دور الوازع الديني في فكر ابن خلدون

ابن خلدون مؤرخ وفيلسوف من الطراز الفريد

يُعد ابن خلدون المتوفي عام (808 هـ) آخر فلاسفة الإسلام، إذ يبدأ الفكر الفلسفي في التاريخ الإسلامي بالكندي المتوفي (256هـ)، مرورا بالفارابي وابن سينا وابن رشد متوقفا عند ابن خلدون، بعد ذلك يأفل نجم الفكر الفلسفي في الإسلام، ويتوقف الخلق والإبداع، ويقتصر دور العقل العربي بعد ذلك علي الشروح والحواشي والتعليقات التي لم تقدم شيئا يُذكر.

ويعدّ ابن خلدون مؤرخا من الطراز الفريد، ذا جرأة عالية وحس نقدي حاضر، كما لم يتوقف دوره أيضا على السرد التاريخي الساذج وحسب؛ إنما تجاوز منهجه ومُنجزه الفكري حدا جعله يقف على طبيعة المجتمعات، ليضع قوانين يراها محركة للتاريخ، يتنبأ بها عن أعمار الدول، ويصف بها حالة المجتمعات، بدوها وحضرها، وما يؤثر فيها إيجابا وسلباُ، قوة وضعفا. لذا فهو يُعد مؤسسا لعلم الاجتماع البشري، وواضع اللبنة الأولى له.

الوازع الديني عند ابن خلدون

ومن جملة ما عُني به ابن خلدون في مقدمته المشهورة؛ حاجة المجتمعات إلى الوازع الديني، ونحن إذ نقول “الوازع الديني” فنحن نقصد به تلك الحالة الإيمانية التي يعتنقها الفرد عن قناعة داخلية بوجود إله ووجوب حياة أخرى بها ثواب وعقاب.

فكلمة “الوازع” معناها في اللغة: من الفعل (وَزَعَ), أي: كفَّ ومنعَ وحبسَ, وزجرَ ونهى. ومنه قوله تعالى :{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [سورة النمل: آية 19]، أي: امنعني أن أكفر نعمتك.

فيقول ابن خلدون متحدثا عن أهمية إرسال الرسل والشرائع للمجتمعات: ” اعلم أن الله اصطفى من البشر أشخاصا، وفضّلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يعرّفونهم بمصالحهم، ويحرّضونهم على هدايتهم، ويدلّونهم على طريق الخير”.

فالرسل عند ابن خلدون: وسائل ترشد الناس إلى الخير، وتعرفهم بما هو صالح لهم، وبما فيه الهداية لهم. ومصطلح “الوازع الديني” هو تعبير ابن خلدون نفسه إذ يقول: “الأحكام الشرعية غير مفسدة، لأن الوازع فيها ذاتي”.

فإذا كان ثمة أمة مُتوحشة، وبهم من الغلظة والأنفة والرياسة؛ فإن “الوازع الديني” يذهب هذا الخُلق، ومن ثم يسهل انقيادهم بدلا من تنازعهم، واجتماعهم بدلا من تشرذمهم، وذلك على حد تعبير ابن خلدون “لِما يشملهم الدين المُذهب للغلظة والأنفة والتحاسد والتنافس”.

كما إنه ثمة علاقة بين الوازع الديني وتهذيب الفرد والمجتمع، فثمة علاقة أيضا بين الدين والدولة في رأي ابن خلدون، فالدين في رأيه يزيد الدولة قوة، ويعزز وحدتها، ويضرب ابن خلدون مثلا في ضعف قوة العرب والدولة الإسلامية وقتئذٍ إلى إنهم كانوا قد ” نبذوا الدين، فنسوا السياسة فتوحشوا كما كانوا”.

الوازع الديني أذهب من أنفس العرب خُلق التوحش والكبر

ولأن لابن خلدون اعتقادا في العرب بأنهم أمة لها خلق التوحش، وأنهم أصعب الأمم انقيادا لبعض، لما فيهم من الغلظة والأنفة وبُعد الهمّة، والمنافسة على الرياسة، وقلما تجتمع كلمتهم؛ إلا أنه يرى أن “الوازع الديني أذهب من أنفسهم خُلق الكبر والمنافسة، فسَهُلَ انقيادهم واجتماعهم به”. ويقول أيضا: ” فإذا كان فيهم النبي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويُؤلف كلمتهم لإظهار الحق؛ تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والمُلك”.

“وكان قائد الفرس في معركة القادسية (رُستم) إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: “أكلَ عُمر كبدي يعلم الكلاب الآداب”. مشيرا إلى أن الدين يعلمهم الآداب التي تهذب نفوسهم وطباعهم. فلما تناقص الدين في الناس، نقصت بذلك صور البأس فيهم”.

إذاً, فالدين في رأي ابن خلدون بالإضافة إلى أنه عامل في صلاح المجتمع وتهذيبه، يعده عاملا من عوامل القوة والألفة واجتماع القوة، ونبذ الفُرقة أيضا. وذلك لأن أحكام الدين “راسخة فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل صور بأسهم مستحكمة. قال عمر – رضي الله عنه_: «من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله»”.

أيهما أقوى في منع الإنسان وردعه، “الوازع الديني” أم “القانون”؟

وهنا نأتي إلى قضية هامة، بل تعد ثمرة هذه السطور، وهي أننا إذا مررنا سؤالا لابن خلدون في معرض حديثنا عن دور الدين وأهميته في حياة الإنسان فقلنا له: أيهما أقوى في منع الإنسان وردعه، هل “الوازع الديني” أم “القانون”؟ وهنا يجيب ابن خلدون قولا واحدا بأن “الوازع الديني” أقوى في ردعه وزجره من “القانون” الذي يسميه بتعبيره بـ”الأحكام السلطانية”.

القانون والأحكام السلطانية

فيقول: “تبين أن الأحكام السلطانية مفسدة للبأس، لأن الوازع فيها أجنبي (من خارج الذات )، وأما الشريعة فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ونلاحظ تعبير ابن خلدون بـ(الأجنبي)، وكأنه يشير إلى أن مصدر الإلزام فيه أمر غريب ليس مؤسسا علي قناعة ذاتية داخلية.

فلأن الوازع الديني قائم في الأصل علي القناعة الذاتية والإيمان الداخلي, والعقيدة الراسخة بكيان الإنسان؛ فلذلك هو السبب الرئيس في قيام أي عمل، وهو الدافع الأول لقيام الإنسان بأي سلوك، إذ العمل فيه يبدأ أولا من الداخل، ثم تترجمه هذه القناعة بعد ذلك إلى سلوك في الخارج.

وهذا بعكس القانون (الأحكام السلطانية) علي حد تعبيره، التي تأتي عن الخارج أولا، دون قناعة ذاتية من الداخل، لذا هي ليست بقوة الوازع الديني في الزجر والمنع.

وفي هذا السياق نفسه يقول الدكتور البهي في كتابه الإسلام دين الإنسانية: “إن الخُلُقية الدينية التي تقوم على عناصر الإيمان؛ هي التي تدفع الإنسان إلى حسن السلوك والاستقامة والتعاون والتآخي بين الأفراد، ودافعها إلى ذلك “دافع ذاتي” لا يحتاج إلى محرك خارجي، ولا إلى رقابة خارجية،

والفرق بين المؤمن الذي يحمل في نفسه القوة الدافعة إلى العمل المستقيم والتعاون مع الغير، وبين القانون الذي يضعه المجتمع، ويفرضه بقوة الحراسة؛ أنه مفروض عليه من صاحب القانون، فيعمل بدافع هذه (القوة)، بينما الخُلقية الدينية تعمل بدافع (المراقبة)”.

الفرق بين القانون والوازع الديني

إذاً فالفرق بين الأحكام السلطانية وبين الوازع الديني عند ابن خلدون هو:

  1. أن الأحكام السلطانية تأتي من الخارج، والوازع الديني يأتي من الداخل.
  2. وإذا كان الإلزام عند الأحكام السلطانية هو مجرد حفظ نظام المجتمع الذي ارتضى الشخص أن يحيا فيه ويلتزم به، فإن الإلزام في الوازع الديني هو التصديق والإيمان الشمولي الذي لا يرتبط بمجتمع دون غيره.
  3. وإذا كان باعث الإلزام في الإنسان في الأحكام السلطانية هو الترهيب وحسب، فإن باعث الإلزام في الوازع الديني هو الترغيب والترهيب معا، فلن تجد _مثلا_ قانونا قد كافأ مواطنا لأنه قد التزم به، بينما الأحكام الشرعية تكافئ  الإنسان على التزامه بها بالثواب والنعيم الأخروي، بالإضافة إلى حفظ النظام الذي تكفله الأحكام القانونية.

لذا كان ابن خلدون حريصا على “أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه”. كما يقول أي ينبعث من قناعة شخصية وباعث داخلي.

ولذلك فالفرد الذي لا يؤمن بالله ولا بيوم الجزاء والحساب، ولا يخضع إلا لسلطان القانون وحسب؛ يشعر بأن حريته محدودة، لأنه شبه مجبر على فعله وسلوكه والتزامه، بينما الفرد المؤمن إيمانا ذاتيا بالله وبأن ثمة يوما يعاقب فيه المجرم بجرمه ويجازى فيه الصالح على نزاهته وشرفه لا يشعر بضيق في نفسه في الالتزام والسلوك، لأنه يعلم أن الآخرة هي مستقبله الذي يبنيه ويعمل له.

إذاً فالقناعة الذاتية هي أول محرك في الإنسان، فإذا لم تكن هذا القناعة بكامل حريتها لن تستطيع أن تدفع الإنسان بالسلوك في الواقع والخارج، لذا نحن لم نقرر بعدم الرادع القانوني بالكلية، وإنما نقرر أن الوازع الديني في دفع الإنسان نحو الواجب لترك الشر وفعل الخير، وفي قيامه بالفضيلة والانتهاء عن الرذيلة أقوى وأقوَم. ومن هنا نجد أن ابن خلدون يرى أن الوازع الديني أقدر وأبلغ في ضبط السلوك الاجتماعي.

فيديو مقال دور الوازع الديني في فكر ابن خلدون

أضف تعليقك هنا