حين ماتت الجغرافيا

 إن ما نحن بصدده هو نظام عالمي جديد
 “ج.هـ.و.بوش” ١٩٩١م

الواقعيّة أولاً

يقول الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس أن ” الانسان مقياس كل شيء.. هو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة وأن الأشياء الغير موجودة غير موجودة..”. رغم أن أولي الاعتراضات هي أن تلك الفلسفة تعني مغالطة منطقية في حد ذاتها، وفي ذات الوقت وببساطة إن كونك تعاني عمي الألوان ولا تميز بين الاخضر والأصفر وتري الأخضر أصفر -علي سبيل المثال- لا يعني أن عينيك تري الألوان الصحيحة؛ ولا ينفي كون الأخضر أخضر.

وفي محاورة “تيتاتيّتوس” حاول أفلاطون تفسير فلسفة بروتاجوراس لصالح نظريته عن المدينة الفاضلة أو الجمهورية فقال أن الحواس قد تخطيء، وأن الاختلاف في نظر الأغلب الأعم من الناس حول الأشياء أمر أكيد، وفي تلك الحالة تكون القوانين والتقاليد والأعراف هي الأوّلي بالاتباع.

ومن جانب آخر

الفكر الغربي يدرس الموضوعات علي أسس مجردة وقواعد ثابتة، وبمعزل عن السياقات السلوكية الإنسانية أو المتغيّرات الأخري التي قد تؤثر فيها وتتأثر بها، ويعتقدون أن تلك العمليات المعرفية قد تؤدي إلي التحكم في الظواهر الطبيعية وكذا الإنسانية؛ وهو ما تجلي من خلال الفلسفة “التجريبية” و”الوضعية” الانجلو-سكسونية المتأثرة بالمدرسة الفيثاغورثية “الرياضية” الراسخة في الوجدان الغربي. وهو ما الهم الكثيرين بعد عبور أفكار “جون لوك” المانش الي اوروبا وعبر به تلميذه “ويليام باركلي” الأطلسي.

وبالمناسبة؛ إن الإرث الأفلاطوني تجلي بحق في النموذج النازي في ألمانيا، والنموذج الماركسي في روسيا السوڤيتية.. وللعلم أيضاً فإنه ترك بصمته من قبل ذلك في المسيحية المدرسية التي حكمت أوروبا لما يزيد عن خمسة قرون، من خلال تطابقها مع الافكار الأفلاطونية التي كانت سائدة وتجددت قبل المسيحية بسنين قليلة في الاسكندرية علي يد أفلوطين “الأفلاطونية الجديدة”.

التنظير والتطبيق الحقل الاقتصادي نموذجاً

إن جوهر الرأسمالية كما قال “آدم سميث” وغيره هو “المِلكية” التي تتيح للفرد امتلاك سيارة ومنزل وأرض ومشروع صناعي كان أم تجاري أو حتي استثماري “إمتلاك اسهم بالشراء في الشركات بمختلف أحجامها”، وهو ما دفعه لتعريف “الاقتصاد” بانه علم الثورة وأطلق عليه اصطلاحاً “الاقتصاد السياسي” متأثرا بفلسفة أرسطو في امتلاك الثروة والقوة والتي تعزز تحقيق الأهداف، ومن قبله المثل الإغريقي الذي أخذ به آخيلياس، بطل الإلياذة: ” كن دوماً الأفضل وفي المقدمة علي الآخرين قاطبة”.

الرأسمالية في طور التنظيم

لذلك وبعد أن انتقلت الرأسمالية إلي طور التنظيم ودخلت في عشرينيات القرن الماضي الي نظام الانتاج الكبير (mass production system) أو النظام “الفوردي- Fordism ” -نسبة إلي “هنري فورد-Henry ford” صاحب فكرة خطوط التجميع- الذي نتج عن اندماج آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة في كيانات اكبر بعد الاتجاه الي نظام الانتاج الفوردي خطوط المصانع الكبير التي تنتج كميات كبيرة من أنماط واحدة من السلع. والتي بلغ استحواذها علي الاسواق داخل الدول الكبري أوجه حيث سيطرت ١٪‏ من الشركات الامريكية علي ٥٠٪‏‏ من انتاج السوق و٣٠٪‏ من العمالة في الولايات المتحدةالامريكية علي سبيل المثال.

وفي غضون العقود السبع الذين تلوا ذلك التنظيم – ونتيجة لعوامل عديدة كان أكثرها تأثيراً التشعبات التي أصابت الأنماط الاستهلاكية إبان الثورات التقنية – أصبحت السلعة التي تصل الي المستهلكين حول العالم غير ذات منشأ واحد كما كان سائداً في نظام الانتاج الكبير. بمعني أن القطع المختلفة داخل السلعة من الممكن أن تحمل عدة جنسيات.

وفي العام ١٩٩٥ وصل عدد الشركات متعددة الجنسيات حول العالم الي ٤٥ الف شركة، تمتلك آلاف من المصانع، وأساطيل من مركبات وسفن وطائرات النقل حول العالم؛ ٦٠٪‏ من تلك الشركات تعمل في الصناعات التحويلية، و٣٧٪‏ في تقديم الخدمات، و٣٪‏ في القطاع الأولي، وتقع ٩٠٪‏ من مقراتها في الدول الأوروبية والولايات المتحدة ولحق بها فيما بعد نمور آسيا وغيرها.

إدارة الموارد ونظام الإنتاج المرن(flexible production system).

هناك شركات مثل تويوتا التي أطلقت فروعاً لمصانعها في جنوب افريقيا والبرازيل، وشركات الهواتف الذكية التي انتقلت مصانعها الي الصين “وهي من كانت تدعي حتي وقت قريب بدول المحيط او دول العالم الثالث وأصبحت تسمي مصنع العالم”.

لأن نظام الإنتاج هذا يخضع لقوانين العرض والطلب في بالدرجة الأولي، وبمعني ان عدد المستهلكين لمنتجات علامة تجارية معينة هو الذي يحكم انتاج الشركة صاحبة العلامة التجارية. يتعين عليك لتصنع ثروة طائلة ان ترشد نفقات العملية الإنتاجية، ومن ثم ستبحث عن مكان ما لنفترضه بدولة نامية تخطو أولي خطواتها نحو الحداثة تمتلك ثروات أولية ضخمة لها عملة ذات قيمة ضئيلة نسبياً أو لازالت مرتبطة بالدولار ويوفر نظامها السياسي والقانوني والاجتماعي المناخ الملائم للاستثمار.

وختاماً

لقد كانت المواد الأولية وأسواق تصريف فوائض الإنتاج دوماً سبباً لصراعات مات في إثرها الملايين من البشر، لكن التطورات التي لحقت بالعلوم والتكنولوچيا ووسائل المواصلات، وكذلك باتفاقية “بريتون وودز” وما أُبرم بعدها من اتفاقيات جعلت تنظيم الوصول الي تلك الموارد والأسواق “سلمياً” أمراً ممكناً.

وبعد انهيار جدار برلين والاشتراكية معه في أواخر الثمانينيات كان القطاع الاقتصادي التابع لاجهزة دول الكتلة الشرقية لا يستطيع مجاراة مرونة الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي يستفيد من وفورات عوامل الانتاج في نظام “السوق الحر”؛ مما اضطرها إلي التواصل مع هذا النظام،كإنضمام الين اخيراً إلي منظمة التجارة العالمية؛ ومن ثم التكيف معه والتفوق في حالات عديدة مثل نمور شرق آسيا والصين.

ازدهار الاقتصاد في التسعينيات وما بعدها

ومن ثم قياس مدي ازدهار اقتصاد ما يبدأ منذ التسعينيات وما بعدها، منذ انحلال العقد السوڤيتي وهدوء المجتمع الدولي نسبياً؛ أما موافقة الأوروبيين علي بريتون وودز بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية – والذي منح الدولار النفوذ الاقتصادي الذي ربط به عملات العالم الثالث- كان مقابلاً لتطبيق مشروع مارشال لإعادة إعمار اوروبا.

أما إبرام اتفاقات الجات والتعريفات الجمركية وغيرها من اتفاقيات لاحقة كان من شأنه أن يحرر التجارة والاستثمار من الحدود السياسية والجغرافيا وهو ما عرف إصطلاحاً ب”العولمة” وقال عنه البعض “موت الجغرافيا”.

فيديو مقال حين ماتت الجغرافيا

أضف تعليقك هنا