فلسفة التغيير في الإسلام

تقول الغراب للحجر: ما بال فلان عزم التغيير وقد حدث بين ليلة وضحاها؛ يأتي الصلوات والنوافل، وخلع عليه الجبة والقفطان واعتاد حلقات الذكر؛ فهو ببضع أيام ملاك ينشر السكينة.
قال الحجر للغراب: قد عزم التغيير الشامل بين ليلة وضحاها؛ دع الأيام ترينا أمره.
 قالت الغراب للحجر:هو تائه بعد يوم ويوم، يضطرب.
 قال الحجر للغراب: قد اخترقته الغربة والتيه.
إنْ نفرض حقيقة لا تتغير مطلقًا فالأحرى أن تكون هي نفسها التغيير؛ فهو الثابت الوحيد هنا لا يتغير، وإن كان لابد فلابد للأفضل.
وتغيير النفس سفر فيه تحويل لجوانبها الروحية والشعورية والمادية جميعًا، فالتغيير فينا يتوجب تغييرًا لما نؤمن تجاه الشdx، يتوجب تغييرًا لاعتياد نفوسنا له، يتوجب تغييرًا لاحتواء أجسادنا عليه أو احتوائه عليها.

كيف نعرف ما يجب أن نغيره؟

لكن إن كنا سنغير كيف نعرف ما يجب أن نغيره؟ أقول بالتأمل في النفس تغلغلًا في زواياها، والتعمق في أفعالها للوقوع علي مسبباتها من أفكار ومسلمات ترسخت فينا؛ فالتغيير لا يجري على الأفعال لكن الأفكار، فالأفعال تأتي من فكرة أو اعتقاد، عندها يكفينا تغيير تلك الفكرة حتى يحصل التغيير لأفعال كُثر.
وبعد التأمل يأتي التبين؛ وهو الحكم على تلك الأفكار قبل تغييرها بميزان لا حيد عنه؛ ميزان كفته وصايا الإسلام والعرف الذي يقره على المجتمع، والأخرى أفكارك تلك ومعتقداتك. فإذا أقمنا ذلك الميزان ندرك ما نحتاج لتغييره وما يحتاج لتثبيت.فلا كل ما نغيره يكون حقيقة يحتاج للتغيير، فليس ما يكفُره الكل يُحظر عنك الإيمان به، فالمؤمن في مجتمع وثني يري نفسه كافرًا بإيمان بيئته؛ فيظن شريطة العيش هنا التحول مثلهم.
وكم نفوس تتغير من أطيب إلى خبيث تحسب هكذا تستطيع التعايش مع بيئتها الوثنية، فتتجرد من طهرها؛ والتغيير هكذا نقمة لا نعمة. وكم نفوس غيرت طبيعتها وخلعت عليها رداءً غير لها تنازلًا عن إيمانها كي تستطيع الغرق وسط زمرة المجتمع الفاسدة. فإذا أنت تكذب كما الكاذب، وتخدع كما المخادع، وتنافق كما المنافق، فسوف تبصر نفسك كاذبًا مخادعًا منافقًا.
لذا فالتبين من التغيير أهم من التغيير نفسه؛ فليس كله ارتقاء ربما يكون هلاكًا.يقول -تعالى- ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) إنْ جائكم داعي التغيير فقفوا عليه وتبينوا كنهه قبل الشروع فيه، وإلا نفعل ذلك تتغير قلوبنا ومواضع سيوفنا بجهالة فنحن نادمين.

التأمل قبل التغيير

فالتغيير يتطلب التأمل والتبين، ففي التأمل وعلى الميزان المبين، نحفظ نفوسنا من التيه أو الهلاك بسبب مناخ الزمن والأحداث. أما التغيير نفسه فيأتي بالتروي والتجزئة والتطويع والمعايشة والأخذ بالصبر والمثابرة، فالنفس فينا تأبى التقلب بين أمر اعتادته وأمر غريب في سهولة وسرعة.
وهنا فلسفة الإسلام بالتغيير؛ فلسفة اعتبرت الدين متينا، ليس التعمق فيه إلا تدرجًا تمهلًا، فلسفة رفعت مداومة جزيئات البر على التردد بين ضخامها. فالتغيير لا يكون دفعة واحدة، فالتغيير الشامل الذي يزعمه البعض، ذلك سريع الذوبان لا منه غير الضرر؛ لا منه غير الانتكاس يهوي بالنفس إلى أعمق من قبل؛ لا منه غير إرضاء الضمائر وفتور العزائم؛ لا غير غربة النفس.
فالفطنة هي التغيير دون إشعار النفس؛ يكون ذلك بسيطًا هادئًا لا يوقظ وحش النفس ولا ينبهه. كأن نعامل النفس كالرضيع يُفطم على درجات، فلا تجلد نفسك فتشاقها، فما يحُمل كله إن سقط يضيع جله. ثم أن تُجزئ حملك فتروح وتأتي به في الطريق جزءًا خلف جزء هو خير، أم تحمِله كله فتهوي في منتصف الطريق خير؟
الأولى لا الخير فقط عبورك الطريق كله، بل أنَّك عهدته فتقطعه ما شئت تغير، ترشد غيرك وتمسك بيد تائه فيه؛ هنالك الفلاح. فالتغيير يكون كما الإسلام في فلسفة أحكامه؛ متجزئا بسيطا مؤثرا، يبدأ بتخلية التربة من آفاتها، ثم غرس بذور الصلاح فيها.

التخلية والتحلية

وهكذا التغيير للعارفين على درجتين:-التخلية ثم -التحلية وعن التخلية فهي التطهير والإصلاح لتلك التربة. هي تخليص النفس من مساوئ أفكارها ومعتقداتها، وإرجاعها على فطرتها صافيةً، وهكذا في تروٍ انتشال فكرة تلو أخرى حتى التطهير. وإذا عزمت التخلية، فاعلم إن تكُ نفسك فيها ما فيها من الآفات، فأنت تحوي روحك لا يضرها من الآفات ضار.
ومتى أدركت نورانية روحك تستحيل العقبات التي تحول بين التطهير إلي زيادة في العزم واليقين، بعد أنْ وُضعن تمنعك إتيان الصفاء، حينها تدرك أن العقبات لوسائل تُعين على الغاية، فتقود نفسك على السبيل القويم، وتقودك روحك على الفطرة السليمة؛ محلقين لغاية الصفاء.
لذا سر رفقة روحك ستجد من نفسك صفاءً لم تعهده قبلًا. قد انطوى في نفسك العالم المشبع بالآفات، مبتغيا طمر فطرتها، لكن نورانية الروح لا طامس لها، فأين الآفات الدنيوية من الروح الإلٰهية. تمامًا كالسماء انطوت على راكب البحر يموج خائفًا من السماء، لكن ما أبعده الأحمق عن السماء، وما أقربه الغافل من رب السماء.
أنصت.. هي السماء تقول لا تخف، ليكن خوفك من رب السماء؛ لا تُهدر نفسك تخشى انتزاع آفاتك، سدد الطَّاقة لانتشال الجذور العاطبة. حتى يحصل التطهير؛ كذلك نصف الطريق. لكنه التغيير طريق لا بد أن يُؤتي كله، فإنْ قنعنا بما قطعناه كرت الآفات، فالنفس إن لم تتعدها بالإصلاح تعهدتك بالطلاح.

سبيل التحلية

وسبيل التحلية هو نفسه للتخلية؛ تدرج الزراعة فلا أنت ترهق التربة ولا زارعها. نعم قد طُهرت نفسك وهُيئت للزراعة، لكنك ستصيب العقبات هنا أيضًا. لكن بالتخلية ستشعر الله يعينك بطبيعتين: طبيعة التوكل إصرارًا على الثبات. والأخرى اليقين يملأ عليك قلبك، كأنما ترى كل ما آمنت جليًا أمام ناظريك.
تروح بأفكارك عبر القرون والعصور تدرك أنَّ ما رُزقت من الرغبة في التغيير وما بلغته من تخليةٍ ثم هنا تحلية؛ هبة من الله أوثرت بها على النمروذ وفرعون وقارون وقوم لوط وعاد ونوح؛ على كل من أبى التغيير فكان للهلاك. تدرك أن لا بد إصابة العقبات فتشعر قيمة الغاية وما بذلت وتبذل، فتتحلى بقوةٍ غير قوتنا نحن.
قوة تملأ قلبك فينسلت منه خيط ويتنزل عليه من السكينة الإلٰهية خيط فيلتقيان، فيجذب خيط قلبك خيط السكينة يحيط بها نفسك. فتضحي تلك النفس تتحمل إلقاءً على رمالٍ حارقة رغبة في التغيير، تتحمل صخرًا على صدرها إصرارًا على التغيير، تتحمل شمسا تذيب الرصاص من فوقها ثباتًا على التغيير.
تلك قوة ارتضت «للصّديق» الشَّهادتين بالنفس المُشرقة، وسرت في نفس «بلال» حقَائق تَزيدُ وتتسعُ، وتشرق على ظلاله تضيقُ وتنحسِر، قوة بها أدْرك «ابن الخَطاب» أنَّ نفسه وإنْ ضاقت مطالعَها، فلم تضِق هي نفسه، لكن زوايا ظلِّه لها كرَّة .. فهي الضيقُة؛ لا عليًا ولا عثمان ولا عمر. وهؤلاء بالقوة تلك شعَاع هدَاية الإنسانية في فضَائلها وملامِح كمَالها النوريّ.
هم دليل تلك القوة وبرهان التغيير، فمِن النَّاس يصطفِيهم الله نُور هذه الإنسانيّة، يُضيئون يُرشدون ويأخذُون بالأيدي؛ ليكونُوا غِذاء تلك النُّفوس سكينة ورحمةً في استقَامة خَلجاتها وإشراق فضَائلها وسُمو غاياتها. ثم تصيب القوة، حينها أدركت الرشاد، تنظر لما خلَّفت منْ الدنيا؛ فلا تجدها شيئًا يجذبك -على إغرائه- لا ترى غير سبيلك.
تمضي قُدمًا لا تلتفت ولا تتردد؛ لا كلل ولا ملل، فهذه هي حقيقة الثبات وحقيقة الإصرار وحقيقة الصبر جميعًا. لذلك فالتغيير السليم عمل مخطط من لدن حكيم عليم، مبتغى مرتضى ومقصود. مبتغى للنفس المثقلة بالآفات، مرتضى للنفس التائبة، ومقصودًا بالروح التي تُعمر جسد كليهما، تطهيرًا لها، سيرًا على طريق الهدى حتى غاية الرشاد. سفر يحتاج عازما عليه بالنية الخالصة والصبر التالد، مع الإصرار على المُضي قدمًا رغم وعيه بالمحبطات والملفتات.

صفات المؤمن

وهذه صفات المؤمن الذي ارتضي له ربه هدايةً؛ يصنع من الحقيقة التي لا مفر منها سلمًا فارتقاء؛ كما إخوانه سلفًا من المُخلَصين على المنهج السوي والفطرة النقية والروح السامية والتي تأبى إلا الرشاد. لذلك فالتغيير هو غاية الحياة، لأنه صفتها في حقيقة منها؛ أي التقلب الدائم. والتغيير للأسمى هو غاية الإسلام، لأنه صفته في حقيقة منه؛ أي الارتقاء بالنفس البشرية.
لذا تحويلًا للتحسر على ما قضى، فلتخبر قلبك أنَّ الحاضر ماضٍ أُتيحت الفرصة لأن تغيره فترتقي. وإنْ كان الماضي علمته والمستقبل لم، إذًا فلتستعض عن معرفة مستقبلك بمعرفة بارئ مستقبلك، فكل معرفةٍ هي علم إلا معرفة الله هي توكيل. ففوض إليه الأمر، وليكن تصويبك لما قد جهلت توكيلك لما قد عرفت .. قد بُلغت فاستقم.

فيديو مقال فلسفة التغيير في الإسلام 

أضف تعليقك هنا