اشكالية دعم المحروقات في ليبيا

تدهور الوضع الليبي

لا يخفى على احد أن الدولة في ليبيا لم يعد لها وجود حقيقي ( باستثناء بعض من المظاهر الشكلية وهي قليلة جدا وبقيت في حدها الادنى حتى الان ) ومن بين تلك المظاهر التي تمثل وجود الدولة دعم اسعار المحروقات وهي ما تمثل جانب من سياسات الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والخدمي.
على كل الاصعدة يشهد المواطن الليبي بشكل يومي مظاهر انهيار الدولة وسقوطها بدأ من تأخر المرتبات الى انعدام وجود السيولة المالية لدى البنوك الى هشاشة الوضع الامني وتردي الاوضاع الاقتصادية في ظل التضخم الرهيب الحاصل ( يصل الى 400% في اقل معدلاته منذ 2015 ) نتيجة انهيار قيمة الدينار الليبي امام العملات االجنبية وعلى راسها الدولار الامريكي والعملات الاخرى.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة يسعى اليوم الكثير من رجال السياسة في فرعي السلطة التشريعية والتنفيذية الى اتخاذ سياسة الهروب الى الامام لايجاد حلول للمشاكل والازمات المتراكمة للاقتصاد الليبي ( بدلا عن التنازل من طرفهم وتقديم حلول حقيقية لتلك الازمات ) ومن بينها التهريب مدعومين باراء بعض وجهات النظر المنادية بضرورة التحرك بشكل عاجل نحو رفع الدعم العام للمحروقات متحججين ان ذلك الدعم يأكل جانبا كبيرا من الميزانية العامة للدولة ويذهب اغلبه نحو التهريب حيث يبلغ سعر لتر البنزين 0.15 درهم ليبي اي ما يعادل 10 سنت دولار بالسعر الرسمي للدولة بينما لو حولناه الى السعر في السوق الموازي لاصبح سعر اللتر من الوقود 1.5 سنت دولار وهذا السعر اقل ما يمكن ان يوصف به انه مجاني.

ارتفاع سعرالمحروقات

إن رفع الدعم عن المحروقات هو مطلب غير عادل ولدينا وجهة نظرنا نحن الذين نرى أن الدعم للمحروقات هو اخر وجوه الرفاهية في ليبيا التي يمكن لنا كطبقة متوسطة منقرضة الحصول عليها بل يمكن القول انها اخر وجوه الضرورات في ظل انعدام تعليم وصحة في المستوى المطلوب.
إنه من البديهي في علم السياسة العامة ان تقاس اي قرارت تتخذها الدولة في شكل سياسات بمدى نجاعة تلك القرارات ( مدخلاتها ومخرجاتها ) وفائدتها لمصلحة المستهدفين منها سواء كانت جهات ام افراد ومن البديهي ايضا ان لاتكون المصلحة في سياسات الدولة مصلحة مادية بحثة قابلة للقياس ولكن هناك مصلحة معنوية تتعلق بالسلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والرفاهية.
ومن هنا يحق لنا كمواطنين اولا وكباحثين ثانيا التساؤل عن ماهي الفوائد والمصالح المترتبة عن اقرار سياسة رفع الدعم عن المحروقات واستبدالها بالدعم العيني في شكل مبالغ مالية شهرية تدفع للمواطن نظير رفع اسعار المحروقات؟
لنحاول اولا ترتيب بعض الافكار ووضع وتبيان حقائق واقعية ماثلة امام كل مواطن ليبي لنعلم ما مدى نجاعة القرار.
لنطرح التساؤل أو الإشكالية الاولى_ هل رفع الدعم يوقف التهريب؟
كما اشرنا اليه سابقا فان سعر اللتر من الوقود الان هو 0.15 درهم ولكن بالمقابل سعر الدولار في السوق الموازي يبلغ متوسطه الان 6.5 دينار لكل دولار واحد فيما يبلغ سعر بيع لتر الوقود المهرب الى تونس حوالي دينار تونسي والى مالطا ماقيمته 1 يورو واليورو يعادل ما قيمته 7.5 دينار ليبي.

تحليل أسباب الارتفاع

لنفترض ان سعر لتر الوقود في ليبيا سيتم رفعه الى سعر 2 دينار للتر ( وهو سعر مستحيل حاليا ) هل سيتوقف عندها تهريبه الى خارج الحدود؟
المنطق وعلم الاقتصاد يقولان ان التهريب لن يتوقف ان لم يزدد اصلا. ولكن لماذا؟
طالما ان سعر اليورو هو 7.5 دينارات لكل يورو واحد وبالمقابل فان سعر الوقود المهرب هو 1 يورو لكل لتر اذا يتبقى للمهرب مبلغ وقدره 5.5 دينارات ربح من كل لتر اي ان الربح سينقص فقط ولكنه لن ينعدم ( هذا في حال استقرار سعر الدولار ولم يقفز لاعلى نتيجة اي ظروف سياسية او امنية )
ويزداد هذا الربح كلما زاد سعر برميل النفط في الاسواق العالمية طبعا بحكم أن ذلك الارتفاع سيؤدي بالتالي الى رفع اسعار مشتقاته في الدول المجاورة التي تستورد تلك المشتقات من الخارج او تكررها بالداخل ولكن يبقى البترول الخام محكوما بالاسعار الجديدة المرتفعة.
إن حجة القضاء على التهريب برفع الدعم ستنعدم في هذه الحالة بالنظر لما سردناه من حقائق اقتصادية على الارض بل ان التهريب سيستمر في مقابل عجز المواطن عن شراء الوقود بالكميات اللازمة لتنقلاته وحجم مسؤولياته في ظل عدم وجود بديل حقيقي من شبكة مواصلات عامة ففي هده الحالة سيكلف تعبئة خزان وقود سعة 50 لترا ما لا يقل عن 100 دينار ليبي وهي لا تكفي لخمسة ايام في حال الاقتصاد يعني ان المواطن الليبي الذي يمتلك سيارة بحاجة لمتوسط مبلغ خمسمائة دينار شهريا لتغطية نفقات الوقود وهدا المبلغ من المستحيل ان يتم تغطيته من الدعم المالي البديل فهل نتخيل عائلة مكونة من خمسة افراد تتلقى دعما ماليا قدره خمسمائة دينار شهريا ستستطيع تغطية كلفة تنقلاتها بهذه الكمية من الوقود في دولة بدون مواصلات عامة؟

هذا عدا عن ان هناك عوامل موجة تضخمية ستتدخل وستؤثر على بقاء قيمة الخمسمائة دينار كما هي لانها ستتحول الى بنود اخرى من ميزانية الاسرة تحت ضغط ارتفاع معدلات ذلك التضخم التي ستنتج عن اثار ارتفاع اسعار الوقود وهو امر بديهي وهذا ما سيتم توضحيه لاحقا.

اشكاليات ارتفاع المحروقات

الإشكالية الاولى

في ظل عدم وجود شبكة نقل عامة وبنية تحتية تستوعب انشاء اي شبكة في المدى القريب ماهي اليات السلطات لتوفير بديل حقيقي للسيارات الخاصة ووسائل المواصلات المتهالكة مثل الافيكو وسيارات الاجرة عندما ترتفع اسعار تعريفة النقل بها؟
هل تضمن السلطات تحقيق نوع من الاستقرار في اسعار المواصلات وتوفرها ؟
هل تضمن السلطات ايضا حماية المواطن وحماية صاحب السيارة الركوبة من الركود المتوقع في حركة المواصلات بسبب ارتفاع اسعارها ما يضطر المواطن البسيط الى التقليل من حركته وتنقلاته الى الحد الادنى وهو ما سينعكس على مداخيل اصحاب السيارات الاجرة والافيكو التي توفر دخلا الاف الاسر في ليبيا وكيف نضمن عدم دخولهم في دائرة المعدمين والمحتاجين عندما يقل الطلب على خدماتهم بسبب ارتفاع اسعارها؟
لا اعتقد ان اي مسؤول سيمتلك الشجاعة ليقول انه لديه اي تصور لاي سيناريو سيحصل بالخصوص والا كانوا قد استبقوا الاعلان عن رفع اسعار الوقود الاعلان عن خطة شاملة لتحقيق الاستقرار في هدا الجانب.
الإشكالية الاخرى اشكالية متلازمة ارتفاع اسعار الوقود وزيادة التضخم.
تثير هذه المسألة البديهية تساؤلا حول ماهية الادوات الممكن توافرها لدى السلطات الليبية في منع موجات تضخمية تنتج عن زيادة اسعار الوقود.؟
فارتفاع اسعار الوقود تترتب عنه موجة ارتفاعات متتالية في الاسعار فنقل المواد الغذائية يزيد من كلفتها واسعارها وارتفاع تكلفة الانتاج الزراعي سيؤدي الى ارتفاع اسعارها وبنفس الكيفية الانتاج الصناعي وحتى الخدمات ستزداد تكاليف تقديمها وصولا الى الخدمات الطبية والصحية التي ستتأثر ايضا .
وهنا نتساءل عن المبالغ التي سيتم تعويض الدعم بها هل ستقاوم هذا التضخم وتكون كافية أم انها ستتاءكل وتقل قيمتها وبالتالي سيخسر المواطن اسعار الوقود المناسبة ولن يربح اي قيمة من اموال الددعم جراء التضخم الذي سيحولها الى مجرد رقم لا فائدة منه.

الاشكالية الثانية

تتعلق بارتفاع اسعار اليد العاملة الاجنبية في ليبيا وما سينتج عليه من اثر على التنمية والبناء والاداء الاقتصادي.
العامل الاجنبي لن يتمكن من الاستفادة من اي تعويض مادي عن اسعار المحروقات وبالتالي سيزيد في رفع اجرته المرتفعة اصلا وبالتالي ستزداد كلفة عمالة البناء والتشييد والنظافة وغيرها وهو ما سينعكس على اداء الاقتصاد بشكل عام.
قد يكون هذا الامر ايجابي لان الكثير من الشباب سيتجه للعمل في تلك المهن ويتخلى عن كبرياءه ولكن مهما كان لن يستطيعوا تغطية النقص في دولة كبيرة وتحتاج الى اليد العاملة خاصة في ظل ظروف غياب هروب اليد العاملة بسبب الاوضاع الامنية.

الإشكالية الثالثة

تأثير الامر على رفع اسعار العملات الصعبة.
سيؤدي التضخم الى زيادة الاقبال على شراء المواطنين للعملات الصعبة وخاصة الدولار الامريكي للاحتفاظ بقيمة مدخراتهم ما سيؤدي الى ارتفاع سعر الدولار تحت وطأة اتجاه المواطنين لشراءه بالصكوك المصدقة مايؤدي الى ارتفاع كبير وبسرعة قد تصل قيمة الدولار الامريكي الى 20 دينارا في امد قريب بعد اقرار الرفع.

الاشكالية الرابعة

الكلفة الاجتماعية والامنية والبيئية
سيؤدي رفع الدعم الى الاتي:
*ارتفاع معدلات الجريمة في ظل الخلل الامني الموجود.
*زيادة ارتفاع معدلات العنوسة والطلاق والمشكلات الاجتماعية نتيجة زيادة الضغوطات الاقتصادية وارتفاع الاسعار والمواد الغذائية ومواد البناء وتكلفة البناء والتشييد مع عدم وجود التمويل البنكي الحكومي او الخاص لمشاريع البناء في شكل اقراض عقاري.
*زيادة في معدلات الهجرة من القرى والارياف باتجاه المدن بحثا عن مصادر رزق جديدة وخاصة من تلك المدن والقرى الحدودية التي يعيش اغلب سكانها على التهريب مايؤدي الى اختلالات ديموغرافية في ظل وجود مخططات دولية لاحلال العنصر الليبي بالعناصر الافريقية وغيرها وخاصة في الجنوب الليبي.

*سيتجه المواطنين الى ايجاد بديل للتدفئة في الشتاء خاصة مع انقطاع الكهرباء وبشكل اكبر في الارياف وهو الفحم النباتي ماسيؤدي الى اقتلاع المزيد من الاشجار والغابات لاستخدام الخشب في انتاج الفحم وهو مايندر بكارثة بيئية.
إن كل ماسلف ذكره سيعني انهاء اخر مظاهر الدولة ووجودها في ليبيا فالمواطن الليبي برفع الدعم عن المحروقات سيكون مسؤولا مسؤولية تامة عن نفسه في توفير كل شئ ولا وجود لاي دور للدولة يذكر سوى منح مرتبات يمتصها بالنهاية حيتان السوق وهذا ما يعني ان المواطن اصبح مكشوفا دون اي حماية ما يؤدي بالنهاية الى انفجار عام قد يؤدي الى حرب اهلية ولكن لاجل الخبز هذه المرة.

 من العدل إذا ارادت السلطات الليبية أن ترفع الدعم عن المحروقات أن تقوم بحزمة الإجراءات التالية:

أولا: تطبيق برامج للرعاية الصحية وفقا لنظام التأمين الصحي لكل فئات المجتمع حتى العاطل منها عن العمل.
ثانيا: اتخاذ اجراءات قوية ورادعة للحفاظ على الاسعار والحيلولة دون ارتفاعها بشكل يؤدي الى تدمير اغلبية الشعب وتحويلهم الى بؤساء في بلاد تنعم بالخيرات.

ثالثا: تطبيق برامج ضريبية فعالة وقوية لتمويل الخزانة العامة للدولة وتكون تلك الضرائب تصاعدية لتستهدف الاكثر ثراء وتكون ضرائب متنوعة على الدخل والعقارات .
رابعا: اطلاق برامج تمويلية من البنوك التجارية لتمويل شراء العقارات واطلاق المشروعات الصغرى والمتوسطة تستهدف محدودي الدخل والشباب الباحثين عن العمل.

خامسا: اقرار قانون عاجل لمكافحة الاحتكار .
سادسا: تعديل القوانين التي تمنع الموظفين من اطلاق مشروعات تجارية صغرى والتي تشترط التخلي عن الوظيفة مقابل التراخيص التجارية للمحلات والمصانع الصغيرة.

سابعا: السماح للموظفين بالعمل في القطاع الخاص الى جانب وظائفهم بالقطاع العام لضمان تحقيقهم دخل مادي يمنحهم وعائلاتهم حياة كريمة.
ثامنا: اقرار قانون عمل موحد للقطاعين العام والخاص بحيث يحظى موظفوا القطاع الخاص بنفس الضمانات والحقوق والامتيازات والترقيات والاستقطاعات مع مراعاة الجانب التنافسي في القطاع الخاص بحيث لا يوضع حد اعلى للمرتبات والاجور ولكن يترك وفقا لبرنامج الكفاءاة والعطاء المهني.

تاسعا: إنشاء صندوق خاص تحول اليه قيمة المبالغ التي توقف عن دعم الوقود ( في حال اقرار سياسة عادلة لذلك الرفع طبعا ) ولا يمكن التصرف فيها الا في مجالات التنمية والاعمار وخلق فرص جديدة للشباب والاقتصاد ولا ننسى فئة المتقاعدين وذوي الاحتياجات الخاصة الذين يجب ان تنالهم رعاية الدولة التي خدموها سابقا وان تخصص نسبة من تلك المبالغ للرفع من مستوى الخدمات المقدمة لهم على شكل تأمين صحي وتوفير مواصلات رخيصة واي احتياجات اخرى.

الخلاصة

هذه محاولة او تصور اراه عادلا ويخدم الاغلبية المتضررة من سياسات فاشلة وانني ارى ان القاء اللوم على التهريب وحده في مشاكلنا الاقتصادية هو عملية ذر للرماد على العيون فالمشكلة هي مشكلة شاملة تبدأ من الاعتمادات الفاسدة الى الساسة الفاسدين الى رجل الامن الفاسد الى الموظف الفاسد ولا يجب القاء الكلفة على الانسان البسيط وحده فحتى في اوج عظمة النظام السابق كان التهريب يمارس ولو على نطاق ضيق .
الخلاصة ان دولة ضعيفة لا يمكن باي حال الا ان تتعرض لازمات ولكن ليس من المنطقي ان نتحمل نحن البسطاء تداعياتها لوحدنا.
نعم نحن في تحد حقيقي لمسألة جدلية اخذت جانبا من ميزانية الدولة وارهقتها ولكن لنفكر بعمق ولنعمل ببطء ولكن بخطوات جدية تراعي الجميع ولنكن حذرين فرفع الدعم عن المحروقات بدون سياسة ناجعة لخلق بديل عادل قد يكون بمثابة القضاء على اخر مظاهر وجود الدولة في ليبيا.

فيديو مقال اشكالية دعم المحروقات في ليبيا

أضف تعليقك هنا