ملامح من هويتنا الثقافية: مهنة “البراح” نمودجا

عرف المغرب مجموعة من العادات والتقاليد، حيث كانت تشكل جزءا من الموروث الثقافي عبر التاريخ، إلا أنها قد اندثرت، أو أنها في طور الانقراض في ظل ما تعيشه الإنسانية جمعاء من ثورة معلوماتية، من بينها ما يتعلق بمهن شعبية كانت أساسية في المجتمع المغربي، شخص لطالما كان ينتظره الناس بشغف في الأسواق وأمام المساجد وساحات المدينة ودروبها، وفي مختلف القرى والمداشر، إنه “البًراح” أو المنادي، الذي كانت لديه مقدمته الشهيرة “لا إله إلا الله لا تسمعو إلا خبار الخير”.

بدايات مهنة “البراح”

مهنة “البراح” لها جذور وتاريخ قديم، وكانت ذات شأن كبير في المجتمع المغربي، فحسب كتاب “معلمة المغرب”، فقد كان “البراح” عبر الزمن من المظاهر الحضارية التي شاعت في مختلف العصور، وكانت معروفة في حضارة الشرق وفي البلدان الأوربية. وقد رسخت في البلاد العربية في العصر الجاهلي، فلما جاء الاسلام أقر هذه الظاهرة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ المنادين لإعلان قضايا الوحي، واعتبر “البريح” فيما مضى من وسائل الإعلام المعتمدة إلى أوائل القرن الرابع عشر حيث بدأت وسائل الإعلام الحديثة تنتشر وتحل تدريجيا محل “البراح”.

 مهام البراح

كانت مهام البراح عديدة، ولعب دورا أساسيا في المغرب، فإلى جانب أنه كان وسيلة إعلام، ذكر في كتاب “معلمة المغرب” أنه كان يجوب الأزقة والأماكن العمومية ليعلن ما جد من الأحداث العامة منها والمحلية، وما يتخذه المخزن أو مجلس القبيلة أو الهيئة الحضرية من القرارات والمواقف، كما يعلن أحيانا عن حاجات الأسر والأفراد.

كما ذكر في مجلة “الثقافة الشعبية” البحرينية في عددها 15، في إسهام للكاتب المغربي محمد القاضي أن من المهام التي كان  “البراح ” يقوم بها في مدينة شفشاون، هو الإعلان عن بيع للعقارات (بيت-أرض فلاحية-غرفة أو أكثر في منزل ما-متاع للورثة)، كما أتمم حديثه عن وصف المهنة “إضافة إلى الإعلان عن الاحتفال بالأعياد الدينية ودعوة الناس إلى إقامة صلاة العيد بالمصلى في الموعد المحدد لها، وهو يجوب أحياء وأزقة المدينة، والإعلان عن موعد صلاة الاستسقاء أيام الجفاف، وعن مناسبة وطنية كزيارة ملك البلاد، أو إذاعة خبر ذي أهمية”.

مواصفات ومصادر “البراح”

لم تكن هذه المهنة لمن هب ودب، وكان يتم اختيار “البراح” بعناية، ويكون لديه مواصفات خاصة، فحسب كتاب “معلمة المغرب” يختار من لديه صوته جهوري وحسن الهندام ولبقا حسن التصرف.

أما بالنسبة لمصادر “البراح”، فقد كان يتلقى الأوامر من أصحاب القرار بما فيهم ممثلو المخزن من عمال وقواد وقضاة وأمناء وشيوخ وأعوان، وكذلك تشمل بعض الأعيان مثل شيوخ الزوايا والفقهاء بشأن استفحال بعض القضايا، وشملت مصادره أيضا رؤساء الجماعة لدى القبائل وشؤونها الداخلية، أو شخصا عاديا ممن ضاعت منه أشياء ثمينة، غير أن هذه المصادر تم تقنينها منذ عهد الحماية وأصبح المخزن يتحكم في الإعلان بفرض الرخص.

كما كان “البراح” نفسه مصدرا موثوقا به، حيث جاء في كتاب ” معلمة المغرب” أنه “كانت العادة أن يحضر العدول نداء البراح في الأمور المهمة مثل البيعة والقرارات المخزنية، ويسجلوا شهادة خاصة كوثيقة تثبت وقائع ذلك النداء وتاريخه، ونجد ضمن نماذج الوثائق التقليدية التي يستعملها الفقهاء عادة نموذج الإشهاد بالتبريح.”، ودليل هذا أن هناك شهادات عدلية تعود للقرن الثالث عشر تشهد بشيوع هذه الظاهرة، وتفيد أيضا بعد الروايات الشفوية أن “البراح” كان مصدرا لإنتاج كثير من النكت والأقصوصات المتداولة.

آخر البرّاحين

بدأت هذه المهنة بعد ظهور وسائل الإعلام الحديثة تزول مع الزمن، ووقف  كتاب “معلمة المغرب” على نماذج من متأخري البراحين، منهم القائد التهامي من مدينة سلا أحد قواد الرحا في الجيش العزيزي الذي توفي في أوائل الأربعينيات من هذا القرن، والثاني يدعى مبارك أبلخير من مدينة إنزكان، وكان قد توقف عن أداء هذه الحرفة في أوائل السبعينات، بعد أن أداها في فترة الحماية وفي عهد الاستقلال، وكان يضمن مورد عيشه من هذه المهنة حسب الكتاب.

ومن ثَم بدأت مؤشرات انقراض مهنة عمرت لسنين مضت، لدرجة أن ألفها الناس أمام حوانيت التجار والحرفيين في بعض المدن العتيقة، وتنضاف لقائمة المهن المهددة بالزوال، غير أن كتاب “معلمة المغرب” أشار إلى أن بعض المرافق الاجتماعية تحافظ عليها، حيث تنحصر مهامه في الإعلان عن بعض الممارسات الفلاحية في العالم القروي، وتشييع جنازة أحد أعيان المدينة أو مسنيها، ولهذا يجب للمغاربة أن يقفوا إجلالا واحتراما لأشخاص كانوا في يوم ما يختزلون تقاليد وأعراف الدولة المغربية.

فيديو مقال ملامح من هويتنا الثقافية: مهنة “البراح” نمودجا

أضف تعليقك هنا