فردوس الجنون – #قصة

بقلم: محمد زين العابدين صبرى

على الباب القديم

لم يدرك كيف داست أقدامه كل هذه المسافات وتلطخت  خفوفه بهذا الوحل، يفلت بصره على مداه فتتمدد الشوارع أمامه فلا يبلغ نهايات المدى، ففي الشوارع تحط كل الحكايات وتنثر فيها الهموم لتنبت روايات يرويها مجهولون عن أسرار البيوت المغلقة، وفي الشوارع أيضا تنسج قصص العشاق فيتغنى بها الصغار على مصاطب النواصي، فلم تعد المقاهي رفاهية شباب ولكنها ملاذ لكبت القلوب وقهر البيوت وعويل الصغار وردح النساء، يرجع بصباه إلى صباه.

فيتوهج داخله عابث صغير ثم يهيج  فيركله في الذاكرة المنسية، فتسبح في الفراغات الضيقة، فليس للصبا إلا الشوارع والمقاهي والترحال تنبت أغانيه لحناً يدمي القلوب، ففي القلوب تسكن كل المسافات، وتتسع الأحلام، ثم تبور وتتوه الطموحات أمام الأقبية المعتمة وسراديب الغربة والأبواب المغلقة، فجأة وجد نفسه قد تعافى من الأزقة  الضيقة لتنحني هيبته وصولاته وجولاته في الغربة أمام  الباب المسجى، على أعقاب الحيطان المنهكة ركل الباب بركبته، فانفلق المزلاج وسقط  مسجى على الأرض.

لا أحد يجيب

صاح بصوت يهز الفراغات من حوله ليذكر (عُمار المكان ) بملامح القادم، كالعادة لم يجبه أحد، سارع الخطوات للداخل يكرر الصياح، ويصفق بكفين  مغتربين، نبحت الكلاب بالخارج على وقع صوته المنكر وغير المألوف، فللكلاب أيضا عتاب على المخترق لحرمة البيت بغير حساب، أيقظ عواء الكلاب النائمين، ولم يوقظهم صوته الجهور، فجاب بأذنيه صوتا من الداخل يسمح له بالدخول، كان جسد الصوت مسحوباً للداخل ومن خلفه الباب موارب، مرق من عتبة الباب وأماط برأسه من بين ثقوب الغرف.

رأى العجوز ملفوفة بالسواد مكومة على السرير تعطي خدها للتلفاز الذي تغيرت ألوان شاشته من هجر المستمعين وسكن بين ثناياه الغبار والتراب وصدأت مفاتيحه، منذ زمن لم تغير هذه القناه، يظل ينبح ليل نهار مثله مثل الكلب الرابض بمدخل الحارة، يظل ينبح والناس تمر ولا تعره انتباهاً، لما أيقنت أنه نباح كاذب لا يتعدى هز ذيله ورفع رأسه للسماء، يقول الناس أنه نباح أمن، ويقول آخرون أنه يسبح ربه  فترسل الصغار للبيع والشراء دون خوف منه  ولا عناء.

التلفاز القديم

فنظر للتلفاز وهو يروي للفراغات وهي راحلة عنه تتأمل الشقوق التي تفلق الجدار فتخترقها أشعة الشمس هاتكة  ستر الغرفة تضع بقع ضوئها على شاشة التلفاز، تفقد الوجوم الذي يرعى على حوافر وجهها، لاذ بالسكوت على وقع هدير الصمت المطبق وفي رحاب الهدوء (عالي المقام ) جلس على الكرسى ينتظر الأمر بالكلام،  طال انتظاره وهو يفتش في أحشائه عن لغة يبدأ بها الحوار، اكتشف أن مع الغربة يغترب الكلام وتتوه بين سنين غيبتها المعاني، فتتلوى الألسنة بألسنة الأغراب، ويضيق في الأفق الحوار وتتقلص الحروف وتتآكل حتى تصبح همساً أو إيماء.

لم يدرك كم حرفاً تبقى بداخله، حاول تركيب الحروف ليستجمع المعاني كما كانت أيام الصبا فلم تأت بجملة واحدة تزيل ستائر الصمت في الغرفة، عاود التأمل فى إطار التلفاز، ازداد وجومها أخذ يحصي الأجساد  التى زاحمتها في غربته يبحث عن الوجه الذي يلقي عليه أحماله ويسترد منه دقات قلبه التى سلبت، ليسألها (أين هي؟ ) فتعطلت لغة الكلام فآثر الصمت تتسول عيناها من كل فتحات البيت بحثاً عنها، ولكن لم يجدها، أدرك أنه لم يعد بالبيت إلا الثقوب، والمرايا لم تعد موجودة بين كل تلك المخلوقات.

الباب يبلغ عن قادم جديد 

يرتع في أذنيه صرير الباب، تنبأ بالقادم، تململت بين شفتيه ابتسامة كانت مسترخية فى ذهول أنزل ساقه التي تركض فوق الأخرى وأراح حقيبته المتخمة بالنقود والهدايا بجوار فخذه الأيمن، ظن أن داخلها تسكن الأحلام فلا تبور الطموحات، ولم يدرك بعد أن الأحلام قد شاخت  والطموحات قد تاهت، تأهب لاستقبال القادم  في صمت.

أزيز حذاء القادم أكد له نبوءته، اختصر المسافات داخل عقله حتى رآه واقفاً أمامه هب واقفا ليسلم  عليه، أشاح له بيده وتجاهله مخترقا السكون حتى لاذ بالسرير المتقرفصة فوقه وأزاح الملاءة من على أكتافها ومددها (قال لها أغمضي عينيك فلم يأت الشروق بعد) فأطاعته وتمددت وأغمضت عينيها مستسلمة للغروب عن المكان، مسح  الوجوه من حوله تأفف ورفع رأسه أمشاط تمشط بها شعرها الذي يتدلى حتى مؤخرتها تتناثر منه رائحة الزيت  التى تحاصر الغرفة، قال لها (لقد أتى إنه بالأسفل أعيته السنون، جاء خانقاً أحلامه في حقيبته أظنها ماتت من طول المسير)، نظر إلى الحائط رأى الشقوق تملأ المرآة تحول وجهها إلى انشطارات متعرجة تلاعبها أمواج (العويل ).

حاول استجماع الملامح المبعثرة على صفحات المرآة الممدة على طول الجدار وعرضه، يعقد جبهته في ذهول وهو يسمع دوي صراخها فترتج أقفاص صدرها من طرقات قلبها النافر بين الضلوع، تباعدت المسافات بين الشقوق حتى اخترقت المرآة وهي تمد له يدها، تراجع خطوات للخلف حتى اصطدم بالسرير، مدد جسده في خشوع ساندا صدغه على راحة يده يتأمل الجدار.

بقلم: محمد زين العابدين صبرى

 

أضف تعليقك هنا