باتريك زوسكيند .. ماذا تعرف عنه؟

كاتب روائي ألماني وُلد في مدينة أمباخ عام 1949، درس التاريخ في جامعة ميونخ بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وقد كان والده فيلهلم إيمانويل زوسكيند -Wilhelm Emanuel Süskind- كاتبًا ومترجمًا ومعاونًا في صحيفة زوددويتش تسايتونج -Süddeutsche Zeitung- وكذلك كان أخوه الأكبر مارتين زوسكيند -Martin Süskind- يعمل صحفيًا.. كان باتريك يُفضّل العزلة والاختباء من أضواء الشهرة، وكان يرفض قبول الجوائز الأدبية التي كانت تُمنَح له.. اشتُهِر بروايته “العطر: قصة قاتل” التي تحولت فيما بعد لفيلمٍ سينمائيّ عام 2006 من إخراج توم تايكوير -Tom Tykwer- وحصل الفيلم على تقييم 7.5/10 على موقع IMDb.. تُرجمت الرواية ل46 لغة، وبيع منها ما يقرب من 20 مليون نسخة حول العالم.

باتريك صاحب أسلوب مميز جدًا في السرد، يمتلك من الخيال ما يجعلك تعجز عن مجاراته أو توقعه، يُجيد ربط أحداث القصة أو الرواية بالحالة النفسية التي يحاول إثارتها أو التعبير عنها في كتاباته.. نشر زوسكيند ستة أعمال كان آخرهم دراسة بحثية، وكانت بطلب من المخرج الألماني هيلموت ديتل -Helmut Dietl- الذي أوكل إليه كتابة سيناريو لفيلم بعنوان “في البحث عن الحب واكتشافه”.. سأكتب نبذة مختصرة عن كل عمل من أعماله بحسب تقييمي لها وليس بحسب تاريخ إصدارها.

1- “العطر: قصة قاتل” -5/5-

حين تتمثل العبقرية أمام عينيك بين طيّات كتاب! بدأ زوسكيند روايته بالحديث عن البطل قائلاً: “في عصر لا يفتقر إلى النوابغ والسفلة، عاش في فرنسا القرن الثامن عشر رجل من أكثر الكائنات نبوغًا وسفالة.. رجل ستُسرد حكايته هنا، كان اسمه جان بابتيست غرينوي”
حين كنت أقرأ الرواية لم أكن أفكّر في ذلك النابغة السافل غرينوي، بل كنت أفكّر طوال الوقت في زوسكيند! كيف له أن يتمكن من خلق بطل كهذا الرجل؟ رجلٌ نابغة، يُولد بحاسة شم معجزة؛ فـ يرى الكون من خلال أنفه وليس بعينيه، إلا أنه تحديدًا -وعلى عكس كل البشر والأشياء- يولد بلا رائحة! فيُقرّر الانتقام من البشر، هؤلاء الحمقى، البائسين.. سيصنع لنفسه أفضل عطرٍ على الإطلاق، سيجعلهم يُجنّون به، يعشقونه، بل يرتمون تحت أقدامه من شدة النشوة والإعياء.. سيجعلهم يُفتنون به دون أن يعلموا السبب، هو وحده يعلم سطوة العطر وسيطرته، هو وحده يعلم أهميته وقيمته، سيصنع عطره الخاص، سيستخلصه من أجود أنواع العطور على الإطلاق، عطر 25 فتاة صبيّة عذراء من أجمل ما أنجبت الحياة شكلاً ورائحة!
كنت أظن أحياناً أنّ باتريك زوسكيند هو نفسه جان غرينوي، وأنّه بالفعل يمتلك حاسة الشم المعجزة تلك، وإلاّ كيف أمكنه وصف هذا الكم المُذهل من الروائح بتلك الدقة المُرعبة في روايته؟!

2- “حكاية السيد زومّر” -4/5-

قصة طويلة، عن طفلٍ صغير ورجل مصاب بمرض الـ”كلاوسترفوبيا” أي رهاب الأماكن المُغلقة، القصة يسردها ذاك الطفل الصغير الذي لم يُذكر اسمه، يتحدث فيها عن طفولته، وعن السيد زومّر، ذلك الرجل الذي كان يمشي طوال اليوم تقريبًا -بلا هدفٍ أو وجهة- فقط ليتمكّن من البقاء على قيد الحياة مع مرضه اللعين.. يُثير زوسكيند في تلك القصة إحدى الحقائق التي نحاول تجاهلها دائمًا، ألا وهي مدى بؤس الشعور بالوحدة، مدى صعوبته، وإلى أي درجة قد يدفع -ذلك الشعور- الشخص للتفكير فى إنهاء حياته، أو الاقدام على إنهائها بالفعل.. يحتفظ ذلك الطفل بسرٍ صغير، يُخفيه عن الجميع، لكنّه يفصح لنا عنه في نهاية القصة.

3- “ثلاث حكايات، وملاحظة تأمُّلية” -4/5-

ثلاث قصص قصيرة بعنوان “هوس العمق”، “معركة”، “وصية السيد موسار”، وملاحظة تأمُّلية بعنوان “فقدان الذاكرة الأدبية”.
“هوس العمق”..فنّانة شابّة تمتلك الموهبة، تُثير لوحاتها الإعجاب، إلا أنها تفتقد للعُمق، ماذا يعني أنها تفتقد العُمق في لوحاتها؟ كيف تصبح لوحاتها عميقة؟ بل كيف تصبح هي ذاتها عميقة؟ رحلة للبحث عن العمق تنتهي بفاجعة، يقول زوسكيند “العُمق، تلك الرغبة القاتلة!”

“معركة”.. رجلٌ في السبعين من عمره، يحترف لعبة الشطرنج، لم يجرؤ أحدٌ على هزيمته يومًا، حتى أعتى لاعبي الشطرنج قد خسروا أمامه.. ثم يأتي ذلك الشاب، لا يبدو عليه الخوف أو القلق، يلعب بكل ثقة، إلا أنّه يهدم كل قواعد اللعب التي تعارف عليها الناس، يسير نحو الخسارة بخطىً ثابتة، إلا أنّه لا يُبدي سوى الثقة واللا مبالاة؛ فيثير في نفس خصمه الفزع، ويثير في نفس جمهوره الحماسة، ثم ينتهي الأمر بمفاجأة كبيرة للجميع!
“وصيّة السيد موسار”.. يتوصل السيّد موسار إلى أمرٍ عجيب بمحض الصدفة، كوكب الأرض يتكون من المحار! الانسان ذاته يتكون من المحار! يقضي الأعوام المتبقية من حياته في البحث والتنقيب عن الأمر؛ حتى يصير شبه متأكدًا من نظريته المُرعبة، سيسيطر المحار على كوكب الأرض قريبًا، ستصبح نهاية العالم شيئًا أشبه بابتلاع المحار لكل شيء، وحين يقرر الإعلان عن اكتشافه للجميع، تحدث الفاجعة!

“فقدان الذاكرة الأدبية”.. ملاحظة تأملية ظريفة للغاية يعرض فيها الكاتب فكرة النسيان التي تصاحب كل ما نقرؤه من كتب بعدما ننتهي من قرائتها.
تحتل قصة “معركة” المركز الأول بالنسبة لي بين حكايات ذلك الكتاب.

4- “الحمامة” -3/5-

قصة طويلة، عن حارس أمن في أحد البنوك، تسير حياته كما هي مُخطّط لها، إلى أنْ يخرج ذات صباح من غرفته فيجد تلك الحمامة تقبع أمامها في هدوء.. تحوي القصة الكثير من المعاناة الانسانية، من الضغوطات الحياتية، من الخوف، القلق، الخجل، الاضطراب، فقدان التركيز، الشتات والضياع في غياهب التفكير المظلمة، ثم الرضا، الهدوء، والسكينة.. فلا تعلم هل كان الأمر كالقشة التي قصمت ظهر البعير، أم أنّ الانسان مسكينٌ بطبعه، يفزع ويهدأ بأقل الأشياء، أبسطها، وأدناها.

5- “الكونترباس” -3/5-

مسرحية مونودارما من فصلٍ واحد، عُرضت في الموسم المسرحي لعاميّ 1984/1985 أكثر من 500 عرض؛ وتعتبر بذلك أكثر المسرحيات عرضًا في تاريخ المسارح الناطقة بالألمانية، وتعتبر كذلك من أهم المسرحيات في المسرح العالمي.. الكونتراباص هي آلة عزف ضخمة تشبه الكمان ولها صوتٌ غليظ، يبدأ العازف المسرحية بالحديث عن تلك الآلة، فهو عازف كونتراباص في النهاية، يتحدث عن أهميتها بالأوركسترا وكيف أنّ لها النصيب الأكبر من أي عرض، بل إنه يمكن الاستغناء عن غيرها من الآلات، أما بدونها فلا وجود للأوركسترا.. ثم ينتقل إلى شرح معاناته الشخصية كإنسان وكعازف كونتراباص؛ حيثُ يقف عازفوا الكونتراباص في نهاية المسرح، مُهمّشين، مهملين، لا قيمة لهم، لا يعرفهم أحد، ولا يتطلّع إليهم أحد، العيون تتجه دائمًا لعازف الكمان الأول والذي يليه.. ينقلك العازف من شخصٍ خبير بالموسيقى وبقيمة ما يقدمّه من فن بل وبأهميته القصوى في قيام عروض الأوركسترا إلى شخصٍ مُهمّش على المستوى الشخصي والمهني، شخصٌ يحمل من الكره والحقد ما يفوق التوقعات، شخص ينتقم من نفسه بالعزف، شخص ينتقم من والديه في الموسيقى.. يشرح العازف معاناته ويسرد آلامه، ثم يُقرر التمرّد على ذلك كله والقيام بأمرٍ مجنون ربما يكون آخر عهده بالأوركسترا وبالموسيقى ككل!
في رأيي لم تأخذ تلك المسرحية حقّها كاملاً كعملٍ كتابي، فهي تفتقد الكثير من روعتها وهي حبيسة كتابٍ وحروف.. لقد صُنعت لتكون مسرحية ولا شيء غير ذلك.

6- “عن الحُب والموت” -2/5-

دراسة بحثية عن العلاقة الوثيقة بين الحُب والموت، كان ذلك آخر ما كتبه زوسكيند، كتابٌ صغير، لطيف نوعًا ما، يحاول الإجابة عن السؤال الذي أرّق الفلاسفة منذ أمدٍ بعيد “لماذا الحب متصلٌ بالموت وعلى نحوٍ جوهريّ لا فكاك منه، منذ القديم وحتى يومنا هذا؟”

وأخيرًا

أحببت كثيرًا رحلتي -القصيرة- بين أعمال ذلك الكاتب العبقريّ المُثير، أُوصِي به بشدة، وآمل أن يُفاجئنا بعملٍ جديد عمّا قريب؛ فهو يعيش حياته -حاليًا- ما بين ميونخ وباريس مُتفرّغًا لكتاباته.

فيديو مقال باتريك زوسكيند .. ماذا تعرف عنه؟

أضف تعليقك هنا