أسرار وخفايا تصنيع السلاح غير التقليدي في العالم العربي ج(1)

تكاثر الحديث عن الأسلحة غير التقليدية (نووية وكيميائية وصواريخ) بعد خروج أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران، وكذا بعد القمة الأمريكية الكورية الشمالية ، وكان تساؤل الجميع عن العالم العربي التي تُعد دوله من أكبر مشترين السلاح في العالم رغم أنها من أفقر دول العالم! ، ولهذا أردت أن اُبين اليوم أن عرب الماضي كانوا يمتلكون مشاريعهم التي يسعون لتنفيذها ،واضعين الجسارة في خدمة الإرادة من أجل تحقيق هدفهم المنشود، ولكن عرب اليوم تواضعوا بأحلامهم قبل أن يخنعوا بإرادتهم ، ورضوا أن يتسكعوا على الأرصفة التاريخية ، ويلعبون دور الخادم المطيع للأجنبي ما دام ذلك سيجلب لهم الأمان ويُجلسهُم على كراسيهم هانئين البال مطمئنين الخاطر. سواء كانوا من سُكان المدن أو من سُكان القبائل ، ممن يلبسون العمائم أو الأعقلة أو البرانيط او حتى الكابات!

خطط مصرية لمواجهة التهديدات الإسرائلية

فى العصر الملكي أنشئت مصر أول مصانع للذخيرة في العالم العربي ، وبعد ثورة يوليو 1952 حدثت طفرة كبيرة في مجال إنتاج السلاح ثم حدثت نقلة نوعية كبيرة بعد حرب السويس 1956 ، وفى ذلك الوقت بدأت إسرائيل برنامج ضخم لتصنيع الصواريخ و الأسلحة النووية والكيماوية وحتى البيولوجية.

وتُسجل محاضر لجنة الأمن القومي في إسرائيل في جلسة حضرها “أرنست برجمان” رئيس لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية بتاريخ يناير 1957 قول “بن جوريون:

” إننى لا أعرف إلى أين يمكن أن نصل ببرنامجنا النووي ، ولكنى أتطلع إلى اليوم الذى تستطيع فيه إسرائيل أن تُرغم أعدائها على توقيع اتفاقية سلام على أساس الأوضاع القائمة على الأرض وقتها ، ثم لا يكون في مقدور هؤلاء الأعداء مناقشة شروط إسرائيل لأنهم يعرفون ما يمكن أن ينتظرهم”.

وبعد انتهاء معركة السويس 1956 في اجتماع لكبار المسئولين في الدولة في ذلك الوقت قال جمال عبد الناصر:

“هناك مجالات لابد وأن ندخُل إليها : إسرائيل تفكر ذرياً ولا بد نحن الآخرين أن نفكر مثلهم طلبت حصراً لكل خبرائنا في الطبيعة النووية وعرفت أن بينهم عالماً كبيراً بينهم لديه كل المؤهلات ونحن نحتاج إلى مفاعل نووي ولابد وأن نحصل عليه.لا بد وأن نتمكن من صُنع سلاحنا بما فيه الطائرات عندنا مصانع سلاح على نطاق محدود وقد وضعنا برنامج لبناء صناعة سلاح. الطائرات قضية أكثر تعقيداً ولابد وأن نتعاون فيها مع أحد أفكر في الهند أو يوغوسلافيا”.

وأضاف عبد الناصر:

أيضاً هناك الصواريخ ،و هناك علماء ألمان يتخطفهم العالم بما فيه الولايات المتحدة وقد حاول بعضهم جس النبض معنا وقد قلت إننا نرحب هناك واحد بالذات اتصل بنا ويظهر أنه شارك بشكل كبير في صنع صاروخ (F2) وقد وافقت على قدومه إلى هنا. ليست المسألة هي أن نتمكن من صنع الصواريخ أو الطائرات المهم أن هذه المجالات هي تكنولوجيا المستقبل ولابد أن نُتيح للمصريين التعرف عليها والتخصص فيها وهذا عندي أهم من سرعة إنتاج الطائرات أو الصواريخ.

ويستطرد عبد الناصر:

هناك أيضاً مسألة الأسلحة الكيماوية وأنا أعرف أنها ممنوعة ولكننا لابد وأن نملك سلاحاً رادعاً إذا سبقتنا إسرائيل في مجال الذرة يقولون إن الأسلحة الكيماوية هي ” السلاح النووي للفقراء ” وأظن أن القول صحيح.

واتخذت مصر قراراً استراتيجياً سنة 1957 بألا تتخلف في هذه المجالات وإنما عليها أن تختار ما يناسبها من تلك المجالات مما يمكنها من تحقيق نوع من التوازن في وسائل العمل العسكري المحتملة .

ودخلت مصر برنامج لإنتاج الطائرات ومنها (القاهرة 100) و ( القاهرة 200) و (القاهرة 300) وكان المشروع مشتركاً مع الهند، فقد كانت مصر أكثر تقدماً في مجال صنع المحركات النفاثة ، وكانت الهند أكثر تقدم في مجال بناء هياكل الطائرات، ووصل هيكل طائرة من الهند ووضع فيه محرك مصري وقام طيار التجارب الهندي الشهير (شابرا) بتجربة الطائرة الجديدة (محرك مصري وهيكل هندي) ، وكانت التجربة نجاحاً كاملاً، ونزل الطيار الهندي مندفعاً باتجاه السفير الهندي في القاهرة الذى كان حاضراً التجربة وقال له: “مُدهش ..لم أكن لأصدق لو لم أكن بنفسي الذى أختبر الطائرة).

وحدث نفس الشيء تماما في مجال الصواريخ فتم إنتاج طراز (القاهر) و (الظافر) ثم ظهر الصاروخ من طراز (الرائد) الذي كان يبلغ طوله مائتي كيلو متر . وإن كانت ظلت العُقدة في أجهزة توجيه الصواريخ ، وزادت العقدة بعد رحيل العلماء الألمان بعد حملة الإرهاب الإسرائيلية ضدهم.

وفى نفس الوقت راحت مصر تحاول في المجال النووي ، كانت السياسة المصرية منذ سنة 1957 تركز بالدرجة الأولى على إعداد كوادر العلماء والفنيين ، وهم الأساس في اقامة أي مشروع نووي. وكانت بعض المؤسسات الصناعية الكبرى في مصر قد بدأت بالفعل في الاستعداد لعمليات تتصل بالمشروع (شركة “كيما” في أسوان لمعالجة اليورانيوم و لإنتاج الماء الثقيل ، وشركة “المطروقات” في حلوان لأعمال المعادن والسباكة). كما تم التعاون فى ذلك المجال مع الصين سنة1965 باتفاق خاص بين “عبد الناصر” و”شوين لاى”.

وكان مفاعل “أنشاص” الصغير قد أدى دوره وزيادة. وفى 17 يناير 1965 كتبت السفارة الأمريكية في القاهرة لوزارة الخارجية ولوزارة الدفاع ولوكالة المخابرات المركزية ولهيئة أركان الحرب ولقيادة الأسطول الأمريكي في البحر البيض برقية عاجلة جاء فيها:” مصر تستعد لبناء مفاعل نووي بقوة (150 ميغاوات) في منطقة برج العرب غرب الإسكندرية. إن حجم المفاعل يجعله قادراً على انتاج رؤوس حربية”.

وأما في مجال الأسلحة الكيماوية فقد كانت مصر هي أول من بدأت أيضاً وكان مجال الأسلحة الكيماوية من أصعب المجالات في ذلك الوقت ذلك لأن الأبحاث العلمية بشأنها توقف نشرها منذ 1914 على الرغم من تواصل البحث إلا أن النشر كان محظوراً وكانت إسرائيل في وضع يسمح لها الوصول للمحظورات وهكذا كان على مصر الناصرية أن تبدأ من البداية وأُسندت إدارة المشروع سنة 1957 إلى خبير كيمائي من أبرز الخبراء المصريين. وكان تقديره أن التمهيد الصحيح للمشروع يكمن في عنصرين :

  1. هو إعداد العلماء والخبراء الذين يحملون مسئولية المشروع .
  2. هو إعداد مكتبة خاصة تتجمع فيها كل المواد العلمية المتاحة التي يُمكن الحصول عليها.

وفى سنة 1960 كانت المرحلة التمهيدية قد انتهت وأصبحت المرحلة التنفيذية قابلة للتحقيق ودارت في أوساط صنع القرار الاستراتيجي المصري مناقشة عميقة ومكتومة بين رافض للبدء في المشروع ومتحمس له فوراً. وكان قرار الزعيم جمال عبد الناصر الموافقة على البدء في التنفيذ قائلا : “أنه مادامت إسرائيل تنتج هذا النوع من الأسلحة فليس هناك سبيل غير أن تلحق بها مصر فوراً” .

وعندما جاءت معركة 1967 كان المشروع المصري قد حقق تقدماً كبيراً في إنتاج نوعين من الأسلحة الكيماوية : نوع يعتمد على غاز (الخردل) و هو (كاو ) ونوع أخر يعتمد على غاز (الفوسيجين) وتأثيره يتركز على (الجهاز العصبي) ولم تُستعمل الغازات في معركة 1967.ووفق محضر اجتماع عقد بين مصر والجزائر في القاهرة في 10/7/1967 قال الرئيس عبد الناصر للرئيس الجزائري هوارى بومدين في الصفحة (15):

“في النهاية وجدت أمامي كارثة كان يجب أن أوقفها ولذلك كان قبولي بوقف إطلاق النار ولم أفكر لحظة في استعمال أسلحة غير تقليدية كالصواريخ أو الغازات لأنه لم يكن لاستعمالها من نتيجة سوى أننى (أزيد) الاستفزاز وأعرض مرافقنا المائية والصناعية لضربات انتقامية عقابية والغازات كانت ستثير علينا الدنيا دون فائدة لأن الفرصة راحت إلا إذا كنا نُريد مجرد الانتقام وفش الغليل”.

إلا أنه رُوئي أن الحاجة قد تدعوا إلى استعمال الغازات في مرحلة إزالة العدوان وبالفعل فإن الفترة الثانية من معركة 1967 شهدت خطوات كبيرة في مجال الأسلحة الكيميائية فقد أمكن تطويع موادها لتُستعمل بواسطة الصواريخ كذلك أمكن التوصل إلى غاز (السارين المزدوج) .

وأثناء الإعداد للخطة (جرانيت1) التي بدأ وضعها في 1969 لعبور قناة السويس كانت احتمالات الخطة تشتمل على امكانية استخدام الأسلحة الكيماوية للتغلب على مقاومة النقاط الإسرائيلية على الشاطئ الشرقي للقناة وكانت خطة العمل على الجبهة الشرقية وسوريا مشاركة فيها قد أخذت في اعتبارها احتمال الاحتياج إلى أسلحة كيماوية في المعركة من أجل مرتفعات الجولان.

وفى ذلك الوقت ذهب مسئول المشروع الكيماوي المصري إلى سوريا وقابل الرئيس السوري (حافظ الأسد) وهو وقتها وزير الدفاع أيضاً وبالفعل اشترى الجيش السوري ما قيمته 6 ملايين دولار من أسلحة الحرب الكيماوية من المصانع المصرية.

وعندما وقعت حرب أكتوبر 1973 كان القرار السياسي هو تأجيل استعمال الأسلحة الكيماوية رغم أن أقنعة واقية وزعت على الوحدات العسكرية المصرية. وعندما وقعت الثغرة وبدأ الاختراق الإسرائيلي المضاد يتوسع اقترح بعض القادة المصريين أن الوقت قد حان لاستخدام الأسلحة الكيماوية ولكن الرئيس (السادات) أعطى أمراً في كلمتين : (لا تصعيد جديد) وكان قراره حكيماً.

وكانت تجربة أسلحة الحرب البيولوجية في مصر قضية أقصر عُمراً بكثير فقد بدأ الإهتمام بها في نفس الوقت مع الأسلحة الكيماوية ورُئى أن كل الأبحاث المتعلقة بها يجب أن تتم في عُزلة كاملة عن التجمعات السكنية و بالفعل خُصصت لها جزيرة صغيرة في البحر الأحمر أمام رأس بناس وشُحنَ إلى هذه الجزيرة قطيع من القرود جرى استيراده من الهند لإجراء التجارب عليه وبدأت بالفعل تجارب لتربية ميكروبات يمكن تعبئتها في قنابل ومع ذلك فإنه برغم النجاح الذي حققه المشروع في مراحله الأولى فأن جمال عبد الناصر طلب إيقاف المشروع بالكامل لأن مخاطره كبيرة فالميكروبات لها حياة طبيعية في حد ذاتها وقد تنتشر بالعدوى بغير وسيلة القنابل كما إن أي أسلحة يمكن متابعتها بالنظر وأما الميكروبات فإن متابعة حركتها وتسربها قد يكون صعبا مهما أحكمت الرقابة.

 

رسائل تهديد أمريكية للزعامة المصرية

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تُتابع ما يجرى فى القاهرة ، ومع مجيء الرئيس الأمريكي جون كنيدي وخلال تعرفه على مفاتيح السياسة الخارجية من إدارة سلفه ، جلس كنيدي مع مدير وكالة المخابرات المركزية الآن دالاس الذى عرض عليه أهم البؤر الساخنة وفقا لتقدير وكالته ، وكان أهم ما قاله دالاس لكنيدي عن الشرق الأوسط ” إن السلام في المنطقة أثبت أنه مراوغ ، فالعرب ليسوا مستعدين له إلا بثمن تراه إسرائيل فادحاً ، كما أن إسرائيل لم تستكمل خريطتها المأمولة بعد  ولهذا فإن الحرب في المنطقة متوقعة بأكثر من توقع السلام”

ثم شرح دالاس: خلفية حصول إسرائيل على المفاعل النووي الذى تبلغ قوته (24 ميغاوات) ، وكيف أن الحكومة الفرنسية قررت أن تُعطى لإسرائيل “عنصر الأمن النهائي” متمثلاً في سلاح نووي تنتجه ويكون رادعاً لأعدائها عن التفكير في أي تهديد لأمنها. وأضاف دالاس:

“إن ما يخشاه أن المنطقة على وشك أن تشهد سباقاً نووياً يُهددها ، ومعلوماتنا أن مصر هي الأخرى لديها برنامج نووي ، وأنها تحاول في هذا المجال رغم أن إسرائيل سبقتها بمرحلة كبيرة بمفاعل ديمونة (24 ميغاوات) ، في حين أن مصر لا تملك في الوقت الراهن إلا مفاعلا واحد بقوة (2ميغاوات) ، لكنها فيما تقول به معلوماتنا تتفاوض مع السوفيت للحصول على مفاعل أكبر”.

وعندما قُتل كنيدي وخلفه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون طلب من السفير الأمريكي في القاهرة (باتل) أن يحذر الحكومة المصرية قائلاً بالحرف:

” عليك أن تُحذر الحكومة المصرية من التوسع في برنامج الصواريخ الذى يدفع بسباق السلاح في المنطقة إلى درجة خطيرة من التصعيد. ولا بُد لك أن تلاحظ أن هناك خيطاً دقيقاً أن يفهم ناصر منك خطورة طبيعة التصعيد ويقدر نتائجه ، وبين أن تُعطيه الانطباع بأن إسرائيل توشك أن تصبح قوة نووية بمعرفتنا وقبولنا الضمني.”

وعندما لم يُحدث التحذير أثره ، جاء الدور على التهديد المكشوف ، فقد أرسل الرئيس الأمريكي جونسون رسالة إلى جمال عبد الناصر وكانت الرسالة متجاوزة كل الحدود.

وكان تعليق عبد الناصر بعد أن قرأ الرسالة للسفير الأمريكي:

“إننى لا أقبل ما جاء بالرسالة ، كما قرأتها في نصها ، كما أننى لست مستعداً لإعطاء رد سريع بوجهة نظري ، ولأن رسالة جونسون حوت موضوعات بالغة الأهمية ، وبعضها صيغ بعبارات تفوح منها رائحة التهديد ، فإنني اؤثر أن أدرسها بعناية مع زملائي ثم احدد موعداً آخر لك أسلمك الرد”.

و أضاف ناصر:

“لقد كنت أشعُر على نحو ما بأن العلاقات بيننا تدخل إلى مرحلة صعبة ، وأن هناك ما لا نستطيع تعليله بسهولة من مواقف واشنطن ، لكنى أرى أمامي الأن أسلوباً لا أستطيع قبوله”.

وحاول السفير أن يوضح: “أنه يخشى أن يكون الرئيس قد فهم من بعض سطور الرسالة أكثر مما هو مقصود بها”. وسأله جمال عبد الناصر: “أليس هذا هو النص الذى جاءك من واشنطن؟”. ورد السفير: “بأن هذا النص جاءه من مكتب مستشار الأمن القومي للرئيس”. وقال عبد الناصر: “إذن فإن المسألة لا تحتمل لاجتهادات في التفسير”.

وبعد ثلاثة أيام اتصل السفير الأمريكي (باتل) برئاسة الجمهورية يرجوا أن لا تتسرع مصر في الرد على رسالة جونسون ، لأن الرئيس الأمريكي قرر إيفاد مندوب خاص يمثله في لقاء مباشر مع الرئيس ناصر ، وأن هذا المبعوث هو المستر “تالبوت” مساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط . وعندما جاء تالبوت تحدث فى موضوعات عديدة أهمها:

  1. جهود مصر الكبيرة في الأسلحة غير التقليدية مثل الصواريخ. وقد طلب تالبوت إيقاف ذلك البرنامج بحجة ان ذلك سيدفع إسرائيل لاتخاذ خطوات مضادة.
  2. اتجاه مصر إلى استكشاف إمكانيات القوة النووية. وقد طلب تالبوت من عبد الناصر بالسماح للولايات المتحدة بالتفتيش على المفاعل المصري.  وقد رفض عبد الناصر الطلبين.

وطبقاً لوثيقة أمريكية بتاريخ 9 يوليو 1963 تحت رقم ( 4445 – 138) فان وزير الخارجية الأمريكية ” دين راسك ” كتب إلى السفير الأمريكي برقية كان نصها كما يالى :

“إلى السفير: مع أننا لا نتوقع أن يظهر أي شيء جديد بشأن الصواريخ المصرية في الاستعراض العسكري السنوي الذي يقام يوم 23 يوليو فإنك وأعضاء سفارتك عليكم وبأسرع ما يمكن موافتنا بأي شيء تلاحظونه أثناء العرض ويكون من شأنه أن يعكس تقدماً أو تغييراً في تطوير الصواريخ إن هذا الموضوع مهم وهو مُثار في اتصالاتنا مع الإسرائيليين”.

وكانت أمريكا تواصل الضغط على مصر الناصرية لوقف برامجها التسليحية الغير تقليدية والتقليدية إن أمكن ، ووصل الضغط الأمريكي على مصر إلى حد وقف شحنات القمح الأمريكي لمصر.

 

خلافات و تهديدات وإغتيالات ورسائل مفخخة إسرائلية

ولم تكن إسرائيل هي الأخرى غافلة ولا صامتة فقد انهمكت في حملة من نشاط مخابرات يستهدف العُلماء الألمان الذين استعانت مصر ببعضهم لدعم برامجها في صنع السلاح غير التقليدي ، وهكذا فإن هؤلاء العلماء تعرضوا لحملات من القتل والتشهير والمطاردة وكان المشرف على هذه الحملات هو “إيسر هاريل” (مدير الموساد).

وتشير الوثائق الإسرائيلية إلى أن خلافاً وقع بين مدير المخابرات الإسرائيلية العامة (الموساد) “إيسر هاريل” وبين مدير المخابرات العسكرية (آمان) “مائير آميت” موضوعه كما يلى:

مدير الموساد يرى أن برنامج التسليح المصري يدخل إلى مناطق أصبحت خطراً على إسرائيل،ومنطقه:

أن مصر عرفت بأمر مفاعل إسرائيل النووي ، وبادرت تستعد مُدركة أن إسرائيل بهذا المفاعل الكبير سوف تسبق إلى صنع القنبلة ، ولهذا فإن القيادة المصرية من باب التعويض وحتى تتمكن من سد الفجوة التي يصنعها السبق النووي الإسرائيلي تركز الأن على نوعين من السلاح:

  • السلاح الكيماوي (غاز السارين أو القنبلة النووية للفقراء، كما سُمى السلاح الكيماوي وقتها).
  • والسلاح الجرثومي (ابتداء من جراثيم الحمى الصفراء إلى الطاعون).
  • ومع أن إسرائيل لديها ما يكفى من هذين السلاحين الكيماوي والجرثومي فإن توصل مصر إلى هذه الأنواع من الأسلحة ، والتوسع في انتاجهما له على إسرائيل مخاطر هائلة بسبب رقعتها المحصورة وتكدس الجزء الكبر من سكانها داخل مثلث (القدس- تل أبيب – حيفا).
  • وبالنظر إلى ما حققته مصر وفاجأت به العالم وإسرائيل معه في يوليو 1962 من اطلاق صواريخ متوسطة المدى تطول كل إسرائيل ،فإن تقديرات الموساد أن الأسلحة الكيماوية والجرثومية وفى حال اكتملت الصواريخ المصرية يمكن أن تكون رادعاً حقيقياً يُعطل استعمال القنبلة النووية الإسرائيلية التي يجرى صنعها في ذلك الوقت وهى فى قلب المفاعل سراً لن تظهر أثاره قبل منتصف 1967 .
  • وعلى الرغم من أن مدير الموساد يُسلم بأن الصواريخ المصرية كانت تُعانى من مشكلة لم يتيسر حلها وهى مشكلة (أجهزة التوجيه) لكن مشروع الصواريخ كله ، واشراف العالم الألماني الدكتور “بيلز” عليه كان مرفوضاً من إسرائيل جملةً و تفصيلاً . لكن الأهم كما تقول الوثائق الإسرائيلية أن الصواريخ الإسرائيلية ذاتها كانت لديها هي الأخرى مشكلة في أجهزة التوجيه!

واستناداً إلى ذلك فإن إسرائيل ، كذلك رأى مدير الموساد لابد أن تشن حملة (قتل) ضد العلماء االألمان العاملين في مصر ، وإذا أدى ذلك إلى مشاكل مع الحكومة الألمانية ، وخصوصاً أن بعض هذه العمليات ضد العُلماء الألمان سوف يتم في المانيا (أثناء وجودهم هناك لمهمات أو إجازات) فإن حكومة إسرائيل يجب أن تكون حازمة وأن تُذكر الحكومة الألمانية إذا “فتحت فمها” بالماضي الأسود للدولة وللشعب في المانيا تجاه اليهود في التاريخ البعيد والقريب!

أما مدير (أمان) المخابرات العسكرية الجنرال “مائير آميت” فقد كان له منظور آخر:

فهو لا يقلل من خطر ما تصنعه مصر لكنه يراه خطراً مؤجلاً لأن تحقيق المشروعات المصرية سوف يستغرق زمناً طويلاً.

  • ثم هو يرى أن الولايات المتحدة تشن حرب أعصاب قوية على مصر(تمثلت في تحذيرات من التوسع النووي ، ومن الأسلحة غير التقليدية عموماً ، وكلها تحذيرات تضمنتها رسائل لم تنقطع من الرئيسين كنيدي وجونسون للزعامة المصرية!).
  • وأخيراً فإن إسرائيل في غنى عن إغضاب المانيا في هذه الظروف ، وخصوصاً أنها قد حصلت على صفقة أسلحة هائلة منها استكمالاً للتعويضات الألمانية ، ساعد عليها أن (بون) ضاق صدرها بالسياسة المصرية التي اعترفت بألمانيا الشرقية ، وينبغي تشجيعها وليس احراجها!

وكان القرار على المستوى الاستراتيجي في إسرائيل حلاً وسطاً بين الجنرالين رئيس الموساد ورئيس آمان:

أي أن الحل كان ترك “إيسر هاريل” (مدير الموساد) يُمارس نشاطه في ارهاب العلماء الألمان متجنباً قدر المستطاع أن تتم عملياته في المانيا ، ومن ناحية أخرى و استجابة “لمائير آميت” فإن رئاسة الوزارة ووزارة الخارجية في إسرائيل عليها العمل على زيادة التقارب بكل الوسائل مع بون (عاصمة المانيا الغربية) حتى تظل شحنات السلاح الألماني متدفقة.

  • وكان هناك سبب آخر لإبقاء الأبواب مفتوحة مع بون فقد عرفت إسرائيل بأمر عقد توشك مصر على توقيعه مع شركة (سيمنس) الألمانية لشراء مفاعل نووي يوازى المفاعل الإسرائيلي في ديمونة ويتفوق عليه ويحل مفاعل أنشاص (الذى أدى دوره في تدريب واعداد كادر إنساني مصري قادر على تشغيل المفاعل النووي ، وقد كانت إسرائيل تخشى منه حجماً وكفاءة ، وكان لديها رصد دقيق لعدد من عناصره ، وخطط للخطف أو الاغتيال يجرى تحضيرها لبعضهم) ، وفى طلب ابقاء الأبواب في بون مفتوحة فإن إسرائيل كانت ترتب لحملة ضغط سياسي ، وإعلامي على المانيا الغربية يتصاعد ويؤدى إلى وقف عقد شركة (سيمنس).

ثم كان أن علمت المخابرات الإسرائيلية أنه بعد تخويف عدد من العلماء الألمان ، ودفعهم إلى السفر أو الهرب من مصر ، وعلى رأسهم الدكتور “ييلز” أن القاهرة بدأت في بحث معضلة أجهزة التوجيه مع الاتحاد السوفيتي ، وبالتحديد مع عناصر في وزارة الدفاع السوفيتية يشجعها المارشال “أندريه جريتشكو” وزير الدفاع ، والأميرال “جورشيكوف” قائد الأساطيل السوفيتية ، وكلاهما كان شديد الاهتمام والحرص على البحر الأبيض وموازين التواجد حوله.

وكان التخوف الإسرائيلي من أن المارشال والأميرال كليهما أو أحدهما قد يمارس ضغطاً أو يقوم على مسئوليته بمبادرة تؤدى في أي لحظة إلى حل معضلة جهاز التوجيه في الصواريخ المصرية، ومن ثم تكتسب استراتيجية الردع المصرية مصداقية في اعتمادها على الأسلحة الكيماوية والجرثومية كموازن ومُعادل ولو مؤقت للقنبلة الذرية الإسرائيلية. وكان ذلك أحد العناصر التي قادت إلى حرب يونيو1967.

ما الذى تغير؟ نصائح كيسنجر للسادات

وحينما توفى عبد الناصر وجاء السادات برؤية واتجاه مختلف ،وبعد مقابلة السادات لهنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر 1973 قال هنري كيسنجر بعد مقابلته الأولى للسادات في 1974:

إن «السادات» توصل إلى قناعات نهائية في قراءته لشكل المستقبل في مصر وهو مقتنع كل الاقتناع بموجباتها وقد طرح وجهة نظره فيها بطريقة قاطعة:

  1. إن المستقبل لأمريكا، وهو يريد أن تكون مصر في هذا المستقبل مع أمريكا وليس مع غيرها.
  2. إنه ترتيباً على ذلك فإنه سوف يتخذ في سياساته الدولية والعربية منهجاً يختلف عما جرت عليه السياسة المصرية من قبل.
  3. ثم إنه وبمقتضى اختياراته بعد حرب أكتوبر على استعداد من الآن للتحرك نحو سياساته الجديدة وحده، دون انتظار بقية العالم العربي، ثم إنه سوف يصطف مع الولايات المتحدة في مواجهة السوفييت.
  4. وهو بالتوازي مع ذلك يعتبر أن حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، هي آخر حروب مصر معها، وذلك سوف يجرى اعتماده وإعلانه تأكيدا نهائيا للسياسات الجديدة.

ويضيف كيسنجر في مذكراته:

أنه نصح السادات إلى طمأنة مؤسسة الأمن الإسرائيلي والأمريكي  بإيقاف كل مشروعات التسلح المصرية غير التقليدية (صواريخ ، كيماوي ، وبيولوجي ، ونووي) التى تُثير قلق أمريكا وتضج مضاجع إسرائيل، وهو بذلك يضرب عصفورين بقرار واحد (طمأنة مؤسسة الأمن الإسرائيلي ، والدخول إلى القلب الأمريكي!) ، كما قام بتغير اسم الجيش من وزارة الحربية لوزارة الدفاع ، وكذلك تغيير النشيد الوطني من “الله أكبر فوق كيد المعتدى” إلى “بلادي .. بلادي”.

وفى عام 1995 كانت مصر من الدول التي اعترضت على تجديد الموافقة على معاهدة منع الانتشار النووي دون مراجعة ، لأنه يقسم العالم إلى طبقتين: طبقة تملك التكنولوجيا والسلاح النووي ، وطبقة أخرى محرومة من الاثنين وعليه قامت مصر بإثارة الموضوع على نطاق واسع.

وأثيرت المشكلة في القاهرة مرة مع “شيمون بيريز” (وهو وزير الخارجية وقتها في حكومة اسحاق رابين) ، وكان رده: “إن مشكلة مصر في ذلك الأمر ليست مع إسرائيل ، ولكنها مع الولايات المتحدة”.

وفى زيارة للرئيس الأسبق “حسنى مبارك” لأمريكا قيل له ولمرافقيه من المسئولين الأمريكيين:

” إن مصر من حقها أن تُبدى ما تشاء من آراء ، لكنه ليس من حقها أن تدعوا الآخرين إلى مسايرة آرائها ومواقفها. وتجديد المعاهدة على أي حال لا يحتاج إلى توقيعات جديدة ، فإذا لم تعترض الأغلبية أو وافقت الأغلبية فإن المعاهدة سارية على كل هؤلاء الذين صدقوا عليها. وفى يد من يريد منهم الاعتراض ، حل واحد ، وهو أن يُعلن انسحابه من المعاهدة ، وعليه أن يتحمل النتائج”.

وكانت نماذج النتائج مرئية في الأفق. فالمشروع النووي العراقي “أوزيراك” ضربته إسرائيل سنة 1981 في وضح النهار ، والحملة على إيران تتزايد (وقتها) كل يوم لمجرد أن إيران اعادت إحياء المشروع النووي الذى بدأه شاه إيران.

وأخيراً لقد قبل العرب سياسيين وشيوخ وجنرالات أن يبتعدوا عن دور (البطولة) على مسرح التاريخ ،ولجئوا إلى تقمُص دور (المهرج)،ورحم الله شاعر العرب الذى قال: ”لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ولكنَّ أَحلام الرِّجالِ تَضيقُ”.


المراجع:

انفجار 67 – محمد حسنين هيكل

الوثائق الإسرائيلية – محمد حسنين هيكل

الخيار شمشون – سيمور هيرش

مذكرات هنري كيسنجر

لمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل 2،3 – محمد حسنين هيكل

حرب الخليج – أوهام القوة والنصر – محمد حسنين هيكل

أسرار مكشوفة-اسرائيل شاحاك

سياسة إسرائيل النووية – محمود محارب

فيديو مقال أسرار وخفايا تصنيع السلاح غير التقليدي في العالم العربي ج(1)

أضف تعليقك هنا

مجدي منصور

‎محامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة