الإصلاح الصوري: كلما داوى جرحاً سال جرحٌ!

مقال “فاتحة السنة السابعة عشرة”

يحذر الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار تحت عنوان “فاتحة السنة السابعة عشرة” بتاريخ المحرم – 1332هـ الموافق ديسمبر – 1913م،  من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتنا الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب والثروة.

ثم يذكر الأمة بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين والمسرفين: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } ( الأنعام : 4 ) ، { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ( يونس : 101 ) [1] ، { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ } ( يونس : 102 ).

الأمم أشد من الأفراد احتياطًا وأوسع آمالاً

سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا، وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛ لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } ( القمر : 4-5 )، { قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ( الأنبياء : 45 ).

تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان، والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها وملكاتها.

ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، ولم تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد: { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ } (الأنبياء : 44 ).

علاج الأمة كان تقليدًا صوريًّا، وعارضًا وقتيًّا

إذا لم يكن العلاج لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري والباطني، فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، وإلا لن تزداد بعد هذه المعالجات إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا.

فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة، وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو الحماية أو الاحتلال: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ( الأنعام : 129 ) ، { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } ( الأنعام : 131 ) ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (الأنعام : 132 )،

وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري ( الداء الإفرنجي ) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن ( كتسمم الدم ) تصدر عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح).

فيديو مقال الإصلاح الصوري: كلما داوى جرحاً سال جرحٌ!

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان