البخاري ورويبضة العصر

صحيح البخاري أعلى الصحاح

إن الذي تقرر عند جمهور المحدثين أن ( صحيح البخاري) مقدم على سائر الكتب المصنفة، حتى قالوا ” أصح كتاب بعد كتاب الله (صحيح البخاري) “. وهذا الاختيار ليس عبثًا كما يدعي بعض – الجهلة – ، ولكن لو نظرنا لشرط البخاري في قبول الحديث لوجدنا ما يلي: اتصاف الراوي بالضبط والعدالة وعدم الشذوذ والنكارة والغفلة، وشرط البخاري في كتابه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه» شرط قاسٍ جدًا في قبول الحديث.

الاعتراضات على الإمام البخاري وصحيحه

والإمام البخاري كان حافظًا حادَ الذهنِ، إمام المحدثين وشيخهم وسلطانهم، ولم يكن كما يصوره البعض (يختار ما يوافق هواه) (1)
ولعل من أشهر الاعتراضات على (صحيح البخاري) والإمام البخاري نفسه، وفي صورة عامة على حجية السنة:

أنه لم يكن عربيًا و لم يكن يعلم باللغة العربية.

وهذا جهل لعدة وجوه:
( أولًا ): البخاري كان ملما بعلوم اللغة إلمامًا تامًا، وروي عنه أنه لما سئل عن منهجية طالب الحديث فقال: ” لا بد أن يكون عالمًا بفن الكتابة وعلوم اللغة والنحو “. فكيف لرجل أن يطلب هذا ولا يتوفر فيه – حسب الإدعاء!

(ثانيًا): هناك علماء كثيرون ليسوا من أصول عربية وهم من أعلام أئمة الإسلام، فالإسلام بالاجتهاد لا بالنسب، ولعلي ألمح لحالة معاصر وهي (ذاكر نائيك) الدكتور المنظّر.

( ثالثًا ): تربى البخاري في أسرة متدينة زاهدة، وأبوه كان من رواة الحديث، وتلقى العلم وهو صغير، وبرز في علم الحديث، وأتقنه وقيل عنه – رحمه الله -: ” لم أر أحدًا بالعراقِ ولا بخُرسانِ في ذلك – علم الحديث – أعلم منه “.

أنتم تقدسون ” البخاري ” وتقارنونه بكتاب الله، وتجعلون فيه العصمة

هذه الدعوى أحيانًا يكون فيه جانب من قول الجاهل أن من ينسبون الصحة لكتاب البخاري هم يعبدونه وهذا خاطئ لوجوه:
(أولًا): نحن لا نقدس البخاري، ولا نجد العصمة في بشر سوى أنبياء الله، ولا نقدس أحدًا، ولا نعبد سوى الله سبحانه، ولكن هذه الدعوى بلبلة لمحاولة التقليل من شأن البخاري وعلمه وحفظه، بأن يتوهم المستمع أن البخاري كان يأتي المعاصي، ويخطئ كثيرًا، بل يتعمد الخطأ.

(ثانيًا ) : العصمة ليست في البخاري، العصمة لأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، البخاري ما هو إلا ناقل لأحاديث رسول الله، تحرى الصدق والعدالة، وبلغ في شروطه المبلغ حتى يحرص على نقل أحاديث الرسول، فهو منهجٌ علمي التزمه الإمام البخاري في كتابه وسار عليه، وقبله خاصة الأمة وعامتهم بالقبول.

قال الإمام ابن حزم – رحمه الله – ” جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله ﷺ أنه قال، ففرض اتباعه، وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن، وبيان لمجمله، ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه ﷺ بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا، وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.

فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين:
خبر تواتر: وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي ﷺ، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه، لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد ﷺ، وبه علمنا صحة مبعث النبي ﷺ، وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات، وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة، وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره.

وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك، وبينا أن البرهان قائم على صحته، وبيّنا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأننا به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف. ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق. ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان، ولا أن أباه وأمه كانا قبله، ولا أنه مولود من امرأة”.

( ثالثًا ) : تلك الدعوى في علم المغالطات المنطقية تسمى (مغالطة الشخصنة) ومنها القدح، وأيضًا مغالطة (الأبيض والأسود).

عقلي لا يقبل الحديث، ولم أفهمه والرسول لم يقله

هذه الدعوى ترتكز حول اتباع الهوى، والغوغاء في القنوات الإعلامية، وهي باطلة لعدة وجوه:
( أولًا) العقل المتفق عليه هو القوانين العقلية التي لا ينقضها إلا جنون كمثل: “الجزء أصغر من الكل” ، “الجسم إما حي وإما ميت” ، “لكل سبب مسبب” ، “الواحد نصف الإثنين” .. إلخ.

وصحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول أبدًا وفي ذلك ألف ابن تيمية “درء تعارض العقل والنقل”، وقال في كتابه:
“ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يظن تعارضها: من صدَّق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون كذبا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على شيء ولا يكون دالا عليه”.

( ثانيًا ) عقلي لا يقبل الحديث: وعقلك ليس ميزانًا يقبل به، ويرد الحديث.

وأخيرًا (لمَ يوجد أحاديث صحيحة خارج البخاري؟)

ناقل تلك الدعوى جاهل بعلم المصطلح وبشؤونه وأحواله وجوابها من جوه:
(أولًا ) – قال الإمام البخاري: “ما أوردت في كتابي هذا إلا ما صح، ولقد تركت كثيرًا من الصحاح”.
، فلم يقل أحدٌ بهذا مطلقًا، ولعلم الجاهل هناك كتب أخرى تسمى بالصحاح مثل:
– صحيح مسلم – صحيح ابن خزيمة – صحيح ابن حبان – صحيح الحاكم – المختارة للمقدسي
وكتب أخرى في الحديث يقال لها ( الصحاح الست ): هي “صحيح البخاري ، صحيح مسلم، سنن أبي داوود، سنن ابن ماجه، سنن النسائي، الجامع للترمذي”.

( ثانيًا ) مع وفرة كتب الحديث وتسميتها بالصحاح:
إلا أن كثيرًا من العلماء أخذوا على الحاكم في مستدركه أحاديثًا، وضعفوا بعض أحاديث سنن أبي داوود مثلًا، إلا أنهم قبلوا أحاديث الصحاح في البخاري دون تضعيف، رغم الفحص الدقيق فإما أن يكونوا يحابون البخاري وهذا محض افتراء وسفسطة عقلية. وإما أن هناك منهجية في القبول تعتمد أولًا في تحري الصدق ونقله عن النبي.

الختام

أغلب أصحاب تلك الدعاوى يشككون في حجية السنة، وهم جماعة يُسمَون “القرآنيون”، وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله”.

والآخرون يشككون في حديثٍ واحد في البخاري، ويقولون ما المشلكة، وهي محاولة للانزلاق في منحدر التنازلات عن النص والشريعة، وبابها إنكار النص النبوي الشريف اتباعًا للهوى دون أدنى نظرة علمية في الأمر.

“واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله، وأن الهدى هدى، وأن الحق دائر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجودا وعدما، وأنه لا مطاع سواه ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يعرض على كلامه فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله بل لأنه أخبر به عن الله تعالى ورسوله، وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه صلى الله عليه وسلم على آراء القياسيين ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به، عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم بصحته فهو منه المقبول، وما حكم برده فهو المردود “. (ابن القيم)-

تعقيب وملاحظات

كل الدعاوى الباطلة التي سيرد بها على ما نُقل وكُتب بفضل الله وهي كالآتي:
– أنتم متخلفين وتعبدون النصوص.
– البخاري أعمى ونقلة السنة جهلة.
– البخاري يدلس السنة.
– كيف كان الناس يفيمون دينهم قبل البخاري؟
– أنتم محتكرون للعلم وتصنعون كهنوتًا في الدين.
– درست البخاري وقرأته ولم يعجبني ووجدت فيه أخطاءً.
– لمَ أصدق أناسًا ماتوا منذ قرون؟.
– أنتم كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

= مغالطات منطقية، وجهل بعلوم المصطلح (6)، وكما قال الإمام الغزالي: وما كان من توفيقٍ فبفضل الله وحمده، وما كان من زلة فمن نفسي والدين منها براء، والحمد لله أولًا وآخرًا.
[ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ]


المراجع:

  1. الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.
  2. مختصر الصواعق المرسلة.
  3. فتح الباري شرح صحيح البخاري.
  4. أعلام المحدثين.

إثراءات

  1. ولك هذا المثال في قوة وحضور ذهن الشيخ

    رد بعض المغالطات :
    – لماذا نؤمن بصحيح البخاري

    – هل البخاري معصوم

    – كيف جمه البخاري 600 ألف حديث
    https://www.youtube.com/watch?v=TGF97etdBB0
  2.  كيف كان المسلمون يقيمون دينهم قبل البخاري

    – مؤلفات البخاري وعلاقتها
    https://www.youtube.com/watch?v=hrZhOcqjsBk

فيديو مقال البخاري ورويبضة العصر

أضف تعليقك هنا