العرب هم مادة الحضارة الإسلامية ونواتها، فهم جزء منها ولا يمكن اختزالها بهم على الرغم من الإقرار بدورهم الرائد في تشكيلها.
د. زياد عبدالكريم النجم العرب هم مادة الحضارة الإسلامية ونواتها، فهم جزء منها ولا يمكن اختزالها بهم على الرغم من الإقرار بدورهم الرائد في تشكيلها.

مستويات الحضارة في ضوء نظرية المركز والمحيط

يعتبر مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم تداولاً على الساحة الفكرية والمنابر الثقافية في عصرنا الراهن. وهو أيضاً من أكثر المفاهيم صعوبةً في التعريف، وفي ضبط علاقته بالمفاهيم المتداخلة معه، وذلك بفعل التطور الدلالي الذي حظي به هذا المفهوم المتشعب والمعقد. عبر تاريخ الحضارة نفسها.

وقد عرفت الحضارة تعريفات كثيرة، وسنقتصر على أكثرها شمولاً ـــ فيما نعتقد ـــ وهو تعريف الدكتور “حسين مؤنس”  إذ يقول إن: << الحضارة في مفهومها العام هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً ، أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية>>1

وهذا المفهوم للحضارة مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ، لأن التاريخ هو الزمن، والثمرات الحضارية تحتاج إلى زمن كي تنمو وتنضج،وبالتالي فإن هذه الثمرات الحضارية هي جزء من التاريخ، أو نتاج جانبي للتاريخ، وكما أن ثمر الزروع والأشجار لا ينضج إلا بفعل الزمن، إذ لا يمكن أن نزرع ونحصد ثمرة ما ــ أياً كانت الثمرة ــ في نقس الوقت، كذلك هي ثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان.

ومما سبق يمكننا القول: إن ميلاد حضارة ما، إنما يكون في لحظة زمنية معينة من لحظات التاريخ الإنساني، حيث تنضج ثمرة جهود مجتمع معين في بقعة جغرافية محددة، قد تنتشر فيما بعد خارج حدودها الجغرافية، وقد تصل أرجاء العالم بأسره.

والآن حينما نتساءل ماهي مستويات الحضارة؟ فإننا وبناءً على قاعدة المركز والمحيط نستطيع القول: إن الحديث عن الحضارة عموماً يقسم إلى ثلاثة مستويات وهي على الشكل الآتي:

مستويات الحضارة الإنسانية

المستوى الأول: الحضارة الإنسانية:

وهي مجموع ما أنتجته البشرية جمعاء على المستويات كافة، سواء أكانت هذه المنتجات روحية أم مادية، وذلك منذ أن وجد الإنسان على سطح هذه المعمورة وحتى يومنا هذا. والحضارة بهذا المفهوم هي نتاج جميع الشعوب والأمم والمجتمعات الإنسانية، وإن اختلف مدى إسهام كل أمة عن الأمة الأخرى، فالحضارة الإنسانية تشمل كل الحضارات الإقليمية، وهي تنتقل من مجموعة بشرية إلى أخرى.

المستوى الثاني: الحضارة الإقليمية:

وهي مجموعة من القوميات، ولا تنحصر بقومية واحدة بعينها، كالحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية والحضارة الغربية الحديثة….الخ. فهي حضارات تتضمن قوميات مختلفة، ولكنها مصبوغة بصبغة معينة، الأمر الذي يجعل كل هذه القوميات تنضوي تحت اسم حضارة واحدة تشملها جميعاً، وهذه الصبغة هي التي تميز حضارة عن أخرى وهي التي تمنحها أسماً خاصاً  وقد تكون هذه الصبغة  دينية ( كالحضارة الإسلامية)،  أوأثنية ( كالحضارة اليونانية)، أو جغرافية ( كالحضارة الغربية).

المستوى الثالث: الحضارة المحلية أو بنات الحضارة الإقليمية:

وهي تعني حضارة قومية معينة كالحضارة العربية والتي هي جزء من الحضارة الإسلامية، أوإحدى بنات الحضارة الإسلامية، ولذلك يمكننا القول: إن روافد أجزاء الحضارة الإقليمية(أي الحضارات المحلية) تصب في نهر الحضارة الإقليمية، وهذه بدورها تصب في بحر الحضارة الإنسانية الشاملة.

ويؤكد تقسمنا السابق العالم الروسي “الكسي مالا شينكو”  بقوله: << لكل حضارة إقليمية، مركز وأطراف فمثلاً.. يمثل العرب نواة الحضارة الإسلامية ومركزها، ثم يأتي المسلمون الفرس والأتراك في المدار الثاني، بينما يمثل مسلمو إندونيسيا ومسلمو القوقاز وغيرهم في المدارات الأبعد عن المركز>>2

العرب والحضارة الإسلامية

إذاً لقد كان العرب هم مادة الحضارة الإسلامية ونواتها، ومع ذلك كله، فهم جزء من الحضارة الإسلامية ولا يمكن اختزالها بهم وحدهم  على الرغم من الإقرار بدورهم الرائد في تشكيلها.

وبطبيعة الحال فإن ما ينطبق على الحضارة العربية ينطبق على الحضارات الأخرى في هذا السياق، فالمستويات الحضارية ـــ سالفة الذكرـــ هي من العموميات التي تنطبق على جميع على الحضارات، مع العلم بأن لكل حضارة خصوصيتها الذاتية وظروفها الموضوعية .

إذ إن الحضارات تتشابه في الإطار العام أي في مسارها الخارجي عبر التاريخ، أما فيما يخص مضمون الحضارة  الداخلي، فإن لكل حضارة روحها الخاصة وطبيعتها المختلفة ورؤاها المشتركة فيما بين أفرادها والتي توحد نظرتهم للعالم، ولكنها تميزها عن الرؤى الحضارية الأخرى.

إذاً التشابه بين الحضارات هو تشابه خارجي يقع في سياقها العام ويتمثل بالأطوار المتشابهة التي تتعاقب على الحضارات، أما
الاختلاف فيتجسد بالمضمون الداخلي أي في روح الحضارة  ويرجع هذا إلى كون<< الحضارات تعبيراً عن الروح وهي تختلف من حضارة إلى أخرى سواء في جوهرها أم في أسلوبها، فإذا ما اشتركت الأسباب الخارجية المؤثرة في حضارتين، تغلبت هذه العناصر على نحو مغاير تماماً للنحو الذي تقبل عليه الحضارة الأخرى، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن كل حضارة لا تستطيع أن تهضم هذه العناصر إلا بإحالتها إلى طبيعتها ولهذا يصبح ما هو حقيقي بالنسبة لحضارة ما غير حقيقي بالنسبة لحضارة أخرى. >>3

خلاصة القول

وخلاصة القول: إذا كان لكل أمة تاريخها، ولكل أمة حضارتها التي نضجت وأينعت  ثمارها عبر التاريخ، فإن ذلك لا يلغي أن حضارة كل أمة، هي جزء من الحضارة الإنسانية، ولا يلغي كون أن تاريخ كل أمة، هو جزء من التاريخ الإنساني، وأن الأمم  جميعها، تساهم في صنع التاريخ الإنساني، مما يجعل هذا التاريخ كلياً، وتبدو معه الحضارة وكأنها شعلة، تتناولها الحضارات الإنسانية على مر التاريخ.

 

المصادر والمراجع:

1. حسين مؤنس، الحضارة، سلسلة عالم المعرفة العدد (1)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978 م، ص 13.

2. الكسي ما لا شينكو، الإسلام الثابت الحضاري في المتغيرات السياسية، ترجمة: ممتاز بدري الشيخ، دار الحارث، دمشق، ط 1،1999 م، ص12+13  .

3. عبد الرحمن بدوي، اشبنجلر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1941م، ص89+90.

أضف تعليقك هنا

د. زياد عبد الكريم النجم

زياد عبد الكريم النجم