أكذوبة الإجماع الوطني

الإجماع قرين الاستحالة. إنه ضد الفطرة الإنسانية والطبيعة. هذه هي الحقيقة التي لا يود الكثيرون الاقتناع بها. لم ولا  ولن يوجد إجماع بين صنوف البشر لا على نبي أو قائد أو مرشح أو قرار أو فكرة اقتصادية أو رأي سياسي أو معتقد ديني أو لون عرقي أو هوية إثنية. الإجماع يعني طمس التنوع وقتل الاختلاف، ومن ثم إنكار لهدف الحياة نفسها. كيف لمجتمع أن يزدهر وينتعش دون اختلاف في الرؤى وتباين في تذوق الأمور ومعالجة القضايا؟ لماذا إذن وجدت درجات التقاضي المحتلفة إذا كان الجميع لهم نفس الأفكار والمعتقدات وبالتالي يصدرون نفس الأحكام؟ لماذا عرف البشر المنافسة إذن في ميادين التجارة والرياضة غذا كان الكل يؤدي على نفس الوتيرة وبنفس الأداء؟ لماذا وجدت الأحزاب والحركات السياسية التي تتراوح رؤاها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟ لماذا عرف البشر الحكومات والمعارضات وأنماط الحكم المختلفة؟ لماذا تختلف الصحف في معالجاتها وتغطياتها للحدث الواحد؟ إن الاختلاف هو أصل الوجود والتعايش معه هو الغاية الأسمى.

 

حتى التاريخ له أكثر من رواية ويقرأ من أكثر من زاوية لا لشيء سوى أن من يقوم بهذا بشر، لا تتساوي مدركاتهم ولا قدراتهم، بل تتباين أشد التباين إذ تختلط بها المشاعر والأفكار والميول والأهواء، لذلك تتنوع المؤلفات وتكثر القصص التي تتناول نفس الواقعة، حتى ليظن المرء أنهم يتناولون أحداثا مختلفة في أزمنتها وأمكنتها وشخوصها. إن محاولة السيطرة على هذا التنوع البشري وتحجيمه، ومن ثم صبه في قالب واحد تحت شعار الإجماع الوطني أو الاصطفاف في مواجهة الأعداء أو الاتحاد ضد أي شيء لا يمكن أن يكون سوي قتل للمجتمع وخنق قدراته على الإبداع والحركة.

 

المشكلة تكمن في عجز السلطات عن إدراك هذه البديهية. فالسيطرة على المجال العام في أي مجتمع، وتحييد وسائل الإعلام وتكبيل المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية، وتفجير الأحزاب السياسية من الداخل بالإضافة إلي قوننة هذا التضييق من خلال تشريعات مقيدة للحريات العامة والتعبير والاجتماع لن يؤدي إلى ما تبغيه هذه السلطات من الاستقرار واستتاب الأمن.

فالأفكار لا يمكن الحجر عليها والتنوع يصعب مواجهته باجراءات المنع والحظر، ناهيك عن تطور البيئة التكنولوجية التي تساعد على نشر الأفكار في عالم لم تعد الحدود الجغرافية تشكل حائلا فيه أمام تعبير الأفراد عن رؤاهم وحشد الأنصار لها.  إن قمع محاولات الأفراد التعبير عن تنوعهم الديني والثقافي والأيديولوجي والإصرار على فرض نغمة واحدة ورواية واحدة وصوت واحد ورأي واحد، يؤدي بالضرورة إلى جنوح هؤلاء الأفراد إلى سبل غير شرعية للتعبير عن آرائهم.

هنا يصبح الصدام لا مفر منه وتبدد قدرات المجتمع والدولة في صراع صفري لا طائل من ورائه. فالسماح بل دعم الأفراد للتعبير عن آرائهم داخل مؤسسات النظام السياسي والاجتماعي نفسه، هو ما يحفزها على النمو والتطور ويساعدها على الاندماج والتفكير بواقعية ويعزز الانتماء لأنه يخلق مصالح لهذه المجموعات تدفعها للمشاركة بفعالية، ويجعلها تنبذ العزوف واللعب خارج النظام التي شاركت هي في إرساء قواعده وتجني ثمار تواجدها فيه. كل هذا بدوره يقوي الاستقرار والسلام الاجتماعي الذي هو غاية أي نظام حكم.

 

إن الصراع ضد التنوع محكوم عليه بالفشل لأنه ضد الفطرة. فهو محاولة لقلب حقيقة الأشياء ومسخ صورتها لا يمكن لها النجاح. إذ أن السلطات نفسها تتكون من أجهزة ومؤسسات يصعب تصور اعتناقها جميعًا لرؤية واحدة بنفس الدرجة دونما اختلاف في التفسير أو الأولويات أو المرجعيات. فإذا لم يكن الفشل مرجعه أن الفطرة الإنسانية تأبى هذا فإن تطور التكنولوجيا يقاوم سلطة الحظر بقوة، وإذا أمكن تحييد التكنولوجيا فالأنظمة نفسها من داخلها لا يمكن لها الاستمرار طويلًا في حالة الحشد والتعبئة لمواجهة أخطار مثل تهديدات الإرهاب أو مساوئ العولمة أو الانقسام الداخلي أو التآمر الخارجي.

 

إن إدراك هذا الفشل الحتمي هو التحدي الحقيقي أمام الأنظمة السلطوية في القرن الحادي والعشرين، وهو أمر ليس بيسير بالنسبة لمن عاشوا حياتهم في ظل أنظمة فكرية واجتماعية وثقافية تقوي من الشعور العام بالاستهداف، وتنمي الإحساس بالخطر من كل جديد أو مختلف. إن التمترس خلف القديم السائد من القيم والعادات والأفكار يمثل حيلة دفاعية تلجأ إليها الكيانات في حالات التحول الهيكلي أو المخاض بهدف ضبط سير عملية التغيير ومنعها من الإنزلاق بالمجتمع نحو الفوضى.

في مثل هذه الحالات يصبح للتواصل ومد جسور الثقة أهمية قصوى لضبط مسار الانتقال نحو الديموقراطية والحداثة على مستوى الدول أو التحديث المؤسسي وإعادة الهيكلة على مستوى المنظمات، أو حتى الشراكات الجديدة على مستوى علاقات الأفراد وهو الأمر المفتقد بشدة في مجتمعات العالم العربي، ولا يزال يقف حجر عثرة أمام نجاح  التحولات الجارية فيها منذ العام 2011 وإلى الآن.

فيديو مقال أكذوبة الإجماع الوطني

أضف تعليقك هنا