تناقضات
في لحظة ما تصور البعض أنهم على حق، وأن رأيهم هو الصواب، ولا أخفيكم سرا أن أحدهم كاد أن يصدق الأكاذيب، الّتي ظل يرددها لسنوات أنه “رجل الدين” الّذي لا يكاد يخطئ، بل لا يخطئ من الأساس. لا يحب الدنيا ومتاعها فهو زائل لا محالة، بل هو قنوع ولا يفكر في المال إطلاقا. محب لوطنه ولا يتآمر عليه. كيف يمكن لشخص ما، الجمع بين حب المال وبغضه في آن معا؟.
يحبه مادام لنفسه، وعند الحديث للعامة، يُظهر بغضه للمال وأنه زائل، فلا ينبغي أن يلهثوا وراءه! كيف يمكن الجمع بين حب الحياة واستحقارها؟ يحبها ويتمسك بها وعند الحديث للعامة يتحدث عن ضرورة عدم التعلق بها، فهي دنيا وليست عُليا! كيف يمكن للغارق في ملذات الحياة، أن يتحدث عن القناعة والزهد؟ كيف يمكن لمن سقط في وحلها، أن يتحدث عن الصدق والشرف؟ ومن ثم يغتسل من هذا الوحل بدماء من غرر بهم! وبدون ذكر أسماء، سأتحدث عن بعض أفكار من رأوا في أنفسهم، أنهم المُلِمّين ببواطن الأمور.
المُلِمّون ببواطن الأمور والقضايا المجتمعية والسياسية
كان ملعب هؤلاء هو الأزمات، والمشكلات، التي تطرأ هنا وهناك. يسافرون إلى بلدان كثيرة، منادين بـ”الجهاد المقدس” وعودة “الخلافة الراشدة” وكان من هؤلاء شخص لن أتحدث عنه كثيرا، يكفيه أمر واحد فقط، وهو عندما دعا في خطبة عصماء “للجهاد” ثم بعد ذالك وقف متفرجا من بعيد، يدعو الله أن يحقن دماء المسلمين! يلعبون على وتر العواطف ويتاجرون بأحلام البسطاء.
قيادة المرأة للسيارة
كان أحدهم يتحدث عن قيادة المرأة منذ بضعة سنوات، وينعت من يطالب بها بالمنافق الضال المضل السفيه، وأخذ يردد مصطلحات الصحوة، من أن هذا الأمر له عواقبه، لما فيه من تغريب للمجتمع، ودعوة للانحلال الخُلقي… ومن ثم أخذ يصب جام غضبه على الليبراليين أو كما يقول أتباعه “بنو ليبرال” ويصفهم بالجهل، وأنهم لا يعلمون بواطن الأمور. وكأنه هو العالم والمُلِم بتلك البواطن كافة، دينية وعلمية.
تصريحات تسيبي ليفني
وحتى السياسية، ومن تلك الأمور السياسية التي يُلِم بها قال: “رئيسة وزراء إسرائيل ليفني: ما حصل لمرسي وأردوغان إنما هو بسبب خروجهما عن خط إسرائيل! يا لها من تزكية لهذين الزعيمين وتسويد لوجوه من خرج عليهما!”. عند بحثي عن هذا التصريح الملفّق، لوزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، والّتي بالمناسبة لا يعلم هذا المُلِم ببواطن الأمور، أنها ليست رئيسة وزراء، وأنها لم تصرّح بما ذكره هو من الأساس. كان حديث الوزيرة السابقة في 17 نوفمبر 2012 م أي قبل عزل مرسي، و ذكرت فيه “أن هناك مسار للاعتدال، ومسار آخر للتطرف والإرهاب. وأن أي رئيس يختار مسار الإرهاب والتطرف، سيكون هناك ثمنا لهذا الاختيار” وحضّت على أن يكون المسار الأفضل، هو الاعتدال. لم تعن الوزيرة السابقة بكلامها هذا مرسي أو أردوغان، بل تحدثت عنهما فيما بعد في معرض حديثها عن رؤية إسرائيل، لما يحدث حولها من تطورات، وعن مصالحها المشتركة مع الدول المحيطة.
وتحدثت أيضا عن ملك الأردن، وعن أيدلوجية حزب أردوغان. وبالمناسبة فقد كان مصدر التصريح الّذي نشره هذا المُلِم ببواطن الأمور هو الجزيرة! الذراع الإعلامية لقطر، عاصمة تنظيم الإخوان، والّتي تنشر على نطاق واسع، أفكار هذا التنظيم، الّذي يتشارك في أيدلوجية واحده مع حزب أردوغان. فكيف لهذا المُلِم ببواطن الأمور، أن يرضى بأن يكون أداة بيد هؤلاء لنشر أفكارهم؟
مصر ، كوريا ، أمريكا
ولم يكتف المُلِم ببواطن الأمور بهذا فحسب، بل امتعض من زوال حكم الإخوان قائلا: “الإنقلابيون يعيدون فتح سفارة النظام السوري! لقد أقض مضاجع الأعداء داخل مصر وخارجها ذلك الخطاب المدوي من مرسي لنصرة الشعب السوري فأسقطوه” وهنا يظهر استخدامه لنفس المسمى، الذي تبناه تنظيم الإخوان “الانقلاب”. ثم يسمح لنفسه بأن يتدخل في شؤون دولة ذات سيادة، بل ويُظهر اعتراضه على قرارها السيادي! ثم يذهب هذا المُلِم ببواطن الأمور إلى أقصى الشرق فيقول: “رعب أمريكا من ضربة نووية كورية يذكر بالسنة الإلهية وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيبلى بأظلم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)”.
وهنا فيما يبدو لي أنه كاره لأمريكا وهذا شأنه، ولكن إظهار هذا الكره للعامة، ونشره على نطاق واسع – وخاصة عندما يكون هناك عدد كبير ممن يتابعون حديث هذا المُلِم – وعندما يستدل بشيء من الدين، ليُغلف به هذا الكُره، ليقدمه للعامة على أنه أمر من الثوابت، ألا وهو كراهية هذا الأجنبي، وأن تتمنى له الزوال بسلاح نووي! سيؤثر هذا الحديث بطريقة أو بأخرى على فكر متابعيه، وربما يصل الأمر بأحدهم، أن يعتدي على أي أمريكي يراه أمامه.
وأنا أسألكم بربكم: أهذا حديث يمكن تقديمه كخطاب حب وسلام للآخر؟ أمّا عن مضمون حديثه حول تهديد كوريا الشمالية لأمريكا، فهذا يدل على جهله السياسي. فكوريا الشمالية تعلم علم اليقين حدودها، ولم ولن تجرؤ على تخطيها، فكيف يصل بها الأمر، لشن حرب نووية؟ وعلى من؟ على الولايات المتحدة! الّتي تخشاها روسيا والصين معا، وكان هذا واضحا جدا منذ عدة أشهر، عندما تم ضرب منشأة لتخزين أسلحة كيماوية، ومركزا للقيادة في سوريا، ومرت الصورايخ الأمريكية فوق الدفاعات الجوية الروسية، الّتي لم تحرك ساكنا. وكانت تلك رسالة من الولايات المتحدة لروسيا والصين معا، وهم يعلمون حجمهم جيدا، فكيف إذاً بكوريا الشمالية؟.
حدثني ثقات
المُلِمّون ببواطن الأمور العلمية ومصادر”حدثني ثقات” ذهب هذا المُلِم ببواطن الأمور إلى علم النبات فقال: “النبات ينمو ثلاثة أضعاف بسبب سماع القرآن فكيف بأثره على القلوب والأبدان؟” وكان مصدر حديثة هنا “حدثني ثقات” لم أجد دراسة علمية، أو ورقة بحثية، بل كل ما وجدته هو خبر في جريدة، نقلته عن وكالة “جيهان” التركية، تحدثت فيه عن طالب تركي، يدرس في مدرسة الأئمة والخطباء، وقالت تلك الوكالة: “أن النبات الذي استمع إلى القرآن الكريم وصل طوله إلى 33 سم بعد أسبوع، وأما النبات الّذي لم يتعرض لأي صوت نمى حتى وصل طوله إلى 11 سم، فيما لم يشهد النبات الذي تعرض لسماع الأغاني الصاخبة أي نمو”.
ألا يعلم هذا المُلِم ببواطن الأمور وأيضا ذالك المكتشف النابغة، أن هناك أمر هام، وهو أن يتم الإثبات أولا بالدليل العلمي القاطع، أن للنبات قدرة على الاستماع أولا، ومن ثم القدرة أيضا على الإدراك وتمييز الأصوات. ولا أعلم منذ متى كانت المدارس الخاصة بالأئمة والخطباء، مركزا للبحث العلمي؟ هذا لو سلّمنا جدلا أن هناك بحثا علميا قد تم، وأخرج لنا هذا الاكتشاف. لا أجد تعبيرا يصف الأمر، سوى أنه عبث وتسطيح لعقول القراء.
إن أمرا كهذا كان سيهز المجتمع العملي بأكمله، لأنه اكتشاف عظيم سيوفر الوقت والمال، وتكلفته المادية بسيطة، كل ما سيحتاجه المزارعون، هو وضع مكبرات للصوت بجانب النباتات. كما يمكن أيضا استخدامه في حرب من نوع خاص، ضد عدو معين، بوضع تلك المكبرات بجوار مزارع العدو، وتشغيل أصوات الأغاني، وهكذا لن ينموا نبات تلك الدولة ويموتون جوعا! وتصبح تلك الحرب أيقونة في أرشيف الكليات العسكرية، وليكن أسمها مثلا، حرب المكبرات الصوتية، للقضاء على الثروة النباتية!.
أرأيتم العبث الّذي أوصلونا إليه هؤلاء المُلِمّون ببواطن الأمور؟ هل تتصورون أن أمر كهذا، سيصدقه المتابعون لهذا المُلِم ببواطن الأمور؟ بالطبع سيصدقون هذا الأمر دون البحث والتأكد، لأن هذا المُلِم ببواطن الأمور، يضفي مصداقية على هذا الخبر بتبنية ونشره، وتغليفه بغلاف الدين، حتى لا يدع مجالا لأي مشكّك، لأنك إن شكّكت في هذا الأمر، وقعت في محظور يخرجك من الملّة، وتصبح كافرا يُستحل دمك، كما يرى هذا المُلِم ومن دار في فلكه. وهنا أدعوك عزيزي القارئ لتكون الحَكم، وتجرب بنفسك مدى مصداقية هذا “الاكتشاف” من عدمه.
“لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب”
وقبل أن أُنهي مقالي، وجدت فتوى لهذا المُلِم ببواطن الأمور يقول فيها: ” لا يجوز التسمية بملاك أو ملك لما فيه من التزكية فالملائكة لا يعصون الله والبشر يعصونه، ولما فيه من التشبه بالكافرين الذين جعلوا الملائكة إناثا” وأنا هنا أترك لكم تخيل ما وصلنا إليه، من تدخل هذا المُلِم أو غيره في كل شيء من أمور الحياة، حتى الأسماء، أصبح منها المحرم والمكروه، ولا أعلم هل دخل هذا المُلِم ببواطن الأمور، في عقول من أسموا بناتهم بملاك مثلا؟ وعلم بنواياهم، أنهم يسمّون تلك الأسماء قاصدين التزكية؟ أم يسمّونها لمجرد التسمية فقط.
إن هؤلاء المُلِمّين ببواطن الأمور كما يدّعون، يتضح شيئا فشيئا زيف أقوالهم، وعدم امتلاكهم لمصادر ذات مصداقية. استمر هؤلاء لسنوات في تحكمهم في كل ما يتعلق بحياة الناس، وأخذوا يشوهوا صورة كل من خالفهم في الرأي، وأحيانا يصفونه بأقبح الصفات. يتتبعون ذنوب الآخرين – هذا لو سلمنا بأنها ذنوب بالمعنى الحرفي – حتى أوصلوهم إلى مرحلة الشعور بعقدة الذنب. تدخلوا في كل شيء يخص المرأة، ولو كان في وسعهم منع قيادة المرأة لفعلوا، ولكن تجاوزهم الزمن. في النهاية، لم أجد أبلغ من هذه المقولة للإمام مالك، أُنهي بها مقالي “لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا إلى ذنوبكم كأنكم عبيد”.
فيديو مقال بدون ذكر أسماء
أضف تعليقك هنا