قبل 122 سنة طالب الإمام محمد عبده بوضع مدونة للأحكام القضائية ..لماذا رفضته الحكومة المصرية ؟ 

كتب الأستاذ الإمام محمد عبده ـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن طاف على المحاكم الشرعية مفتشًا لها بإذن الحكومة عقب توليه إفتاء الديار المصرية ، تقريرًا ضافيًا في طريقة إصلاحها سنة 1317 و اقترح فيه عدم حصر القضاء في الحنفية توسعة على الأمة ، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما في الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية ، يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية . ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا للمصالح إلا إذا أُخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة ، ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى ؛ و مما جاء في التقرير :ـ

الأحكام

ما عليه العمل من أقوال العلماء في الأحكام الشرعية مذكور في الكتب مخلوطًا بالخلاف والبحث وطرق الترجيح ، ومن رفعت إليه واقعة شرعية قد يصعب عليه الحكم فيها إلا بعد مراجعته بعض المؤلفات الطويلة ، وربما احتاج إلى مراجعة عدة منها في أبواب مختلفة ، وكثير من القضاة لا طاقة لهم باستخراج الأحكام من هذه المطولات ، وفي الحق أن ذلك غير ميسور إلا لقليل ممن يصح توليته القضاء ، اللهم إلا بعد إصلاح طريقة تعليم الفقه في الجامع الأزهر وإعادتها إلى ما كان عليه السلف الصالح ، وذلك أمر بعيد المنال الآن . نعم يجب أن يكون القاضي مقتدرًا على البحث والمراجعة في المشكلات أما في كل حكم فذلك من العسر بمكان ، وقد كثر الخطأ في أحكام الأوقاف والطلاق والمهور والوصايا ونحو ذلك لهذا السبب . ثم إنه توجد شئون للمسلمين تقضي الضرورة بالنظر فيها وبيان الأحكام التي ترفع الضرر وتقرر العدل ولا تخالف الشرع ، بل هي من قوامه أليس من الواجب أن نفزع إلى الشريعة الإسلامية المطهرة ؛ لنجد فيها الوسيلة إلى وقاية الأعراض والأنفس ، مع أن المحافظة عليهما من أهم مقاصد الدين الإسلامي والشريعة السمحة ، ولا نعدم في نصوصها وسيلة إلى أهم ما جاءت له .

شفاء لعلل الأمة

كل ذلك يجب أن يوضع بين يدي لجنة من العلماء ليستخرجوا من الأحكام الشرعية ما فيه شفاء لعلل الأمة في جميع أبواب المعاملات خصوصًا ما لا يمكن النظر فيه لغير المحاكم الشرعية من الأحوال الشخصية والأوقاف ويكون ما يستخرجونه كتابًا شاملاً لكل ما تمس إليه الحاجة في تلك الأبواب ويضم إلى ما يستخلص في أبواب المرافعات الشرعية ، ويصدر الأمر بأن يكون عمل القضاة عليه ، فإذا أغمض عليهم أمر راجعوا فيه من يكون في وظيفة إفتاء الحقانية أو الديار المصرية ، وعليه أن ينظر فيه بنفسه أو مع لجنة العلماء على حسب الحاجة .

لماذا لم يُقبل اقتراح الإمام ؟!

و كتب الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار بعد وفاة الإمام ـ رحمه الله ـ : ليعلم القارئ أن هذا الاقتراح لم يُقبل ولم تعمل به الحكومة المصرية على شدة الحاجة إليه ، لا لإقامة العدل فقط بل لحفظ الدين أيضًا ، وكان من سبب ذلك جمود قاضي مصر الذي يجيء من الآستانة وتعصبه ، وجمود سائر القضاة والعلماء وعدم اهتمامهم ، ولو أنهم اجتمعوا وألفوا الكتاب الذي اقترحه الأستاذ الإمام وطالبوا الحكومة بتنفيذه لفعلت . فهذا الجمود والإهمال من العلماء قد كان أكبر أسباب اقتباس الحكومتين العثمانية والمصرية للقوانين الأوربية ، واتسع التشريع الأوربي بمصر أكثر من الآستانة ؛ لأن نفوذ العلماء فيها أضعف ، وعنايتهم بشئون الحكومة أقل .

لماذا ننفر الناس في الشرع ؟!

ومما جُعل عقبة في طريق تنفيذ اقتراح المفتي زعمهم أن الحكم لا يجوز أو لا ينفذ إلا بمذهب السلطان مع أن السلطان أمر قضاة البلاد العثمانية بإنابة من يحكم بغير مذهبه عند الحاجة وتنفيذ ما يحكمون به ، وإنني عند طبع التقرير سنة 1317 ونشره كتبت له مقدمة بحثت فيها في هذه المسألة بحثًا فقهيًّا أزلت فيها الشبهة ، ومهدت السبيل للعمل بالحنيفية السمحة ، فإلى متى هذا التواني والإهمال الذي ينفر الناس من الشرع ؛ لظنهم أنه هو علة التضييق عليهم ويسيء ظنهم بالحكومة والمسيطرين عليها ؟ لو ألف علماء الأزهر اللجنة التي اقترحها الأستاذ الإمام ووضعت الكتاب الذي أشار به ، وطلبت الحكومة المصرية من شيخ الإسلام في الآستانة الفتوى بالعمل ، ثم أذن السلطان الذي يعبر عنه بالإرادة السلطانية – لكان هذا أرجى ما يرجى .

فيديو مقال قبل 122 سنة طالب الإمام محمد عبده بوضع مدونة للأحكام القضائية ..لماذا رفضته الحكومة المصرية ؟ 

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان