الأرقام، عصيدة الديكتاتورية

الأرقام لا تصدق دائما

لغة الأرقام ليست بالضرورة هي الأصدق حتى وإن تحرت الدقة أحياناً، خصوصاً في مجتمعات الجهل والقهر التي تأبى الاعتراف بالحقائق، أو الانتهاء إلى تحليلات منطقية أمام رغبات ديكتاتورية تمارسها أنظمة الحكم الشمولية التي لا تهوى تداول السلطة. فكم من شعوب خدعتها أرقام وإحصاءات رسمية وسارت بها إلى الهاوية حتى أنها ضيعت عليها أي فرص ممكنة للتحسن. والتصريحات الرسمية غالباً ما تعبر فقط عن المزاج الرسمي لأنظمة الحكم والإدارة، وليس بالضرورة عن الواقع الفعلي كما تعيشه الشعوب بكل ما يحويه من تفاصيل متناقضة.

دأبت مؤخراً وسائل الإعلام والمؤسسات الاقتصادية الرسمية في دولتنا المنهكة على تبني حملات مكثفة تهدف إلى بث روح التفاؤل والثقة لدى المواطن العادي، هذا لمواكبة إجراءات الإصلاح الاقتصادي القاسية التي طالت كل فئات المجتمع إلا قليلاً، وكان من شأنها أن أحدثت شرخاً في جدار الأسرة المصرية، حتى أنه أصبح هناك فريقاً يؤمن بالفعل أن مصر دولة تجاوزت حاجز الثراء وهزمت الفقر نهائياً. حدث هذا بالفعل، حتى أن أحدهم وهو لواء سابق يعمل حالياً رئيسا لجمعية خيرية شهيرة قائمة على التبرعات، وقد غازل سيادته رئيس الدولة في أحد اللقاءات الفارهة قائلاً: “إن مصر بلد رخاء ليس بها فقراء”.

واقع الاقتصاد المصري

لا شك أن الاقتصاد المصري قد أحرز مؤخراً بعض المكاسب الرقمية، لكن بلغة الواقع على حساب من؟، وبكم من الضحايا؟ المؤشرات الرسمية تقول بأن الاحتياطي النقدي قد قفز إلى أكثر من 44 مليار دولار، وأن معدلات النمو قد ارتفعت بنسبة 5%، وتشير بورصة الأوراق المالية إلى زيادة طفيفة في نسب الاستثمارات الخارجية من واقع حركة تداول الأسهم اليومية، ومؤخراً أعلنت الحكومة عن تحقيق وفر ملحوظ في الموازنة. كل هذا يأتي بالطبع في إطار من المديح المشروط يطلقه بين الحين والآخر البنك الدولي وطابور الدائنين.

وهنا وجب التوقف أمام تلك الصورة المشوهة التي تريد سلطات الدولة فرضها على الشعب، ليصدقوها ويقبلوا بها صاغرين عن يد. وسؤالي الذي أحسبه مشروعا: هل التعافي المالي المؤقت المبني على سياسة الاستدانة يعكس بالفعل مكاسب اقتصادية حقيقية؟ الثابت أنه لا تعافي لأي قتصاد ريعي أو مستدين في دولة شرهة ستهلاكياً كدولتنا، دون وجود طفرة حقيقية في الإنتاج المحلي يقابلها تراجع ملموس في معدلات الاستيراد. وأيضاً دون إستغلال فعلي لكافة الطاقات المعطلة في الدولة شاملة الطاقة البشرية بجميع رتبها. لذا أحسب أن هناك حلقة مفقودة في تلك الإشكالية أخشى أنه يتم محاولة إخفائها عن عمد، ولا أود هنا الخوض في الأسباب، ولنترك هذا الأمر لمقام أخر.

وعود إثر وعود

الوعود المستمرة بتحسن مستوى المعيشة لم تتحقق أو حتى تقترب من الواقع، والدليل هو تلك الفجوة الهائلة التي حدث وأن اتسعت بفداحة مؤخراً بين الأجور والأسعار، فثبات أو شلل الأولى أمام تغيير تصاعدي مخيف للثانية أحدث صدمة مجتمعية للطبقة المتوسطة على اتساعها، هذا في غياب تام لأي رقابة حكومية تستطيع تحقيق ضبط فعلي لأسعار السلع الأساسية، وأتحدث هنا عن السلع الأساسية بغض النظر عن استمرار وقوع بعضها داخل دائرة الدعم.

وقد جاءت آليات تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي بوتيرة متسارعة ربما لم تنتبه إلى التراجع المهين لقيمة العملة المحلية، مما زاد من الشعور العام بوخز الأعباء المضاعفة في ظل ارتفاع أسعار السلع عالمياً وعلى رأسها أسعار المحروقات. الحكومات المتعاقبة لدينا تتبنى مشروعات إنشائية كبرى أحسبها تبتلع الجزء الأعظم من ميزانية الدولة، وتكلف الشعب أعباء مبكرة يتساءل الخبراء عن مدى جدواها في الوقت الحالي أمام قائمة الأولويات وعلى رأسها الإصلاح الإداري والسلوكي، في الوقت الذي لم تبد أي منها الاهتمام الكافي بتحسين منظومة التعليم الأهم على الإطلاق، أو بدعم المشروعات الصغيرة والمشروعات متناهية الصغر وترك أمورها لمهاترات الهواة والمنتفعين على شاكلة الجمعيات الأهلية القائمة على التبرعات المالية وجمع الزكاة وغيرها. في اعتقادي ليس هذا بمؤشر لأي نمو اقتصادي فعلي، وسيظل التعافي المالي المؤقت هشاً طالما استمر مشروطاً برضاء البنك الدولي وإملاءات الدول المانحة، والمقابل دائماً كما نعلم جميعاً من قصص التاريخ باهظ التكاليف، وربما تفوق آثاره في فداحتها مساوئ أي استعمار.

تجربة واقعية مع الغلاء

قادتني الصدفة إلى أحد محلات عصير القصب ” المشروب الشعبي قاطع العطش ” بأحد الأحياء الفقيرة بالقاهرة، طلبت من البائع كوب من هذا العصير المنعش ملاذ الفقراء من حر يوليو الهجير، وبعد أن تجرعت محتوياته بالكامل حتى أخر قطرة أعطيت للبائع ورقة من فئة الخمسة جنيهات مع توقعي بأن يعيد لي جنيهين كالعادة، فإذا به يطلب جنيهاً أخر، قلت للبائع: لكن السعر كان ثلاثة جنيهات منذ شهر تقريباً. فأجاب برد أحسبه سابق التجهيز، بأن ارتفاع سعر الوقود هو السبب الرئيسي في مضاعفة سعر السلعة التي تكلفه الكثير على حد قوله. لم أماطل في الدفع، وأعطيت له ما أراد، لكن في نفس الوقت تساءلت: على أي أساس قرر الرجل تحديد نسبة الزيادة التي هي 100% وإن كانت نسبة الزيادة في أسعار الوقود لم تتجاوز 35% حسب تقديرات الحكومة، فكيف يتسنى لتاجر بسيط اتخاذ مثل هذا القرار؟ الرواية هي تجربة ذاتية حقيقية، وأحسب أن هناك عشرات من الروايات المماثلة إن لم تكن أكثر فداحة. فالأمر لم يستثني أي منتج محلي الصنع أو مستوردا. وأعني هنا بالسلع الغذائية والدوائية والخدمات العامة كالمواصلات والصحة وغيرها.

من واقع بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، نسبة الفقراء من سكان مصر شكلت في العام 2015 حوالي 29% من تعداد السكان، أي حوالي 25 مليون مصري. مع العلم بأن بطاقات الدعم الحكومي التمويني والاجتماعي تشمل حوالي 70 مليون مصري. الحكومة الأخيرة أعلنت عن زيادة 7% في الأجور و 15% للمعاشات في مقابل ارتفاع مطرد في أسعار السلع والخدمات تجاوز الضعف أحياناً. وإذا ما لم تعترف أجهزة الدولة بهذا الواقع وتعمل جدياً على تقليص الفجوة الفادحة بين الأجور والأسعار بدلاً من إطلاق التبريرات التي لا تعفيها من المسؤولية، فربما سنضطر إن أجلاً أو عاجلاً أن نتعامل مع قنابل مجتمعية موقوتة قد تنفجر وتحدث دويا وصدى مخيفا، خصوصاً وأن معدلات ما تحت خط الفقر تشير أن هناك من يضطرون للمعيشة بدخول لا تتجاوز 500 جنيه، أي أقل من 30 دولار شهرياً دون أدنى أمل قريب في تحسن متوقع.

فيديو مقال الأرقام، عصيدة الديكتاتورية

أضف تعليقك هنا