قدري أترفض تحقيق حلمي؟

 

لطالما فكرت في كتابة هذه الأسطر فربما أخفف عن تلك البريئة الصغيرة التي بداخلي جراء خيبات الأمل المتتالية التي تضربها عواصف الرفض سنويا، وكأنني جزيرة وحيدة يحيط بها المحيط من كل جانب، ويخيفها هول وغضب الطبيعة.

البداية

أعود بكم إلى سنوات الصغر بالضبط عام 1996م ( 5 سنوات ) أين اكتشفت بأن إخوتي يذهبون الى المدرسة، كنت ابكي يوميا من اجل مرافقتهم لأكتشف هذا المكان الذي يذهبون إليه، و أنا بسن لا يسمح لي بالخروج الى الشارع الى بمرافقة شخص اكبر مني. وللتخفيف من ألمي البريء كانت أمي تناديني بالدكتورة العظيمة ثم تبعها أبي وصار لقبي المفضل، وانتقل الخبر لبيت جدي وصار الجميع يلقبني بالدكتورة العظيمة، غير أن هذه الفرحة رافقها مرض الربو لدي، وكنت دائمة التردد على المستشفى، حيث تعلقت بمهنة الطبيب الذي كان مسؤولا عن حالتي وربطت في عقلي بين مهنة الطب والدكتوراه، وصار كل آمالي هو انتظار دخولي سن الست سنوات لأدخل المدرسة الابتدائية وأحقق حلمي البريء.

الوهم في الحلم

شاءت الأقدار أن ألتحق بصف الأول إبتدائي للعام الدراسي 1997/1998…تهيأت لهذا اليوم و كأنه فرحة العمر، أتذكر جيدا فستاني الأزرق المطرز بورود بيضاء بلون أزرق فاتح، وربطة شعر خيالية، وبطاقة معلقة على يميني تحمل إسمي ولقبي و تاريخ ميلادي.

اصطحبني أبي صباح يوم المدرسة إلى فناء خارجي لها لأجد الكثير من بني جيلي مهيأؤون للإلتحاق بالمدرسة مثلي، وكنت أتسائل: هل هؤلاء كلهم سيصبحون دكاترة مثلي؟ ….ما هي إلا لحظات حتى سمعت اسمي يردد من قبل المدير ويطلب مني الإلتحاق بساحة المدرسة الداخلية، هرولت مسرعة لأكتشف عالما جديدا اسمه المدرسة وذلك بعد أن سلمت على أبي، لأجد معلمة أخذتني إلى الصف وربما كنت آخر واحدة التحقت بذلك الصف.

الصدمة

دخلت قسما متواضعا به طاولات وكراسي، وسبورة خضراء اللون، ومكتب المعلمة، وخلفنا خزانتين كبيرتين، هذا ما رأيته في بادئ الأمر… ( غير أن الحقيقة البائسة التي اكتشفتها لاحقا أنني عشت وهما طاردني كل حياتي..وتلك الصغيرة لم تكبر في داخلي، لازلت أسمع صوتها وأنينها، لا أدري لماذا تصر كل هذا الإصرار على تحقيق وهم بائس )….أجلستني المعلمة في الصف الثاني في المقعد الرابع بالضبط، لم أكن طفلة عادية مثل الأطفال، لم أتحرك ولم أصدر أية حركة مخالفة في القسم، كنت جالسة وكأنني أنتظر أمرا جلل، بعد مرور وقت من الزمن وحان وقت العودة، جاءت أمي لتأخذني إلى المنزل، نادتها معلمتي إلى القسم، حتى تتأكد من حالتي النفسية، فقد كانت تراقبني المعلمة بحذر…عندما رأيت أمي أمام باب القسم أقسم لكم أنني شعرت بأول اختناق في حياة طفلة لا تعرف عن الدنيا شيئا…اغرورقت عيناي بالدموع…علمت أن حلمي لن يتحقق…صرخت بأعلى صوتي: لماذا أتيتي يا أمي؟ لم يحن الوقت بعد؟ لم تعطني المعلمة شهادة الدكتوراه ؟ كيف سأذهب للمستشفى في المساء لأعالج المرضى؟ ..سكت الجميع ونظرت أمي إلي وكانت ملامح وجهها تتظاهر بالفرح و الحزن في آن واحد…قالت لي: لازلت صغيرة على هذه الشهادة..أنت اليوم بدأتي أول خطوة إليها..ضحك الجميع حتى معلمتي…وانفجرت غاضبة بالبكاء…أتذكر يومها أنني رفضت العودة للمدرسة وبقيت مدة شهرين أرفض الذهاب وإن أخذوني بقوة أصرخ و أبكي طويلا في الصف.

الحقيقة البائسة

تقبلت تلك الحقيقة الكاذبة بأنني دكتورة ذات ستة سنوات، حتى أنني لم أقارن حجمي بحجم الدكتور، ظننت نفسي كبيرة حقا، لم أقارن نفسي يوما مع بني جيلي من حيث الشكل، كنت دائما كبيرة التفكير، لا أخفي عليكم أن ميولي تغير نحو مهنة الطب النبيلة، بعد أن كافحت كل ظروفي القاسية الإجتماعية والعائلية والصحية والمادية وغيرها لأصل إلى الجامعة، قررت الدخول إلى العالم الذي يحكم الطب والمستشفى بحد ذاته، وهو علوم التسيير، فعلت كل ما بوسعي لأحصل على معدل جيد يؤهلني لدخول مسابقة الدكتوراه، وهذا ما حصل، غير أنني وجدت الإدارة مريضة وفاسدة أيضا، وذهب حلمي مرة ثانية أدراج الرياح.

صدمة من نوع آخر

استجمعت قواي للسنة المقبلة، وحضرت قرابة 3 أشهر، لا أخفي عليكم أنني تنبأت بأسئلة المسابقة وكنت متيقنة من نجاحي بعد مشيئة الله طبعا، لأصدم بالحقيقة مرة ثالثة، راسبة مع أن الإجابات نفسها المقدمة لنا من طرف الأساتذة الذين درسوني….أتذكر حينها أنني رددت: خير خير إن شاء الله…بعدها قررت مواصلة الحرب على الرغم من خسارتي للمعارك كلها..بدأت بالدراسة عبر المنصات التعليمية وتطوير نفسي، لأجد إعلان عن المنحة التركية، حضرت جميع أوراقي وقررت المشاركة رغم رفض أهلي…انتظرت مرة أخرى على أمل أن ينصرني الله تعالى نصرا مبينا…من أوائل شهر مارس إلى يوم 19 أفريل وصلتني دعوة مقابلة، طرت فرحا وقلت في نفسي هانت يا صغيرتي سيتحقق ما تريدين…حملت نفسي وكل أوراقي وتوجهت إلى المقابلة، وأخبرتني اللجنة أنني أبليت بلاءا حسنا…بعد شهر..يصلني على الإيميل رسالة جميلة مفادها أنني رفضت من إدارة المنحة، كانت صدمة أخرى، ظننت أنها ستكون مكافأة لي جراء ما عانيته في بلدي من تهميش، غير أنني تلقيت صفعة أخرى لأتخلى عن هذا الوهم….إرتطمت بالأرض بشدة وسقطت بكل ضعف وقوة حيث أوشكت حبال طاقتي أن تنقطع…اليوم وبعد مرور 26 سنة قررت أن أترك هذا الحلم وأن أعيش حياتي مثل ما خط لها القدر…قررت إسكات تلك الفتاة التي تنتظر الدكتوراه مثل قطعة حلوى حتى لا أسمع صوتها مرة أخرى…لم يتعبني الفشل بقدر ما أتعبتني قيود القدر…كانت هذه مجرد فضفضة خواطر أتعبني بقائها في صدري.

فيديو مقال قدري أترفض تحقيق حلمي؟

https://youtu.be/7dh0FCJzo8s

أضف تعليقك هنا