراضي المحتلة، شاب خلوق ذو بشرة حنطية وعيون خضراء، نحيل الجسم متوسط الطول.

ذهب أبناء خالتي واصطحبوا أمهم ليخبروا والدهم بما حدث؛ فلا يسمع من غيرهم وقد شاع الخبر في كل بيوت القرية، وعندما علم بالأمر جن جنونه وبدأ يصرخ على زوجته قائلا: ” كل هذا بسببك انت من شجعه على فكرة العمل هناك”، كان عمي رافضا للفكرة ولكن محمد ألح وأقنع والده وخالتي كانت تسانده، تقول خالتي: ” كانت كلماته كالسهم انغرس في قلبي، وقد ألقى باللوم علي وحملني من المسؤولية ما زاد ألمي وضيقتي “.

سارع أبو أحمد بالاتصال على حسان ويستفهم منه ما جد على ابنه، فأخبره بالتفاصيل وأنه قد اصيب بكسر ثلاث فقرات وكسرين في قدمه ما أحوجه لإجراء عملية جراحية، أنهى أبو أحمد مكالمته وقد لبس اليأس والحزن وجهه، ونظر الى خالتي التي شحب وجهها وغارت عيناها بكاءا ثم قال: ” ماذا عسانا نفعل الآن؟ ، ها قد شل ولدك”. ما أن سمعت خالتي أم احمد هذه الكلمات حتى فقدت وعيها وسقطت على الارض لفترة وجيزة وبعد أن أفاقت لم تتفوه بأي كلمة وذهبت لتصلي ركعتين لله وتدعوه أن يحفظ لها محمد، اجتمعنا نراقب دقات الساعة ونعد كم من الثواني تبقى، آذاننا مشدودة تنتظر رنين الهاتف.

وما أن دقت الساعة الواحدة صباحا، حتى قام عمي أبو أحمد مسرعا واتصل بحسان، فأخبره أن العملية قد نجحت وانه الان في العناية المركزة لبعض الوقت.

وفي صباح اليوم التالي استيقظنا بقلق كما نمنا الا خالتي التي لم يغمض لها جفن ولم تتوقف لها دمعة طوال الليل، اتصل أحمد بحسان ليطمأن عليه، فأخبره أنه خرج من العناية المركزة وأنه يحتاج قليلا من الراحة، وقال: “هو الآن مستيقظ، لكن لا تطيلوا الحديث معه “.

اطمأن عليه أحمد ثم اعطى الهاتف لوالدته، تقول خالتي: “شعرت بفرح ممزوج بحزن، فرحت لسماع صوته والحزن يرافقني لأني بعيدة عنه وصوته المرتجف الخافت جعل من دقات قلبي تعتصر ألما، حاولت أن اسأله عما حدث أجابني: ” لا أذكر كل التفاصيل، كل ما أذكره هو أن صاحب العمل طلب مني أن أصعد الأسكالة (لوح خشبي يعلق بأحبال خارج المبنى) ولم أعلم كيف حدث بهذه السرعة وأزاحت قدمي ثم سقطت أرضا وفقدت وعيي، لم تسطع خالتي سماع المزيد وأعطت الهاتف الى والده وقال له: (يومين وبنكون عندك)، ثم اغلق الهاتف حتى لا يتعبه أكثر من هذا.

سرد “محمد” لما حدث معه

يقول محمد: لا اذكر ما حصل لي فقط اخبرني صديقي حسان أنه قام بالاتصال على صاحب العمل وأخبره بالحادثة وتفاجأت برده: ” لا تتصلوا على سيارة الاسعاف انا قادم “، لكن لحسن الحظ كان احد المارين شاهدا على الحادثة فقام بتبليغ الإسعاف ومنع اي احد من ان يقترب مني او حتى لمسي إلى أن جاءت سيارة الاسعاف و نقلتني الى المشفى.

ذهب ابوه واخوه في صباح اليوم التالي لتقديم طلب التصريح (وثيقة يسمح من خلالها دخول الأراضي المحتلة) من أجل زيارة محمد في المشفى الموجود في مستعمرة ريشون ليتسيون جنوب مدينة تل الربيع (تل أبيب)في المنطقة التي كان يعمل بها محمد، لكن التصريح يحتاج لثلاثة أيام ليتم الموافقة عليه، وثلاثة أيام من القلق والتفكير الذي سرق النوم من عين خالتي، وسلب الهدوء من روح أبو أحمد، وأفكار تزور عقول اخوته فتذهب ليأتي غيرها، ثلاثة أيام من الحيرة والانتظار، يا ترى ما حجم الألم الذي ينهش أعصاب محمد، هل هو جائع الآن؟ ، هل من أحد يعتني به ويبقى بقربه اسئلة كانت تراود الجميع حتى مرت الثلاثة أيام وأتي رفض لتصريح خالتي وموافقة ﻻبيه وأخيه فقط.

وما أن غادر القمر ليأتي ضوء الفجر وأشعة الشمس المبكرة في الصباح التالي، كان اليوم الذي توجه فيه أبو أحمد وولده الأكبر أحمد من قرية عارورة، وعندما وصلا منعا من الدخول الى المشفى كونه مشفى عسكري ومع الإلحاح الشديد تمت الموافقة على أن يدخل شخصا واحدا فقط وان لا تمر اكثر من ساعة على هذه الزيارة، فدخل عمي والد محمد عليه، يصف والده لحظة رؤيته فيقول: ” عندما رأيته بهذه الحالة اكتوى قلبي وجعا ليبعث من عيني بعض دمعاتها التي حاولت اخفاءها بابتسامة صغيرة مزيفة آملا بتخفيف الألم، كان مثل طفل حديث الولادة يعجز عن الحركة، مستلقيا على سريره وقدمه اليمنى محاطة بالجبص، لا يستطيع الحركة ولا حتى الكلام، عندما رآني حاول رفع رأسه ثم ابتسم وعيناه تقولان اعذرني يا أبي، جلست الى جانبه ومسكت بيده وبدأت أخفف عنه ببعض كلماتي ودعائي له بالرضا، قبلت رأسه وقلت له: “هذه من امك، لم يوافقوا على تصريحها ولكن ستراها قريبا عندما ترجع لنا سالما معافى بإذن الله ” جلست معه ساعة كاملة أنظر إليه ثم أحمد الله انه ما زال على قيد الحياة.

حاول صاحب العمل أن يهرب محمد من المشفى وينقله إلى أي مشفى في الضفة الغربية خوفا من المساءلة القانونية في الداخل المحتل، مقابل أن يعوضه ببعض المال لكن محمد رفض، ومن بعدها لم يرى صاحب العمل.

وبعد مرور شهر أتى طبيب مختص ليبدأوا العلاج الفيزيائي، بعمل بعض التمارين التي تجبر كسره وتعيد عظامه لمكانها، والمشي بخطوات صغيرة بعد أن أصبح عاجزا عن المشي

وهكذا وبعد مرور شهرين من العلاج، أخبروه أنه بإمكانه أن يغادر المشفى بعد ثلاثة أيام، شهرين من الغياب والشوق، شهرين تغيرت فيهما كل تفاصيل حياته، عرف فيهما صديقه حسان الذي لم يتركه ثانية وصدق صداقته ووقفته الى جانبه، عرف فيهما معنى العجز والفقدان وذاق فيها ألوان من الألم والأوجاع.

عودة “محمد” الى بيته

أمسك بهاتفه ثم اتصل بأمه، أخبرها أنه مشتاق لها ويريد أن تحضر له أكلته المفضلة أوراق العنب (الدوالي)، وكم هو مشتاق لاحتضانها وتقبيل يديها، قفزت خالتي أم أحمد فرحا وأخبرت كل من حولها عن خبر عودة محمد الذي لم تراه منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وتقدم أبو أحمد بتصريح آخر ليحضره من المشفى، ولحسن الحظ وافقوا عليه سريعا.

كانت تلك اللحظة المؤثرة، عندما وصل محمد، لم تنتظر أمه صعوده الدرج، ركضت اليه واحتضنته وأعينهم تتحدث عنهم وقبلت جبينه عدة مرات وهي تردد وتقول: الحمد لله.

ها قد عاد محمد لقريته التي اشتاقت له، أهله وناسه وأصدقائه وامه، كان بحاجة لمزيد من الراحة ليتم علاجه مع قليل من الحبوب والعقاقير اللازم.

مر عام كامل من العلاج والحب والحنان بين أمه وعائلته الذين لم يقصروا ولو بطلب صغير تجاهه، واستمر بالجلوس في المنزل دون أن يغادره إلا في حالات المراجعة على الطبيب.

أصبح الآن، يستطيع أن يمشى بطريقة طبيعية، يخرج ويتمشى في شوارع قريته ويمارس أغلب نشاطات يومه كما كان في السابق، وكفى به الآن أنه يستطيع الصلاة والسجود لله سبحانه، وفي كل يوم تعود حياته لمسارها الطبيعي.

 

أضف تعليقك هنا

إيهاب خصيب

صحفي من فلسطين

Snapchat ➡ ehabkhaseeb