هل تولد القوة من رحم المعاناة؟

ما قبل النهايات

قبل نحو عام مضى، فقدت آن البصر تماما في كلتا العينين، بعد أن كانت نصف عمياء منذ أن كان عمرها 18 عاما. ترقد آن على فراش المرض ممسكة بيد هيلين التلميذة، ورفيقة الدرب منذ 49 عاما، وتحدثها هيلين عن تلك الأيام، عن أول لقاء جمعهما، وكيف علّمتها لغة الإشارة باللمس، وكيف صبرت عليها، وتحملت نوبات غضبها المتكرر عندما كانت طفلة متمردة على كل شيء. لم تدرك هيلين أن صحة آن سوف تسوء، وربما يكون هذا الحديث بينهما هو الأخير، والحديث هنا عن النهايات، أما عن البدايات فهي لما هو آت.

الخروج من عنق الزجاجة

الخروج من عنق زجاجه، ثم الدخول في زجاجة أخرى، هذا هو حال عائلة آن الفقيرة، التي هاجرت من ايرلندا إلى الولايات المتحدة؛ أملاً في أن تكون الحياة أفضل مما كانت، أو اقل سوءاً في أسوء تقدير. ولكن الأمور لم تسرِ على ما يرام، فالأم عانت كثيراً من المرض، وكان أشدها فتكاً، مرض السل الذي أنهى حياتها.

أما عن الأب، فقد كان مدمن كحول، ولم يكن يملك أي حرفة ليكسب منها لقمة عيش. وهنا أترك لمخيلة القارئ أن تصنع صورة لمحيط تلك الفتاة، البالغة من العمر سبع سنوات، التي أصيبت أيضاً بمرض التراخوما(العين البكتيرية) وأصبحت شبه عمياء. في نهاية المطاف وبعد أن توفت والدتها، تخلى عنها الأب، وانتهى بها الحال هي وشقيقها الأصغر، داخل بيت الفقراء. عانى شقيقها من المرض، و فارق الحياة بعد ثلاثة أشهر فقط، أما آن فقد بقيت داخل هذا البيت المكتظ بالسكان لأربع سنوات.

نقطة التحوّل

تأتي الصدفة بمسئولٍ يزور بيت الفقراء ويرى حال تلك الفتاه، فيقرر نقلها إلى مدرسة خاصة بالمكفوفين (مؤسسة بيركنز) ومن هنا كانت بداية خروج آن من سجنها. أخذت في تعلّم الأبجدية بنظام بريل للمكفوفين. خضعت آن لعمليات جراحية كثيرة، وتحسن بصرها قليلا، ولكن إهمال علاجها منذ إصابتها في السابعة من عمرها، كان له اثر سلبي في تحسنها. وبعد ستِ سنوات تخرجت آن من المدرسة، وأصبحت هي المعلمة.

هناك على الجانب الآخر، الصدفة الأخرى الّتي تنتظر آن، فقد أشار أحد الأطباء وهو بالمناسبة ألكسندر جراهام بل، باقتراحٍ على أسرة هيلين بالكتابة إلى مدرسة المكفوفين التابعة لمؤسسة بيركنز، للبحث عن معلمة لأبنتهم. ثم جاء الرد من المدرسة، ورشحوا لهذه المهمة المعلمة آن. وكأن بالصدفة تنطق مناديتاً آن أنها المنقذةُ لتلك الفتاه، التي فقدت حاسة السمع والبصر، وأصبحت تصرفاتها غريبة، وأصبحت فتاة متمرده، عجزت أسرتها في التواصل معها، وتهذيب سلوكها العنيف.

دُعيت آن إلى بيت أسرة هيلين، ثم كان أول لقاء بينهما، الّذي تصفه التلميذة هيلين، بأنه أهم يوم في حياتها. خصصت أسرة هيلين مكاناً مناسباً للمعلمة داخل البيت، ومن هنا بدأت التلميذة، الّتي وصفت نفسها، كراكب في سفينةٍ تائهة وسط الضباب، ثم ظهر المنقذ الّذي قاد السفينة إلى الشاطئ بسلام.

المعلمة والتلميذة

إن مهمة تعليمِ ورعاية طفلة كهيلين، في ظل ما تعانيه، لهو أمر غاية في الصعوبة. وأتخيل ما عانته المعلمة في تعليم وتهذيب سلوك هيلين، كان صداماً أحياناً، ورقةً وعطفاً أحياناً أخرى، القسوة واللين. كان لأسلوب آن أثر مبهر في تهذيب سلوك هيلين. كانت دائما تأخذها إلى الخارج، تجالسها وتحكي الحكايات، تهجت على أصابعها ” احبك ياهيلين” فسألت هيلين معلمتها عن الحب فأجابت آن: الحب مثل السحب الّتي كانت في السماء قبل أن تسطع الشمس، إنكِ ياهيلين لاتستطيعين أن تلمسي السحب، ولكنك تشعرين بالمطر، وتعرفين كم تكون الأرض العطشى سعيدة حين يصل إليها ماء المطر بعد يوم حار.

وأنتي لا يمكنك كذالك أن تلمسي الحب، لكنك تعرفين المشاعر الحلوة الّتي يبثها في كل شيء، فبدون المشاعر الطيبة لن تكوني سعيدة، أو تكون لكي رغبة في اللعب. رافقت آن تلميذتها إلى كل محاضرة، حتى أنها كانت تخرج معها في كل مظاهرة للاشتراكيين. كان يوم حصول هيلين على “لسانس الآداب” انتصاراً لتلك المعلمة العظيمة، قبل أن يكون انتصاراً لهيلين كأول كفيفة تحصل على هذه الشهادة.

ليس بالضرورة أن يكون القادم أجمل!

بعد زواج دام قرابة التسع سنوات كان اقرب لحلم، ورُغم أنها كانت تشعر بأن الزواج لن يستمر طويلا؛ لأنه بدأ بالتفكك، ومع ذالك ترك الانفصال أثراً موجعا في حياتها. وهنا يأتي دور التلميذة هيلين، الّتي أحاطتها بذراعيها، وتحاول مواساة معلمتها، فأمسكت بيدها وتهجت على أصابعها “هذه ليست النهاية والحب سيبقى احبك يا آن” فردت آن: هل عرفتِ الآن ما هو الحب؟ أجابت هيلين السؤال بسؤال آخر: وهل سترافقينني إلى الحفل؟ وشيء آخر مهم بالنسبة لي، أنا بحاجتكِ لتساعدينني في كتابي الجديد، وهناك شيء آخر أيضا، أنتي لم تذهبي لمدرسة المكفوفين منذ فترة طويلة وتعلمين حاجتهم إليك في جمع التبرعات، لديك يا آن أعمال مؤجله كثيرة. أصرت هيلين على معلمتها بأن ترافقها، وهي تريد بذالك إخراجها من تلك الحالة الّتي انتابتها بعد انفصالها.

صانعة المعجزات

وبعد آخر حديث جمعهما، دخلت آن في غيبوبة كاملة، وبعد خمسة أيام تركت آن هذه الحياة، ودفنت في كاتدرائية واشنطن الوطنية. لا أجد وصفاً لهذه المعلمة سوى ما قالته تلميذتها عنها ” معلمتي الّتي حررت روحي وأطلقتها من سجنها”. لم تترك آن وراءها محاضرات، وتبرعات، و عروض مسرحية فحسب، بل تركت ما هو أعظم من ذالك كله، تركت وراءها تلك التلميذة النابغة، الّتي الّفت قصة قصيرة عنها، وتجسدت حياة هذه المعلمة في فيلم “صانعة المعجزات”.

عندما تركت هيلين هذه الحياة دُفنت بجانب رفيقة دربها العظيمة آن. فالفضل كل الفضل، لتلك المعلمة آن سوليفان، الّتي ولِدت من رحم المعاناة، صانعة المعجزة، الّتي صنعت من طفلة متمرده، أديبةً استثنائية، ولولا تلك المعلمة، لما كانت تلك التلميذة هيلين كيلر الّتي نعرفها. إن التصوّر في أن المعاناة هي مجرد عنق زجاجه، وبمجرد أن تخرج منه سوف تصبح الأمور على ما يرام، لهو مجرد تبسيط للأمور، ونظرة ناقصة في فهم هذه الحياة، لأن كل معاناةٍ ربما تكون مجرد تدريب لما هو قادم، وأن الأصعب ينتظرك في المستقبل.

ليس بالضرورة أن تولد القوه من رحم المعاناة، ماذا لو استمرت المعاناة إلى نهاية العمر؟ إن قدرة الإنسان على تحمل المعاناة الواحدة تلو الأخرى، والخروج منها أقوى من ذي قبل، تختلف من شخص لآخر، ثم إن منظور كل شخص يختلف عن الآخر في تصور المعاناة وشدتها. هناك عظماء، اكتسبوا القوه سواءً من تجاربهم أو بفضل احد ما، ليخرجوا من سجون أجسادهم اقوى مما كانوا عليه ولم يستسلموا.

فيديو مقال هل تولد القوة من رحم المعاناة؟

 

أضف تعليقك هنا